بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ملخص ما تقدم
كان البحث عن انه يمكن تكليف القاطع بالعجز وان القاطع بالخلاف أيضاً يمكن تكليفه بالاحكام الواقعية لما مضى من الأدلة الأربعة، وذكرنا جملة من الإشكالات يمكن ان يشكل بها على هذا الرأي، وقد استشكل بها الأصوليون وقد مضى الاشكال الأول مع أجوبته واما الاشكال الثاني وهو اشكال اللغوية فقد اجبنا عنه بأجوبة ستة، كما دمجنا مع الجواب السادس الجواب السابع، وكان اجمالهما انه لا تتوقف صحة (الأمر) على ايجاد الداعي في نفس المكلف بل الامر (صحيح) فيما لو كان ذلك الامر بداعي الزام المكلف قسرا وان لم يوجِد فيه الداعي ولم يشأ الامتثال، هذا الوجه السادس، اما الوجه السابع فهو ان الأمر يصححه ان يكون بداعي الزام غيره لألزامه اي بداعي ايجاد الداعي في الغير ليلزمه.
1- التحليل العلمي للوجه السابع
واما التحليل العلمي للوجه السادس والسابع فهو يعتمد على تحليل حقيقة التكليف، سواءا اكان بالوجوب أم بالحرمة وسواءا اكان في التكليفيات ام في الوضعيات
فنقول:التكليف يقابل الانشاء تقابل السبب والمسبَّب فاذا عرفنا الانشاء ظهر منه تعريف المُنشَأ الذي هو التكليف، والرأيان المشهوران في الانشاء هما:
1- الانشاء ايجاد لاعتبار في عالمه، بموجِدٍ
الرأي الاول: وهو المنصور هو ان الانشاء ايجاد لاعتبار شرعي او عقلائي في عالمِهِ بمبرز، أو موجِدٍ وذلك مثل اعتبار الملكية او الزوجية في عالم الاعتباريات فانه يحتاج إلى سبب اي موجد، وكذلك الوجوب فانه اعتبارً لإلزامٍ يوضع في عهدة العبد، فالمولى اوجد هذا الاعتبار اي اعتبار الالزام في عهدة العبد في عالم الاعتباريات لكن بموجد من لفظ او اشارة او غير ذلك.
2- الانشاء ابراز لاعتبار نفساني
الرأي الثاني: وهو في مقابل الرأي الاول: الانشاء هو ابراز اعتبار نفساني .
والفرق بينهما: ان الرأي الثاني يقول بوجود اعتبار قائم في النفس مثل اعتبار ملكية زيد لما حازَهُ او اعتبار زوجية هذه لهذا، فاذا ابرزه بقوله بعتك في البيع او بالحيازة الخارجية فاذا ابرزه فهو انشاء، اذن الانشاء هنا اعتبار نفساني وصل إلى مرتبة الاظهار والإبراز، اما الرأي الاول فهو يرى ان الاعتبار النفساني إنما هو داعٍ للانشاء وليس جزء حقيقة الانشاء، فلأن هناك اعتباراً نفسانياً في داخلي لالزامك او لجعل هذا مملوكا لذاك، لذلك اوجِدُ باللفظ اعتبارا في عالم الاعتباريات، هذا هو الرأي المنصور والمحاكمة بين الرأيين تترك لمحلها.
فاذا ظهر ان الانشاء هو ذلك فقد ظهر حال التكليف لأنه المنشأ بهذا الانشاء، وعلى هذا يكون تعريف التكليف على الرأي الاول هو الاعتبار الموجَد باللفظ او بالاشارة، وعلى الرأي الثاني فهو الاعتبار النفساني المبرز،
فالمنشأ الذي هو الملكية يكون هو اعتباراً مبرزاً او اعتباراً موجداً، اذن هذه هي المقدمة الاولى وهي تحليل حقيقة التكليف على الرأيين.
2- إنشاء الاعتبار لأغراض شتى
المقدمة الثانية ان هذا الاعتبار انما ينشأ و يبرز او يوجد لاغراض شتى منها ايجاد الداعي في نفس المكلف لكي ينبعث او ينزجر، ومنها داعي اخر وهو الزامه قسرا بان يفعل وان لم يتولد فيه الداعي، لأن الغرض كثيرا ما يتحقق حتى بالالزام القسري وذلك في مطلق التوصليات، اما التعبديات فلا يمكن في صورة القسر قصد القربة فلا يمكن ايجاد الفعل العبادي وامتثاله بالقسر ،
والحاصل: ان الامر مما يصححه الزام المكلف بالفعل قسرا وان لم يوجِد فيه الداعي الطوعي للانقياد، كما يصححه الزام غيره بالزامه
وتوضيح ذلك بمثالين فقهيين: أحدهما: لو رمى شخص طائراً فاصاب خطأً انسانا فقتله فان الضمان على العاقلة لأنه خطأ محض باعتبار انه كان قاطعا بانه لا يصيب انسانا، ولذا يكون الضمان على العاقلة، والضمان ينطبق عليه تعريفنا السابق وهو اعتبار موجَد باسبابه او اعتبار مبرَز باسبابه، وهذا الاعتبار يوضع في عهدة العاقلة، سواءاً اكان المكلف قاطعا بانه لا ضمان عليه ولا عليهم ام لم يكن، وسواءا اكانت العاقلة قاطعة بان لا ضمان عليهم ام لا، فلا فرق في ذلك فالضمان يجعل في عهدتهم قسرا، هذا مثال الزام الغير
ضمان الضئر أو العاقلة لو انقلبت على الطفل
ثانيهما: مثال فقهي لطيف يتشعب ليشمل كلتا الناحيتين وهو مثال الظئر لو انقلبت على رضيعها والمفروض قطعها او اطمئنانها عادة بانها لا تنقلب عليه، فلو انقلبت عليه فمات الطفل فهنا الأقوال ثلاثة:
القول الاول: ضمانها الدية مطلقا.
القول الثاني:ضمان العاقلة مطلقا.
القول الثالث: وهو المشهور استنادا إلى رواية معتبرة رواها في الكافي والفقيه عن محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه الصلاة والسلام وقد ذهب اليها جمع كثير من الفقهاء بل ذكر المحقق في (النكت) شهرتها وكذا قال مفتاح الكرامة، على ما نقله عنها في الفقه كتاب الديات ج90 ص136 والتفصيل بين ما لو كانت الضئر قد اخذت الطفل للفخر والمباهات كما لو كان من عشيرة معروفة او اسرة معروفة فعليها الضمان، ولو انها اخذته لحاجتها للمال او للارضاع او لحاجة الطفل للرضاع فالضمان يكون على العاقلة، وهذا التفصيل على خلاف القاعدة لأن هذه المرأة في مفروض الكلام كان قتلها للطفل من مصاديق الخطأ المحض فينبغي ان تكون الدية على العاقلة مطلقا، لكن الدليل الخاص وهو الرواية قيد الإطلاق فصرنا للتفصيل، وهاتان الصورتان الفقهيتان تصلحان مثالا لصورتنا السادسة والسابعة لالزمها قسرا وتضمينها قسرا فيما لو اخذته فخرا او لالزام العاقلة قسرا فيما لو اخذته للحاجة، وان قطعت هي والعاقلة بان لا ضمان. والحاصل: ان قطعها او قطع العاقلة (على فرضه) بان لا ضمان شرعاً لا يلغي الحكم الشرعي بتضمينها او تضمينهم، وقد اتضح تحليل ذلك: ان الضمان اعتبار منشأ يجعل بعهدة المكلف وهذا الاعتبار المنشأ المجعول بعهدة المكلف لا فرق فيه بين ان يوجد بداعي ايجاد الداعي للعبد للامتثال وبين ان يوجد بداعي الزامه قسرا بالامتثال او بداعي ايجاد الداعي للغير ليقسره او ليحمله على الامتثال فان الغرض والمصلحة الثبوتية في التوصليات تتحقق بكل ذلك.
سيرة العقلاء على شمول الاحكام الوضعية للقاطع بالخلاف
وسيرة العقلاء وبناؤهم على ذلك، فان الملاحظ في كل الحكومات وكل الدول والاعراف: ان الاحكام الوضعية بالذات تجعل حتى في عهدة القاطع بالخلاف كالضرائب وغيرها ، فان بناء العقلاء في مختلف ابواب الضمانات على ان قطع الطرف، اي المكلف اي المواطن اي العبد، بخلاف الحكم المشرَّع من الهيئة ذات الصلاحية شرعية كانت ام وضعية، بناؤهم ان الاحكام الوضعية غير منوطة بقطعه بالوفاق او ظنه بالوفاق او شكه او ظنه بالخلاف او قطعه بالخلاف، ففي هذه الصور الخمس الاعتبار ثابت في عهدة المكلف، والأمر في بعض الاحكام التكليفية كذلك مثل الدين فان المدين لو قطع بان لا دين في ذمته فانه يصح تكليفه بتسديد الدين لا لغرض ايجاد الداعي فيه لتسديد الدين بل لغرض تصحيح اخذ الغير من ماله تقاصا او قسرا، هذا الوجه السادس والسابع، وهذا الوجه سيال في الفقه من اوله إلى اخره وسيال في الاعراف والمجتمعات فهو باب تفتح منه ابواب عديدة فليتدبر فيه .
8- اندفاع اللغوية بالباعثية الشأنية والاقتضائية
الجواب الثامن عن اللغوية: ان اللغوية تندفع ايضا بالالتزام بالباعثية الاقتضائية او بتعبير اخر الباعثية الشأنية، فان القاطع لا يمكن في حقه الباعثية الفعلية لأنه قاطع بالخلاف فحيث لا يمكن انبعاثه فعلا، لا يمكن بعثه فعلا، لأن هذين متقابلان ووزانهما وزان واحد لأنهما من مقولة الفعل والانفعال وكذا مقولة المتضايفين، فلو كان احدهما بالفعل فلا يعقل ان يكون الاخر بالقوة ولو كان بالقوة لكان الاخر بالقوة ايضا، فاذا لم يمكن الانبعاث فعلا فلا يمكن البعث فعلا، فنقول هذا القاطع بالخلاف سلمنا تنزلا انه لا يمكن انبعاثه فعلا وبالتالي لا يمكن بعثه اي انشاء الامر في حقه فعلا، لكن يمكن انبعاثه شأنا فيمكن بعثه شأنا، وكفى بالشأنية اي الاقتضاء مصحِّحا، وهذا جواب دقيق وسيال في ابواب عديدة
كما ان بناء الشرع والعقلاء والعرف عليه، فانهم يضعون القوانين في المعرضية بنشرها في الصحف، وذلك لاجل لان يطلّع عليها المواطنون وقد لا يطالعها بعضهم فان لم يطالعها فالعهدة عليه إذ قد الزم بها بمجرد جعلها في المتناول وكذلك القران الكريم والكتب البرهانية على صحة الدين فانه يكفي ان تجعل في المتناول فان لها شأنية واقتضاء الالزام وذلك كاف ومصحح للاحتجاج.
والحاصل: ان القاطع بالعجز أو بالخلاف، وان لم يمكن في حقه فعلية الانبعاث لكن شأنية الانبعاث موجودة لأن الفرض ان القاطع بالعجز لم يكن عاجزا ثبوتا ولأن الفرض ان القاطع بالخلاف مخالف للواقع وله الحرية والاختيار لو اطلع، اذن يكفي ان يكون له شأنية وان تكون هناك معرضية وان يكون هناك اقتضاء، مصحِّحا.
وبذلك ظهر الجواب عن اشكال ضمني، والاشكال المقدر هو ان الشأنية والاقتضاء وان صحا الا انهما لا يدفعان اللغوية بخصوص تكليف شخصِ هذا المكلف القاطع بالخلاف، فقد ظهر الجواب وان الشأنية هي ان يجعل الامر والتكليف في المعرض بحيث لو زال قطعه لأمكن ان ينبعث وهذا يكفي مصححا عقلائيا لتوجيه التكليف له
الحكمة في التشريع بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية
توضيح ذلك: ان الشارع وسائر الموالي لا يتيسّر له التكليف غالباً بنحو القضية الخارجية: بان يلاحظ هذا الشخص وانه شاك فيخاطبه ويوجه له التكليف ثم يلاحظ ذاك الاخر وانه قاطع بالخلاف فلا يوجه له التكليف ثم ينتظر ويلاحظ حالة المكلف فاذا رأى انقلاب قطعه يخاطبه، وهكذا يلاحظ المكلفين واحداً واحداً.. ان ذلك متعسر عادة إن لم يكن متعذراً ولذا نجد ان العقلاء في التشريع عادة ينحون نحو القضية الحقيقة لا الخارجية لأن القضية الخارجية فيها مؤنة زائدة فاذا كانت القضية حقيقية فهي قضية شأنية تكفيها المَعرضية، فالقضية شُرِّعت ووضع الحكم على موضوعه الحقيقي فشمل هذا القاطع، والفائدة من شمولها له انه لو زال قطعه لتنجز هذا الحكم في حقه من غير حاجة إلى توجيه خطاب جديد له وتكليفه، ولو قلنا ان الخطاب غير شامل للقاطع بالخلاف للزم ان تكون القضايا خارجية ويتوقف ذلك على ان يجعل الشارع لكل شخص بابا ويفتح له خطابا وذلك ليس بعقلائي وليس بمعقول فليتدبر.
وسيأتي ذكر وجهين آخرين عن هذه الشبهة حتى تكمل عشرة وجوه، ثم نذكر تفريق دقيقاً في المقام بين القضية الحقيقية والخارجية حتى نعرف تكليفنا بالنسبة للقاطعين بالخلاف ما هو؟ لأن محور كلامنا هو حول الاجتهاد في أصول الدين وانه هل يمكن تكليف القاطع بالخلاف بالنظر؟ فتارة نبحث على ضوء القضية الحقيقة كما بحثنا حتى الآن وأخرى ننتقل إلى القضية الخارجية: المشرّع أو الحاكم أو المعلّم أو الفقيه مع هذا القاطع بالخلاف فما الذي يصنعه به وله؟
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين |