• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : البيع (1444هـ) .
              • الموضوع : 662- مناقشات ثلاثة مع المحقق النائيني .

662- مناقشات ثلاثة مع المحقق النائيني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(662)

النائيني: الرافع لأثر المعاملات العجز الفعلي لا المطلق

وقال المحقق النائيني (قدس سره): (إذا عرفت هذا فنقول المسوِّغ في ارتكاب المحرمات هو العجز بقول مطلق بحيث لا يكون قادرا على الترك، ولا على تحصيل القدرة عليه فلو لم يكن قادراً فعلاً ولكنه كان متمكناً من تحصيل القدرة على الترك بأن يخرج عن هذا المكان الذي أكره فيه على ارتكاب المحرم إلى ما فيه انصار له في دفع الإكراه عنه. لم يجز الارتكاب من جهة تمكنه على الترك بواسطة التمكن من تحصيل القدرة عليه والرافع لأثر المعاملات هو العجز الفعلي عن ترك المعاملة المكره عليها، ولو مع التمكن من رفع العجز عن نفسه.

والفارق بينهما: اما اعتبار العجز المطلق في جواز ارتكاب المحرم فلما تقدم من كون القدرة المعتبرة في ترك امتثاله عقلي، وقد عرفت ان المعتبر منها هو القدرة في الجملة ولو بالقدرة على القدرة، واما اعتبار العجز الفعلي في رفع أثر المعاملات ولو مع التمكن في رفعه عن نفسه فلأن المناط في رفع أثر العقد كما عرفته سابقاً إنما هو كون صدوره لا لأجل ترتب مضمونه الاسم المصدري عليه فكلما تحقق هذا المعنى يصير منشاء لرفع أثره من غير فرق بين ما إذا كان متمكناً من تحصيل القدرة على رفعه عن نفسه أم لا، ولا منافاة بين هذا وبين اعتبار عدم التمكن من التفصّي في رفع أثر العقد بالإكراه، وذلك لأن اعتبار عدم التمكن من التفصّي في مورد اعتباره كان فيما إذا كان مع التمكن من التفصّي لم يصدق الإكراه، بمعنى أنه صدر عنه العقد بداعي وقوع مضمونه، وفي هذا المقام يكون القول بكفاية العجز الفعلي من جهة صيرورته منشاء لتحقق ما هو المناط في البطلان، اعني عدم داعوية وقوع مضمون العقد في ايقاع العقد.

والحاصل: أن الملاك في رفع أثر العقد بالإكراه إنما هو انتفاء قصد مضمونه بالمعنى الاسم المصدري، فكلما تحقق هذا الملاك يرتفع أثره، لكنه مع العجز الفعلي يتحقق كما هو الوجدان فيكون أثره مرتفعاً ولو كان قادراً على رفع العجز عن نفسه، لكن ما دام لم يرفعه عن نفسه كان ملاك الارتفاع متحققاً.

فظهر أن القدرة المعتبرة في فعلية التكليف بالمحرمات قدرة عقلية مشروطة بحكم العقل، وهي الاعم من التمكن على ترك المحرمات، أو التمكن من تحصيل التمكن على تركها في مقابل العجز بقول مطلق الذي هو المسوغ للارتكاب، والقدرة المعتبرة في ترتب أثر المعاملات هي نظير القدرة التي شرط شرعي في التكاليف وهي فعلية التمكن من الإتيان بمتعلق التكليف في مقابل العجز عنه ولو مع التمكن من رفع العجز هذا تمام الكلام في بيان كون النسبة هي العموم المطلق) ([1]).

إيضاحات

وإيضاح كلامه مع بعض الإضافة، ثم المناقشة في ضمن نقاط:

النسبة بين العجزين، عموم مطلق

الأولى: ان النسبة بين العجز المسوّغ لارتكاب المحرمات والعجز الرافع لأثر المعاملات، هي، بحسبه (قدس سره)، العموم والخصوص المطلق، إذ العجز في الأول يتقوّم بركنين: العجز الفعلي والعجز الشأني، أو فقل العجز عن المخالفة (مخالفة المكرِه) مباشرة والعجز عن مخالفته ولو بتوسيط واسطة، أما العجز في الثاني فانه يتقوّم بالركن الأول فقط أي انه يعتبر عاجزاً إذا كان عاجزاً فعلاً وإن لم يكن عاجزاً شأناً، ومن الواضح أن ذا القيدين أقل وجوداً من ذي القيد الواحد لأن الأخير يتحقق وإن لم يتحقق معه القيد الثاني.

نقل (قدس سره) الكلام من القدرة إلى ضدها (العجز)

الثاني: ان المحقق النائيني نقل الكلام من القدرة إلى العجز، إذ انطلق من أن القدرة العقلية هي المشترطة في الأحكام وانها القدرة المطلقة الأعم من القدرة المباشرة والقدرة بالواسطة، وان الشرعية هي المشترطة في المعاملات وهي القدرة الفعلية، فاستفاد من طرح بحث القدرتين هنالك، في البحث في المقام ولكن مع نقل الكلام من القدرة إلى ضدها وهو (العجز)، والوجه فيه إضافة إلى أوضحية هذا الضد، هو أن الكلام هنالك كان عن الشرط (وان شرط التكليف هو القدرة وانها عقلية أو شرعية) وهنا الكلام عن المانع والرافع (رافع التكليف هو العجز وانه الفعلي أو الأعم).

السرّ، بنظره، في اعتبار العجز الفعلي في المعاملات

الثالث: انّ السرّ في اعتبار العجز الفعلي في المعاملات دون المطلق، هو انه مع تحققه ينتفي القصد إلى المعنى الاسم مصدري ومع انتفاء القصد تنتفي المعاملة إذ العقود تتبع القصود وبحسب عبارته: (واما اعتبار العجز الفعلي في رفع أثر المعاملات ولو مع التمكن في رفعه عن نفسه فلأن المناط في رفع أثر العقد كما عرفته سابقاً إنما هو كون صدوره لا لأجل ترتب مضمونه الاسم المصدري عليه فكلما تحقق هذا المعنى يصير منشاء لرفع أثره من غير فرق بين ما إذا كان متمكناً من تحصيل القدرة على رفعه عن نفسه أم لا) (وفي هذا المقام يكون القول بكفاية العجز الفعلي من جهة صيرورته منشاء لتحقق ما هو المناط في البطلان، اعني عدم داعوية وقوع مضمون العقد في ايقاع العقد) (والحاصل أن الملاك في رفع أثر العقد بالإكراه إنما هو انتفاء قصد مضمونه بالمعنى الاسم المصدري، فكلما تحقق هذا الملاك يرتفع أثره، لكنه مع العجز الفعلي يتحقق كما هو الوجدان فيكون أثره مرتفعاً ولو كان قادراً على رفع العجز عن نفسه، لكن ما دام لم يرفعه عن نفسه كان ملاك الارتفاع متحققاً).

أما في الأحكام فلأن القدرة مناط التكليف وإنما يكون عاجزاً إذا فقد القدرة بقسميها أي العقلية والشأنية أو المباشرة والتي هي بالواسطة؛ إذ حينئذٍ يقبح تكليفه وأما إذا كان قادراً ولو بالواسطة فلا يقبح تكليفه.

التفرقة بين قصد المعنى المصدري والاسم مصدري

الرابع: ان كلامه مبني على التفرقة بين قصد المعنى المصدري وقصد الاسم مصدري في المعاملات، وإيضاحه: ان المراد بالمعنى الاسم مصدري هنا هو النقل والانتقال، في البيع، والمعنى المصدري هو العقد (الذي به يتحقق النقل)، بعبارة أخرى: المصدري هو اللفظ الإنشائي وهو الصادر من الشخص والاسم مصدري هو الـمُنشأ والوجود الاعتباري أي تحقق أثر العقد في عالم الاعتبار، والأثر هو النقل والانتقال أو تمليك العين في البيع وتمليك المنفعة في الإجارة وهكذا.

والمكرَه قاصد للمعنى المصدري أي هو قاصد للفظ العقد، إذ الفرض انه ليس بنائم ولا غافل ولا مشدوه ومذهول بحيث لا يفهم ما قاله أبداً، بل هو ملتفت إلى صيغة البيع التي أجراها، لكنه ليس بقاصد للمعنى الاسم مصدري أي ليس بقاصد حقيقة إلى نقل ملكه إلى الغير وتمليكه له إذ الفرض انه مكره وانه لم يصدر منه باختياره ولم يكن صدوره منه لأجل ترتيب المعنى الاسم مصدري.

المناقشات

ولكنّ كلامه (قدس سره) قد يناقش بالوجوه التالية:

العاجز فعلاً قد يقصِد وقد لا يقصِد

الأول: انّ العاجز فعلاً (لا العاجز بقول مطلق) أي الذي يمكن له التفصّي لكنه فعلاً لم يتفصّ فكان في هذه الحالة عاجزاً عن مخالفة المكرِه، له حالتان فقد يقصِد وقد لا يقصِد، فلا يصح قوله أن العجز الفعلي يرفع أثر المعاملات مطلقاً لأنه لا يكون حينئذٍ قاصداً لترتب مضمونه الاسم مصدري عليه، وتوضيحه: انّ المكرَه العاجز فعلاً عن التفصّي يمكنه أن لا يقصد بأن يورّي أو يأتي باللفظ كالمتمرّن أو الممثِّل فان هؤلاء جميعاً يقصدون اللفظ والمعنى المصدري ولا يقصدون المعنى الاسم مصدري، كما يمكنه أن يقصد، بل ان غالب الناس المكرهين قاصدين للمعنى الاسم مصدري لكن من دون طيب نفس، فقد وقع خلط بين طيب النفس والقصد والأول مفقود في المكره دائماً (أو غالباً كما سبق) دون الثاني فانه قد يقصد وقد لا يقصد.

النسبة بين الإكراه والقصد من وجه

بعبارة أخرى: النسبة بين الإكراه والقصد هي من وجه: فقد يُكرَه ويقصِد، كما لعل غالب الناس كذلك غفلة عن أن له أن لا يقصد بان يورّي أو يمثّل، والحاصل: الإكراه يجتمع مع القصد ولا يضاده بالضرورة إذ قد يكره على القصد (كما فيمن يعلم انه مطلع على قصده، بارتياض أو بإعمال قواعد من علم النفس يعرف بها قصده لوقوع المعنى الاسم مصدري وعدمه أو لوصله أجهزة بمخه تكشف طريقة تفكيره كما قيل بأن العلم الحديث توصل إلى ذلك، فأكرهه على قصد المعنى الاسم مصدري وإلا ضربه أو قتله مثلاً) وقد يكره لكنه لا يقصد، وقد يكره على الفعل دون القصد إما لاعتباره مرآة له أو غفلةً عنه، ومن جهة أخرى: قد يقصد مختاراً وقد يقصد مكرهاً.

بعبارة ثالثة: الإكراه عنوان والقصد عنوان آخر ولا يصح إرجاع أحدهما إلى الآخر بدعوى أن كل مكرَهٍ عاجزٍ فعلاً عن التفصّي فهو غير قاصد، إذ لا تلازم كما، انه لم يقم دليلاً عليه والوجدان على العكس أي ليس المكره بقاصد في الجملة لا بالجملة، بل نقول: ان عدم تفصّيه مع قدرته عليه يؤكد كونه قاصداً ولو في الجملة إذ لو أمكنه التفصّي بلا ضرر ولا حرج فلم لا يتفصى ويوقع البيع؟

كلامه من الخلط بين شرطين: القدرة والاختيار

الثاني: انه من الخلط بين القدرة التي هي شرط في التكليف والاختيار الذي هو شرط آخر، وإرجاع احدهما للآخر وإقحامه فيه غير صحيح، بعبارة أخرى: المكره قادر ووجه بطلان معاملته كونه مكرهاً لا كونه عاجزاً، فالمعتبر في رفع أثر المعاملات هو كونه مكرهاً عليها لا كونه عاجزاً عن ترك المعاملة، قال (قدس سره): (والرافع لأثر المعاملات هو العجز الفعلي عن ترك المعاملة المكره عليها، ولو مع التمكن من رفع العجز عن نفسه)، فانه إن كان عاجزاً عن ترك المعاملة (والذي يعني كونه مُلجأً على الإنشاء تكويناً، مسلوب القدرة عن الترك) بطلت لذلك لا للإكراه، ولو كان قادراً غير عاجز فعلاً وقوة فإن بطلانها يكون معلول الإكراه، فتفسير بطلان معاملة المكره بكونه عاجزاً إنما هو من إقحام الأمر الطولي المتقدم فيما هو في طوله.

والحاصل: هنا شرطان: القدرة والاختيار (مقابل الكراهة) ففاقد الأولى لا يكون إلا فاقدها بقول مطلق (أي فاقداً الفعليةَ والشأنيةَ) وإلا فهو قادر، فالمكره إنما لا تقع معاملته لأنه مكره لا لأنه غير قادر أو لكونه غير قاصد فانه تعليل إما بأمر سابق رتبة (القدرة)، مع ان الكلام عندما يكون في الأمر اللاحق (الإكراه) يفترض مسلّمية تحقق الأمر السابق، أو تعليل بما هو مع الإكراه من وجه، أي بفقدان القصد الذي نسبته مع الإكراه من وجه كما سبق.

وبعبارة أخرى: الصحيح بدل قوله (والرافع لأثر المعاملات هو العجز الفعلي عن ترك المعاملة المكره عليها، ولو مع التمكن من رفع العجز عن نفسه) أن يقول: (والرافع لأثر المعاملات هو العجز المطلق ثم بعده الإكراه، أي مع عدم العجز وتوفر القدرة فان الرافع، بدرجة ثانية، هو الإكراه كلما حصل).

الصحيح: كونه بصورةِ المكرَه، وهو مكرَه مجازاً

الثالث: ان الصحيح في محل الكلام (وهو المكره القادر على التفصّي بلا ضرر وحرج) أن يقال بما يشكّل الجواب الحلي عن كل من كلام الشيخ: (المكره فاقد لطيب النفس) وكلام النائيني: (المكره فاقد للقصد) أن يقال: انّ من رُفِع السيف على رأسه وكان يمكنه التفصّي ومع ذلك لم يتفصّ وامتثل لأمر المكرِه فأجرى صيغة البيع، فانه بصورة المكرَه وليس بمكرَه أو هو صورةً مكرَهٌ (لفرض بانه يمكنه التفصي وأن عدم القدرة على التفصّي مقوّم لتحقق الإكراه عقلاً وعرفاً ولغةً) أو انه إنما يطلق عليه المكره مجازاً لا حقيقة. ثم يقال بعد ذلك: انه لا تبطل معاملته لكونه مكرهاً (إذ هو بصورة مكره أو مكره مجازاً وحديث الرفع يصرح بـ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ... وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) لا: رفع ما كانوا مجازاً وصورةً مكرهين عليه) بل إنما تبطل لكونه غير قاصد حينئذٍ (إذ كان بصورة المكره) أو لكونه غير طيب النفس حينئذٍ.

*            *            *

ناقش المحقق النائيني بوجوه أخرى غير ما ذكرناه، أو ناقش إشكالاتنا الثلاثة عليه، أو أيّد كلامه أو إشكالاتنا بوجه أو أكثر.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين


قال الإمام الرضا (عليهم السلام): ((عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ؟ وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ؟ وَعَجِبْتُ لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَرْكَنُ إِلَيْهَا؟)) (الكافي: ج2 ص59)

---------------------------

([1]) الشيخ محمد تقي الآملي، تقرير بحث الميرزا النائيني، كتاب المكاسب والبيع، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: ج1 ص437-438.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4538
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاحد 23 / شوال /1444هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14