• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الطهارة (1446هـ) .
              • الموضوع : 091- تحقيقٌ أنَّ الشبهةَ المفهوميةَ إنْ كان لها حالةٌ سابقةٌ جرى الاستصحاب، وإلا فلا، فهو كالمصداقية تماما .

091- تحقيقٌ أنَّ الشبهةَ المفهوميةَ إنْ كان لها حالةٌ سابقةٌ جرى الاستصحاب، وإلا فلا، فهو كالمصداقية تماما

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(91)


الملخَّص
سبق: (ويمكن أن يجاب بنحو آخر وهو أن المقام من قبيل استصحاب الكلي القسم الثاني وهو ما لو ترددنا في بقاء الكلي نظراً للتردد في أنّ الفرد الداخل مثلاً هل كان القصير، كالذباب والحدث الأصغر، أو الطويل، كالفيل والحدث الأكبر.
وفي المقام: نشك في بقاء الكلي (وهو النهار) نظراً للتردد في انّه حصل ضمن الصنف القصير (وذلك لو كان النهار موضوعاً لما ينتهي عند الغروب) أو انّه حصل ضمن الصنف الطويل (لو كان النهار موضوعاً لما يستمر إلى المغرب) فنستصحب النهار.
وفيه: انّه ليس من الكلي القسم الثاني، وذلك لأنّه على مبنى المضيّق أجنبي عن النهار وعلى مبنى الموسّع هو من النهار، فقد دار أمره بين الشيء وضده، والكلي القسم الثاني يدور أمره بين فرديه طويلاً أو قصيراً لا بين الشيء وضده)[1].
ولكن يوجد هنالك مخرج صغروي، كما لنا إشكال كبروي أساسي على دعوى عدم جريان الاستصحاب في الشبهات المفهومية الدائر أمرها ما بين السعة والضيق.


كيفية تصوير النهار ليكون من القسم الثاني للكلي
أما الصغرى: فإنّ النهار يمكن تصويره بحيث يكون من الكلي القسم الثاني، بأن يقال: لا شك في أنّ النهار من الحقائق التشكيكية ذات المراتب، فبعضها جليٌّ كونُها نهاراً وبعضها خفيٌّ إلى حد ما، فالأول كالصبح والضحى والظهر، والثاني كما فيما بين الطلوعين وما بين المغربين[2]، ولذا وقع الخلاف فيها فقال بعض بأنّ ما بين الطلوعين من النهار، وقال بعض تبعاً لروايةٍ بأنه لا هو من الليل ولا هو من النهار، وقالت الشيعة بأنّ النهار يمتد إلى المغرب وقالت العامة بانتهائه عند الغروب، كما قيل باختلاف العرف والشرع فيهما وقيل باختلاف اللغة والعرف فيهما.
ولعلّ السبب في ذلك أن النهار مأخوذ من النهر والنهر هو، كما في معجم مقاييس اللغة، (انفتاح الظلمة عن الضياء)، أو (النهار ضد الليل) كما عرّفه الجوهري وكما قال الازهري عن أبي الهيثم وهو (ضد الظلمة) كما عرّفه المنجد، وهو مُشير واشبه بشرح الاسم كما لا يخفى، او هو كما في مجمع البحرين (اسم لضوء واسع ممتد)[3]، وهي مفاهيم مشككة قابلة لأن يُختلف فيها وفي سعتها لما بين الطلوعين ولما بعد الغروب إلى المغرب وعدمه.
ومن الصحيح أنّ عدداً من اللغويين حدّده بالغروب لكنه اجتهاد في تطبيق ذلك المعنى الآنف، ولذا ذهب الخاصة طرأ، إلا ما ندر، إلى أن النهار يمتد إلى المغرب، وهو تشخيص موضوعي منهم، وذهب العامة إلى انه إلى الغروب.
وذكر في لسان العرب قولين في النهار (ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس) (وضياء ما بين طلوع الشمس...) وتردد في المنجد انه من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس، وحدّد نهايته بأنه إلى الغروب لكنه أضاف (وشرعاً: من الصبح إلى المغرب) كما ارتأى مجمع البحرين تخالف اللغة والعرف في المبدأ أي مبدأ النهار فقال: (النهار اسم لضوء واسع ممتد من طلوع الفجر إلى غروب الشمس) ثم قال: (وهو في عرف الناس من طلوع الشمس إلى غروبها...)[4].
والشاهد: اننا لو استظهرنا، كما استظهر الخاصة، انّ النهار موضوع للمتد إلى المغرب، فيكون للنهار فردان: ما بدأ من طلوع الفجر (أو الشمس) إلى غروبها وهو فرد مسلّم للنهار يتفق العامة فيه مع الخاصة، وما بدأ من طلوعها إلى مغربها، وهو ما اختلفوا فيه عن العامة.
ولا شك في كونهما فردين بناءً على أخذ الحد الأدنى (إلى الغروب) بشرط لا، كما انهما فردان أيضاً بناءً على أخذه لا بشرط؛ فإن اللابشرط وإن اجتمع مع ألف شرط لكنه بما هو لا بشرط قسمي غير البشرط شيء القسمي، كما هو مغاير لـ: بشرط لا القسمي.
والحاصل: انه يجتمع معه لا انه عينه، بل هو غيره لكن يجتمع معه؛ فإن المجتمع مع الشيء غير الشيء ولا يطلق على الشيء انه مجتمع مع نفسه.


احتمالان فيما اتخذه الشارع موضوعاً لحكمه
وعليه: لو جعل الشارع النهار موضوعاً لحكمه، بوجوب الصوم مثلاً طوال النهار، وارتأينا كما ارتأى الخاصة انه موضوع في العرف العام للأوسع ثم شككنا بأحد وجهين:
الأول: ان نشك في أنّ الشارع تصرف في النهار فضيّقه إلى الغروب مثلاً، فهنا يكون موطن الاستصحاب أي نستصحب المعنى العرفي الواسع السابق وننفي تصرف الشارع بالأصل، وهو المعبّر عنه بأصالة ثبات اللغة التي لها وجهان: وجه من المنتهى وهو المعهود عادة ووجه من المبتدى وهو ما أشرنا إليه الآن[5] فهذا استصحاب موضوعي في الشبهة المفهومية المرددة بين الواسع والمضيق.
تنبيه: ليست القضية فرضية محضة، بل لها مصاديق وتطبيقات مهمة جداً، ومنها ما ادعاه بعض العامة[6] من أنّ الغنيمة لغةً أعم من غنائم دار الحرب ومن أرباح المكاسب، لكن الشارع تصرف بالتضييق فجعله لغنائم دار الحرب خاصة، فلو أثبتنا عدمه فهو، وإلا كفى لدى الشك استصحاب العدم أو استصحاب المعنى السابق الأعم.
الثاني: ان نفترض أن الشارع لم يتصرف في الموضوع، ولكن نحتمل الانصراف، فعلينا في هذه الحالة دراسة مناشئه، فإن كان منشأً تاماً أي موجباً للانصراف المستقر حكمنا بعدم شمول الحكم للحصة الخارجة بالانصراف، وإن وجدناه منشأ غير موجب له (ككثرة الوجود) حكمنا بالشمول، وإن شككنا (كما لو شككنا فيه من ناحية مشككية الدلالة، أو من حيث مشككية الماهية) فهنا لنا أن نستصحب ثبوت الحكم عليه لو حصل منشأ الانصراف لاحقاً[7]، أو نستصحب عدم صارفية الموجود (بناءً على القول به) وعدم وجود الصارف لو شك في وجوده.


الشبهة المفهومية، وِزانها وزان المصداقية، في جريان الاستصحاب وعدمه
وأما الكبرى، فنقول، وهو دقيق، انه لا فرق بين الشبهة المفهومية والمصداقية في انّه إن كانت لكل منهما حالة سابقة ملحوظة جرى الاستصحاب وإن لم تكن لم يجرِ، ولا يصح سوقهما بعصوين: بأن نفترض للشبهة المصداقية حالة سابقة بينما نفترض عدمها في المفهومية، كما صنعوا في المقام لدى التدبر فقالوا بجريان الاستصحاب في المصداقية دون المفهومية؛ وإلا لصح العكس بأن نفترض عدم حالة سابقة في المصداقية فلا نجري الاستصحاب بينما نفترض وجودها في المفهومية فنجريه، والصحيح هو: انّ كليهما بوِزان واحد فإن افترضنا وجود حالة سابقة لهما جرى الاستصحاب فيهما وإلا لم يجرِ فيهما.
بوجهٍ آخر: انّ ما افترضوه هو من الضرورة بشرط المحمول فقد افترضوا في الشبهة المفهومية كون الإجمال (والتردد بين الواسع والضيق) ابتدائياً بلا حالة سابقة (فلاحظ تمثيله (قدس سره) بالغروب والمغرب وسائر أمثلتهم) ومن البديهي حينئذٍ عدم جريان الاستصحاب تماماً كما لا يجري عندما نفترض انه لا حالة سابقة للشبهة المصداقية، كما لو دخل في الظلام شيء مردد بين الشاة والغزال، فإنه لا مجال لاستصحاب وجود أي منهما بالبداهة، وكذا لو افترضنا تعاقب حالتي الإطلاق والإضافة على الماء ومجهوليتهما أو افترضنا وجود ماء ابتداءً (مخلوق دفعة فرضاً، أو لو خلق إعجازاً شيء مردد بين كونه مطلقاً أو مضافاً) مردد بين وجود منّ من الملح فيه أو وجود غرام واحد فيه فقط، حسب مثاله (قدس سره)، لا ما إذا علمنا كونه مطلقاً سابقاً ثم شك في صب أيهما فيه.
وفي المقام: إفترَضوا الشبهة المفهومية والإجمال من دون وجود حالة سابقة، ومن الواضح انه لا يوجد أصل موضوعي ينقح أن النهار موضوع للأضيق أو الأوسع وانه لا مجال للاستصحاب مادام الشك في كيفية وضع النهار ابتداءً وأنّ يعرب بن قحطان مثلاً كيف وضعه؟ وإنما يجب التمثيل بما كانت له حالة سابقة في الشبهة المفهومية ثم شك، ولا شك انه مع وجود حالة سابقة معلومة لنا، سواء أكانت الأوسع أم الأضيق، ثم شككنا في تغيير الوضع من قبل الواضع نفسه أو من قبل الشارع الذي أخذ ذلك العنوان موضوعاً لحكمه، في أنّ اللازم أن نستصحب الوضع الاول أي أن نستصحب الموضوع له على ما وضع له.


قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُخَفِّفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ فَلْيَكُنْ لِقَرَابَتِهِ وَصُولًا وَبِوَالِدَيْهِ بَارّاً، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَلَمْ يُصِبْهُ فِي حَيَاتِهِ فَقْرٌ أَبَداً))
(الأمالي (للطوسي): ص432/ حديث 967).

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

__________________________

[1] الدرس (1110/90).
[2] أي بين الغروب والمغرب.
[3] ومن الصحيح انه أضاف (من طلوع الفجر إلى غروب الشمس) لكنه ظاهراً اجتهاد، كما سيأتي في المتن، وعلى أي فإنه معارض بغيره.
[4] فخر الدين الطريحي النجفي، مجمع البحرين: ج3 ص507.
[5] فإذا شككنا أنّ معنى هذا اللفظ المعيّن (كالمكروه، وأَكْرَهُ) في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) ما هو، حكمنا بأنه هو نفس المعنى الذي نفهمه الآن (وهو الاستصحاب القهقري، أو أصالة ثبات اللغة) وأولى منه عكسه، وهو محل البحث، أي لو علمنا معنى هذا اللفظ كـ (نيّف) في زمنه (صلى الله عليه وآله) وشككنا انه هل المراد به الآن عرفاً هو ذلك، (فيما لو جعله بما له من المعنى زمنه (صلى الله عليه وآله) متعلق نذره كما لو نذر إكرام نيِّف وسبعين رجلاً) نستصحب أو نحكم بثبات اللغة.
وأمثلة الألفاظ المتغيرة بمرور الزمن كثيرة ومنها: السبت (لقطعة من الزمن ثم صارت علماً ليوم في الأسبوع)، السفرة (لما يحمله المسافر ثم ضيقت إلى المائدة)، الشيخ (للرجل المسنّ ثم لرجل الدين) وكذا الكفر والفسق لغةً ثم شرعاً... وهكذا.

[6] كالقرطبي في تفسيره، وقد ذكرنا في كتاب (رسالتان في الخمس): (قال القرطبي – وهو من كبار علمائهم – في تفسيره*: (الغنيمة في اللغة: ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي، ومن ذلك قول الشاعر:

وقد طوَّقتُ في الآفاقِ، حتى      ***      رضيتُ من الغنيمة بالإياب

وقال آخر:
ومُطعَمُ الغُنمِ يَومَ الغُنم مُطعَمُه      ***      أنَّى توجَّهَ والمحرومُ محرومُ

والمغنم والغنيمة بمعنى، يقال: غنم القوم غُنماً) انتهى.
ثم نجد القرطبي يُدخل الاجتهاد المذهبي في اللغة، فيقول:
(واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى: {غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ}** مال الكفار***، إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر) ثم يقول: (ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيّناه، لكن عُرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع)، وهذا اعتراف منه بأن الغنيمة في اللغة بل في القرآن الكريم، بما هي هي عامة، ولكن عُرف الشرع قيّدها، مدعياً الاتفاق، ولكن يقال: ما قيمة هذا الاتفاق وقد خرج منه باب علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمام الصادق (عليه السلام) الذي هو إمام أئمة المذاهب، وخرج أيضاً كبار علماء الشيعة، فإذن دعوى الاتفاق غير صحيحة، فدليله في حدّ ذاته عليل، إضافة إلى أن عموم القرآن وإطلاقه لا تقيده أقوال العلماء كما هو مبناهم أيضاً، ودعواه أنّ عرف الشرع قيّدها مصادرة لا دليل عليها. فتدبر) (رسالتان في الخمس: ص129-130).
* في تفسير سورة الأنفال: 42، وفي المسألة الأولى من الست والعشرين مسألة.
** سورة الأنفال: 41.
*** وهذا اتفاق خارجي كما هو واضح ولا ربط له بالمعنى اللغوي.
[7] في زمن المعصوم اللاحق الذي نقل لفظ المعصوم السابق، وذلك في اللفظ الذي تطور أو نحتمل تطوره دلالياً في زمن المعصوم اللاحق. فتدبر فإنه دقيق كما انه واقع.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4687
  • تاريخ إضافة الموضوع : الإثنين 15 شوال 1446هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 04 / 19