بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ملخص ما تقدم
ذكرنا في نقاشنا الثالث مع صاحب القوانين بانه قد يقال: ان العجز مانع عن وجوب المعرفة وليست القدرة شرطا، واوضحنا ان العجز يطلق على نوعين احدهما ما لا مقتضي فيه والثاني ما كان المقتضي موجوداً لكن مع وجود المانع، فكلاهما عجز، وبعبارة اخرى: ان لم يكن للمكلف قدرة فهو عاجز وان كانت له قدرة لكن مُنع من اعمالها تكوينا او تشريعا فهو عاجز أيضاً، هذا ما مضى مع بعض الاضافة.
صور الشك في القدرة، ثلاثة
واما مبحث اليوم فنقول: حيث ان العجز على قسمين فصور الشك فيه ثلاثة وتختلف احكامها:
1- الشك لطرو طارئ
الصورة الاول: صورة الشك في العجز عن المعرفة ، لطرو طارئ مانع عن اعمال قدرنه مع احرازها، فالاصل العدم كما هو واضح إذ الأصل عدم طرو مانع تكويني او تشريعي عن اعمال هذه القدرة فالتكليف بالمعرفة في هذه الصورة ثابت.
2- الشك في تجدد القدرة
الصورة الثانية: حكمها عكس الصورة الاولى؛ وهي ما لو كان الشك في العجز عن المعرفة نابعا من الشك في وجود المقتضي ؛اي الشك في تجدد القدرة بعد فرض امكانها، اي فرض ان هذا المعلوم من الممكن ان تناله يد المعرفة وان المكلف لم يكن قادرا من قبل ثم شك في تجدد قدرته على المعرفة كما في من قويت وتطورت ملكته الاجتهادية في الاصول او الفلسفة فشك الان في مقدرته على ان ينال بعض غوامض المسائل التي لم يستطيع ان ينالها من قبل، فهنا الاصل عدم تجدد القدرة، والنتيجة تكون على عكس النتيجة في الصورة الاولى فان النتيجة عدم توجه التكليف اليه بالمعرفة وهذه الصورة واضحة ايضا.
3- الشك في الامكان والامتناع
الصورة الثالثة: وهذه الصورة تحتاج إلى التدقيق ونشير إلى بعض جوانبها لأن التوغل قد يستدعي اياما من البحث فنشير فقط إلى عنوانها الاصولي والفلسفي ويترك التفصيل إلى علم الكلام، وهذه الصورة هي ما لو كان العجز عن المعرفة نابعا من الشك في امكانها الذاتي ككثير من المباحث المختلف فيها بين الفلاسفة والمتكلمين كامكان ان ينال العقل البشري بعض خواص الخالق وبعض احكامه او لا؟ ككنه مرتبة الاحدية والواحدية وغيرها او غير ذلك، فلو كان الشك عن المعرفة نابعا من الشك في قابلية القابل وان هذه المعلومة قابلة ذاتاً لأن تدرك ولأن تنال او ادراكها مستحيل؟ فهل هنا اصل ينقح الامكان الذاتي للمعرفة او الامتناع الذاتي لهذه المعرفة؟
هل استصحاب العدم المحمولي أو النعتي جارٍ في المقام؟
نقول: ربما ما يمكن ان يتوهم انه اصل منقح هو احد امرين:
اما استصحاب العدم المحمولي او استصحاب العدم النعتي، فهل يجري احدهما او كلاهما أو لا؟
توضيح ذلك بايجاز في ضمن نقاط: النقطة الأولى: ان الفرق بين العدم المحمولي والوجود المحمولي من جهة وبين العدم والوجود النعتيين في باب الاستصحاب من جهة أخرى هو ان العدم المحمولي هو مفاد كان التامة وكذا الوجود المحمولي، واما النعتي منهما فهو مفاد كان الناقصة، وبمثال واضح (كان زيد او لم يكن زيد) فمفاد كان التامة هو وجوده او عدمه، فنستصحب عدم وجود زيد حيث لم يكن في زمن موجودا، واما (كان زيدا عالما)، فهذا الاتصاف بالعالمية فهو محطة الوجود أو العدم النعتي.
النقطة الثانية: الموضوع اذا تركب من امر وجودي ومن امر عدمي فهل يصح بعد احراز وجود الموضوع أو الجزء الاول من الموضوع، التمسك بالعدم الازلي لاثبات هذا الاتصاف؟ والمثال المعروف ننقله إلى مبحثنا، فالمرأة القرشية لو قلنا بتركب الموضوع فيها من مجموع (المرأة القرشية التي لم تبلغ الستين) وهو سن اليأس في المرأة القرشية او النبطية إذ سن اليأس فيهما الستين وفي غيرهما الخمسين، فلو احرز وجود المرأة لكن شككنا في انها قرشية او نبطية او غيرهما، فهل يصح التمسك بالعدم الازلي لاثبات الشق الثاني؟ الميرزا النائيني يرى عدم صحة ذلك وتبعه جمع وهو المتصور، أما الاخوند الخرساني فيرى صحة ذلك.
تطبيق المبحث على المقام
وأما تطبيق المبحث على المقام: انه هل يصح اجراء العدم المحمولي أو النعتي لاثبات إمكان المعرفة، فيما لو شككنا في ان هذه المعرفة ممكنة ذاتا؟ اي شككنا في الامكان الذاتي للمعرفة اما بنحو الشك المحمولي لو صب الشك على المحمول بنفسه واما بنحو العدم النعتي لو صب الشك على الاتصاف اي هل هذه المعرفة متصفة بالامكان الذاتي او انها متصفة بالامتناع الذاتي؟، فهل نستطيع التمسك بالعدم الازلي للعدم المحمولي او النعتي لاحراز الامكان او الامتناع أو لا؟ ونمثل بمثالين معروفين: الاول اصالة الوجود او اصالة الماهية، فان البعض قطع باصالة الوجود والبعض قطع باصالة الماهية والبعض النادر رأى اصالتهما معا، فلو شككنا في امكان ان تنال عقولنا هذه القضية، فهل ههنا مجرى أصالة عدم الإمكان الذاتي بقسميه؟.
المثال الثاني: مشككية الوجود او تباين الوجودات؛ فان البعض قطع بتباين الوجودات كما عليه عامة المتكلمين والبعض من الفلاسفة قطع بمشككية الوجود، اي بان كل مراتب الوجود وانواعه ما هي إلا وجودات تشكيكية وليس بعضها فان بعضها مما لا شك بمشككيتها، ، فلو شك الانسان في امكان ان ينال العقل ذلك، فهنا مورد الكلام فهل هنا اصل منقح من عدم محمولي او عدم نعتي؟
ونجيب بدون التوغل في تفرعات المسألة وتفصيلاتها، نظراً لارتباطها بمسائل المعقولات الثانية الفلسفية، وفيها دقة، لكن بمقدار الاشارة نقول: كلا، فلا اصل منقح للموضوع لا من النمط الاول ولا من النمط الثاني اذ لا حالة سابقة محرزة للامكان الذاتي او الاستحالة الذاتية، توضيح ذلك بايجاز: أن الحالة السابقة مرتهنة بالوجود والعدم اما الامكان الذاتي والامتناع الذاتي فهما من صقع اخر ولا يرتهنان بالوجود والعدم، بل هما مما يرتبط بالماهية اي بلوازم الماهية وبتعبير ادق هما من المعقولات الثانية الفلسفية وهذه غير مرتهنة بالوجود والعدم فانه سواء اكان الشي موجودا أم معدوما فانه قد يكون ممكنا وقد يكون ممتنعا، فالانسان مثلاً، امكانه او امتناعه او وجوبه لا يرتهن بوجوده الخارجي، فانه ممكن سواءا اكان موجودا ام معدوما، إذن الامكان من صقع اخر اما العدم النعتي او المحمولي فهما من عالم ثانٍ وهو عالم الوجود وعالم العدم المقابل للوجود، فههنا يجريان. وعلى ضوء ذلك نجيب:
أ- لا حالة سابقة للامكان الذاتي والامتناع
اولا: لا حالة سابقة للامكان الذاتي ليسصحب فيقال: هذه المعرفة مثلاً كانت ممكنة ذاتا ثم شككنا في امكانها الذاتي فنستصحب او نقول هذه المعرفة كانت غير ممكنة ذاتا في الازل ثم شككنا فنستصحب، فان الامكان الذاتي غير مرتهن بالوجود والعدم فلا حالة سابقة له، بل هي من الأحكام العقلية القطعية سلباً أو إيجاباً.
ب – مع التنزل فالاصلان متعارضان
ثانيا: نقول سلمنا وتنزلنا، ولا مجال للتنزل لكن لو فرض ذلك، اي لو فرض امكان جريان الاستصحاب المحمولي او النعتي في الامكان الذاتي والامتناع الذاتي، فانهما متعارضان فيتساقطان بالتعارض، اي اصالة عدم كون هذه المعرفة ممكنة ذاتا تعارضها اصالة عدم كون هذه المعرفة ممتنعة ذاتا فيتساقطان، وتفصيل البحث يترك إلى محله في علم الكلام لكن اقتصرنا منه على مقدار بحثنا الاصولي وان هذا الاصل لدى الشك يجري في الصورة الثالثة او لا؟ واجبنا بانه لا يجري واشرنا اجمالا إلى وجهه.
التفريق بين القدرة بالقياس للمصلحة الثبوتية وبالقياس للانشاء
وأما الامر الثاني فهو: بدأنا بحثنا ضمن العنوان الثالث بان تناولنا مسألة ان القدرة هل هي شرط ام العجز مانع؟ واوضحنا ذلك وعللناه بان القدرة ان كانت دخيلة في حدوث المصلحة للمتعلق فهي شرط وان كانت مانعة عن تأثير تلك المصلحة في مرتبة فعليتها او تنجزها فهي مانع وحاجز، اما ما نذكره الان فيعد تحقيقا لذلك الكلام المتقدم، فنردُّ اولا ثم نفصل، فنقول:
هذا الكلام يصح اذا لوحظت القدرة بالقياس إلى الاقتضاء اما اذا لوحظت القدرة بالقياس إلى الانشاء فلا، توضيح ذلك: إذا كان الكلام في عالم الثبوت والمصالح والمفاسد الثبوتية، فان قدرة المكلف على الصلاة مثلاً من قيامٍ بما لها من مصلحة وكذا قدرته على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولها من الفوائد ما لها وقدرته على معرفة أصول الدين كذلك، ولها من الفوائد ما لها، هذه القدرة هل هي دخيلة في المصلحة الثبوتية؟ الجواب: كلا بل المصلحة الثبوتية قائمة بالمتعلق، فان العلم نور سواء أقدرنا على نيله أم لم نقدر، فلا تؤثر قدرة المكلف وعدمها في المصلحة الثبوتية والمفسدة الثبوتية، فما ذكرناه كان في صورة الكلام عن الاقتضاء، والكلام حتى الآن صحيح فان القدرة ليست شرطا للاقتضاء ولا دخيلة في المصلحة الثبوتية،
وأما إذا كان الكلام في عالم الانشاء اي انشاء المولى للتكاليف فانه اذا لاحظ المولى ان عبده غير قادر فهنا القدرة دخيلة في مصلحة انشاءه للحكم فان قدرة العبد وإن لم تكن دخيلة في المصلحة الواقعية، الا انها دخيلة في مصلحة انشاء المولى للحكم على طبق المصلحة الواقعية فان المولى لو رأى ان العبد غير قادر فلا توجد حينئذٍ مصلحة في الإنشاء بل سيكون هذا الإنشاء لغوا عندئذ
إلا ان يقال: بان القدرة دخيلة في مصلحة الإنشاء بمرتبة التنجز او بمرتبة الفعلية لكنها ليست دخيلة في ما دون ذلك أي في مصححية أصل الإنشاء ومصلحته فانه يصح ولو مع عدم القدرة، لترتب غرض عقلائي عليه. غاية الأمر أن العجز مانع. فتأمل وههنا نقاش ولذلك النقاش جواب لكن نكتفي من هذا البحث في نقاشنا مع صاحب القوانين بهذا المقدار، وسيأتي الكلام في بحث تطبيقي في الآيات والروايات المصرحة باشتراط الاستطاعة لنرى هل هذه الآيات والروايات تؤيد هذه القواعد التي أسلفناها أو تعارضها واذا عارضها بعضها فهل من جواب؟ غدا سنشير إلى ذلك بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين |