بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(93)
الاحتمالات الأربعة في صحيحة زرارة
سبق: (1- أما احتمال أن تكون الشبهة مصداقية، فواضح البطلان، إذ لم يشك زرارة في حدوث الخفقة، بل علم بحدوثها، وإنما شك انه نام أو لا، ولم يشك انه نام أم لا للشك في أمر خارجي بل للشك في حقيقة الخفقة ما هي وما هي نسبتها مع النوم، إضافة إلى أنّ احتمال الشبهة المصداقية لا ينسجم مع جواب الإمام (عليه السلام) حيث بيّن الإمام (عليه السلام) القاعدة بنحو القضية الحقيقية، وهي لا تقع جواباً عن اشتباه الأمور الخارجية.
2- أن تكون مفهومية، كما أسلفنا، وستأتي مؤكدات لها.
3- أن تكون حكمية بمعنى انّ زرارة سلّم صدق النوم على الخفقة، لكنه شك أنّ كل نوم (حتى الخفيف – الذي سمي بالخفقة) مبطل أم لا، وهذا ما استظهره بعض الأفاضل، ونستبعده كما سيأتي.
4- أن تكون حكمية بمعنى أن زرارة سلّم أن الخفقة ليست نوماً لكنه احتمل أن تكون الخفقة نظير البول وخروج الريح ناقضاً مستقلاً للوضوء، لكنه خلاف ظاهر الرواية، وسيأتي تحقيق ذلك كله بإذن الله تعالى)[1].
الوجه في نفي الاحتمال الأول والرابع
ويضاف إلى وجوه نفي الاحتمال الأول: انه ليس، على المشهور، شأن الإمام (عليه السلام) أن يُسأل عن اشتباه الأمور الخارجية ولا أن يجيب عنها، كما إنه كيف يكون جواباً عن الاشتباه في الأمر الخارجي مع أن هذا الجواب لم يرفع عنه غشاوة إن كان المقصود رفعها عنه.
وأما الاحتمال الرابع فينفيه ظاهر سؤال زرارة؛ وإلا لما ذكر النوم تمهيداً لسؤاله عن الخفقة، بعبارة أخرى: إنّ ظاهر ذكره النوم ثم الخفقة أنّ هنالك نحوَ ارتباطٍ بينهما هو الذي أوجب اللَّبس في الخفقة موضوعاً أو حكماً.
بعبارة أخرى: لو كان ناقضاً مستقلاً تماماً عن النوم لكان من غير المستحسن أدبياً أن يذكر النوم قبله، فإنه يكون كما لو ذكر قبله بقية النواقض كأن يقول: (الرجل يبول وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه النوم) فإنه قبيح.
ويؤكد ما ذكرناه انه لم يقل أحد من الشيعة ولا من السنة بأنّ الخفقة ناقض مستقل بل من جعلها ناقضاً، كبعض العامة، اعتبرها نوعاً من النوم.
ومع انتفاء الاحتمال الأول والرابع يبقى الاحتمالان الثاني والثالث.
وجوه ترجيح الاحتمال الثاني على الثالث
والاحتمال الثالث وإن كان ذا وجه؛ لأنّ زرارة قدّم ذكر النوم فكأنّه افترض الخفقة معلوماً كونُها نوماً إلا أن الشك وقع في حكمها انها مبطلة أم لا، ووجه الشك كونها نوماً خفيفاً فهل هو مبطل كالنوم الثقيل أم لا؟
لكنّ الذي يرجح الاحتمال الثاني: عمومية الشبهة وعمومية الابتلاء بالشك في حقيقة الخفقة أو الاختلاف فيها لدى العرف العام والخاص واللغويين وغيرهم، وقد سبق نقل كلمات بعض اللغويين في ذلك، والعرف ببابك أيضاً فجرّبوا بأنفسكم واسألوا عشرة من الناس، من تاجر وبقال وطالب وأخ وزوجة... إلخ، وستجدون الاختلاف الكبير إذ يقول بعضهم الخفقة نوم، ويقول بعضهم لا بل هي سابقة على النوم، ويتحير بعضهم في حقيقتها، وقد يجيب بعضهم بالتفصيل بين اليسير منها والشديد.
ومع وجود هذا الاضطراب والاختلاف في حقيقتها فمن الطبيعي بل واللازم أن يسأل زرارة عن حقيقتها وانها نوم لتكون ناقضاً أو لا فلا.
بل نقول: إنّ ظاهر كلام الإمام (عليه السلام) أنّ سؤال زرارة كان للشك في الموضوع، ودليله ان الإمام (عليه السلام) تصدى لتنقيح حال الموضوع وفصّل فيه «فَقَالَ: يَا زُرَارَةُ قَدْ تَنَامُ الْعَيْنُ...» ولو كان سؤال زرارة عن المحمول والحكم أي عن البطلان بعد تسليمه أن الخفقة منام، لكان الأبلغ إن لم يكن الأصح، أن يجيبه الإمام (عليه السلام) بكلمة واحدة هي (لا) أي لا توجب البطلان، لا أن يفصّل الكلام عن أن نوم العين كذا ونوم العين والأذن والقلب كذا.
بعبارة أخرى: لو اقتصرنا على ظاهر سؤال زرارة الحكمي، كما افترضه الاحتمال الثالث، إذ قال: «أَتُوجِبُ الْخَفْقَةُ وَالْخَفْقَتَانِ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ؟» لوجب أن يجيب الإمام: كلا، لا توجبه.
لا يقال: كيف يخفى على زرارة وهو من أهل العرف معنى الخفقة؟
إذ يقال: لم يَخْفَ عليه معناها إذ الكل يعرف معناها والمراد بها (المعبر عنه بالفارسية بـ چرت زدن)، بل خفي عليه كنهها وحقيقة ارتباطها بالنوم وانها نوم من النوم الخفيف أو لا، ولذا حلّل الإمام (عليه السلام) حقيقة الأمر إذ اتضح لنا بجوابه (عليه السلام) أنّه يجب أن ندرس حالة العين والأذن (والقلب) فإذا وجدناه نام عينه فقط فهي خفقة وليست نوماً وأما إذا نامت كلها فهي خفقة ونوم.
وجهان لدلالة الصحيحة على الاستصحاب في الشبهة المفهومية
لا يقال: أي ربط لصدر سؤال زرارة بالاستصحاب؟
إذ يقال: أولاً: الظاهر أن الإمام (عليه السلام) أعطى زرارة إضافة إلى تنقيح الموضوع، ضابطَ الاستصحاب، بيانه: ان الإمام (عليه السلام) بدأ بـ «قَدْ» وقد إذا دخلت على الفعل المضارع أفادت الاحتمال (والتقليل أحياناً) عكس ما لو دخلت على الفعل الماضي فتفيد التحقيق حينئذٍ، ثم ذكر «فَإِذَا نَامَتِ...» وهذا الكلام بمجمله يستبطن بيان حكم ثلاثة صور منطوقاً ومفهوماً، لا صورتين فقط:
الأولى: إذا علم انه نامت عينه فقط، وهنا لا يجب الوضوء حسب كلامه (عليه السلام) بوضوح.
الثانية: إذا علم انه نامت الثلاثة، وهنا يجب الوضوء بوضوح.
الثالثة: وهي المستفادة من مفهوم الكلام: انه إن لم يعلم بأي منهما فيبني على الحالة السابقة حيث انه المتفاهم عرفاً من حصره (عليه السلام) وجوب الوضوء بنوم الثلاثة ثبوتاً والذي إنما يتنجز إثباتاً لو علم به أو قام عليه علمي، وإلا فلا يجب عليه، فكلما لم يعلم بقي على حالته السابقة.
والحاصل: انّ «فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنُ...» إما كناية عن إذا علمتَ بنوم العين... أو المراد (إذا نامت وعلمت به) بقرينة (عليه) المذكورة في سؤال زرارة فإن (وجب عليه) ظاهر في تنجزه عليه وإن أمكن أن يراد به الثبوت الواقعي والفعلية دون التنجز[2] بل يكفي انه حكمه الواقعي فإن لم يعلم به فحكمه الظاهري بقاء الوضوء.
ويوضحه أكثر: ان الكلام لو لم يستبطن هذا المفهوم لما وفى جوابه (عليه السلام) بحيرة زرارة وسؤاله وشكه، ويؤكده انّ صورة إحراز الحالة الأولى والثانية (انه نامت عينه فقط.. أو نامت الثلاثة) هي الأقل إن لم تكن الأقل جداً وانّ المبتلى به أكثر، ويكفي كونه كثيراً جداً، هي الصورة الثالثة وعدم العلم بأنه ما الذي نام منه.
ثانياً: سلّمنا، لكن تكفي القاعدة العامة التي ذكرها الإمام (عليه السلام) في آخر الرواية نظراً لعمومها للشبهة المفهومية.
بعبارة أخرى: حتى لو افترضنا أنّ سؤال زرارة في آخر الرواية كان عن الشبهة المصداقية صِرفاً، وكان في صدر الرواية عن الشبهة الحكمية (عن البطلان) صِرفاً، فإنّ العبرة بعموم جواب الإمام (عليه السلام) إذ أعطى الضابط العام الذي لا يقيده المورد ولا السؤال فلاحظ قوله (عليه السلام): «وَلَا يَنْقُضُ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ، وَلَكِنْ يَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَرَ»، بل لاحظ حتى قوله: «لَا، حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ قَدْ نَامَ، حَتَّى يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ بَيِّنٌ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُضُوئِهِ» لصدق الضابط على الشبهة المفهومية كصدقها على الشبهة المصداقية والحكمية تماماً...
ولبداهة صدقه عليها جميعاً اضطر مَن نفى جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية إلى نفي تحقق الركن الثاني وهو الشك (كما فيما نقلناه عن السيد الخوئي قدس سره...) وإلا فمع تسليم وجود شك لاحق، كما أوضحنا وجوده بالوجدان في الجزئي مع وجود يقين سابق، فلا مناص من القول بجريان الاستصحاب وانطباق روايات الاستصحاب كلها على المفهومية.
والحاصل: انه مع تسليم وجود يقين سابق وشك لاحق في المفهومية، كما حققناه سابقاً، لا شك في شمول صحاح زرارة لها.
إلفات: ومما يؤكد بُعد الاحتمال الثالث أن السيد الخوئي في مصباح الأصول لم يذكر إلا الاحتمال الثاني (حسب ترتيبنا) والرابع قال: (وأمّا الثاني: فنقول قد ذكر فيها فقرتان:
الفقرة الاولى: هي قول الراوي: الرجل ينام إلخ... وهذا سؤال عن شبهة حكمية، وهي أنّ الخفقة والخفقتان توجب الوضوء أم لا، ووجه الشبهة أمران: الأوّل: هو الاشتباه المفهومي في النوم، بأن يكون الراوي لا يعلم أنّ النوم هل يشمل الخفقة والخفقتين أم لا، فيكون من قبيل الدوران بين الأقل والأكثر.
الثاني: احتمال كون الخفقة و الخفقتين ناقضاً للوضوء مستقلًا كسائر النواقض من دون أن يكون داخلًا في مفهوم النوم، و على كل حال أجابه الإمام (عليه السلام) بعدم انتقاض الوضوء بالخفقة و الخفقتين بقوله (عليه السلام): يا زرارة إلخ...)[3]
فأنت ترى انه لم يطرح الاحتمال الثالث أصلاً، وذلك إما لأنه لم يخطر بباله الشريف (فيدل على بُعد هذا الاحتمال عن الذهن[4] أو انه قد خطر لكنه استبعده جداً) ولا يخفى أن هذا مؤيد لا أكثر.
أقوال العامة الخمسة في ناقضية النوم
تنبيه: اختلف العامة في النوم أنه ناقض أم لا، على خمسة أقوال ولم يختلفوا في الخفقة بمعزل عن النوم[5]، أنّها مبطلة، فلاحظ أقوالهم أدناه: (وقد اختلف العلماء في النَّوم هل هو ناقضٌ للوضوء أم لا على أقوالٍ، منها:
القول الأول: أن النَّوم ناقضٌ مطلقاً يسيرُه وكثيره، وعلى أيِّ صفة كان، وهو قول إسحاق والمزني والحسن البصري وابن المنذر، لحديث صفوان بْنِ عَسَّالٍ المتقدم، فإنه ذكر النوم من نواقض الوضوء، ولم يقيده بحال معينة.
القول الثَّاني: أنَّ النَّوم ليس بناقضٍ مطلقاً لحديث أنس بن مالك: أن الصَّحابة (كانوا ينتظرون العِشاء على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسَلَّمَ حتى تخفِقَ رؤوسهم ثم يُصلُّون ولا يتوضؤون) رواه مسلم (376) وفي رواية البزَّار: (يضعون جنوبهم). وهو قول أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب.
وهذان القولان متقابلان، كلٌّ منهما قد أخذ بطرف من الأدلة، أما جمهور العلماء فقد جمعوا بين هذه الأدلة، فقالوا: إن النوم ينقض الوضوء في حالات معينة، ولا ينقض في أخرى، وإن كانوا اختلفوا في طريقة الجمع بين الأدلة.
القول الثالث: إن نام ممكنا مقعدته من الأرض لم ينتقض، وإن لم يكن ممكنا انتقض على أي هيئة كان، وهو المذهب عند الحنفية والشافعية. "المجموع" (2/14).
القول الرابع: أن النَّوم ناقضٌ للوضوء إلا النوم اليسير من القاعد والقائم، وهو المذهب عند الحنابلة. انظر: "الإنصاف" (2/20، 25). ووجه استثناء النوم اليسير من القاعد والقائم أن مخرج الحدث يكون مضموماً في هذه الحال فيغلب على الظن أنه لم يحدث.
وقال بعضهم وهو القول الخامس: ينقض كثير النوم بكل حال دون قليله، وهو قول مالك ورواية عن أحمد.
والفرق بين النوم الكثير والقليل: أن الكثير هو المستغرق الذي لا يشعر فيه الإنسان بالحدث لو أحدث، والقليل هو الذي يشعر فيه الإنسان بالحدث لو أحدث، كخروج الريح.
وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره من علمائنا المعاصرين الشيخ ابن باز وابن عثيمين وعلماء اللجنة الدائمة ـ وهو الصَّحيح ـ، وبهذا القول تجتمع الأدلَّة، فإن حديث صفوان بن عسَّال دلَّ على أنَّ النَّوم ناقض للوضوء، وحديث أنس دلَّ على أنه غيرُ ناقض، فيُحمل حديث أنس على النوم اليسير الذي يشعر الإنسان فيه بالحدث لو أحدث، ويُحمل حديثُ صفوان على النوم المستغرق الذي لا يشعر الإنسان فيه بالحدث.
ويؤيِّد هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: العين وِكَاء السَّهِ، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء رواه أحمد (4/97) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4148).)[6].
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الصَّبْرُ صَبْرَانِ: صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ حَسَنٌ جَمِيلٌ، وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرُ عِنْدَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ. وَالذِّكْرُ ذِكْرَانِ: ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ مَا حَرَّمَ عَلَيْكَ فَيَكُونُ حَاجِزاً» الكافي: ج2 ص90.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
__________________________
[1] الدرس (1112/92).
[2] وللتأمل فيه مجال.
[3] السيد محمد سرور الواعظ الحسيني، تقرير لأبحاث السيد أبو القاسم الخوئي، مكتبة الداوري قم: ج3 ص14.
[4] أي ذهن بعض الفقهاء.
[5] أي بمعزل عن كونها نوماً.
[6] https://islamqa.info.
|