بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(621)
ملخص ما مضى
سبق: (فنقول: قد يقال: بان الإكراه والرضا (طيب النفس) ضدان والضدان لا يجتمعان أبداً ولو كان أحدهما بنحو الداعي والآخر بنحو الداعي على الداعي "كما فيما صوّره (قدس سره) بقوله: وهذا يتفق كثيراً...")([1]) إذ ان الضدين كما لا يجتمعان، كذلك لا يكون أحدهما علّة للآخر؛ افترى إمكان أن تكون الشجاعة علّة للجبن أو العكس؟ أو الكرم علّة للبخل أو العكس؟ فكيف يكون الكره علّة للحب وإن سُمِّي بالداعي على الداعي؟
وقد أجبنا عن ذلك بـ: (1- ليسا ضدين إلا في أقصى مراتبهما
الأول: ما ذكره السيد الوالد (قدس سره) من ان هذه الصفات، الكره والطيب والجبن والشجاعة، ليست متقابلة تقابلاً حقيقياً فيما وقع بين الحدين من اقصى درجات الحب والكره والجبن والشجاعة، ففي المراتب المتوسطة يجتمع كل منها مع كل منها، والحاصل: انه لا تضاد بين المراتب المتوسطة.
قال (قدس سره): "ومقتضى القاعدة أنه كلما تحقق الكره ولو بعضاً بطل، لظهور "طيبة نفسه" في كمال الطيب، أما مثل الداعي على الداعي وما كان كالحجر فلا يضر بكمال الطيب فيكون صحيحاً.
لا يقال: لا يمكن الجمع بين الكره والطيب؟.
لأنه يقال: تجتمع الصفات النفسية المتقابلة مثل الشجاعة والجبن، والكرم والبخل، ولذا يكون أحدهما أرفع من الآخر، وليس معناها إلّا خلطه بالضد، كما قالوا في خلط النور بالظلام، والحركة بالسكون، في شديدهما وضعيفهما، ومن المعلوم أن الصفات النفسية كالأمور الخارجية، والمقولات الاعتبارية وزان المقولات الحقيقية"([2]))([3#3-3]).
وقد يمثّل له بمن خلط البارد بالحار فإن المتولد منهما أمر متوسط بينهما أي درجة حرارة هي مزيج منهما، أو يمثّل له بالصبغ الأسود شديد السواد فانه لو خلط بصبغ أبيض قليل، خفّ سواده، فسواده الخفيف إذاً مركب من سواد شديد وبياض خفيف، أي من أجزاء سوداء وأجزاء بيضاء مختلطة أو ممتزجة فإن غلبت السوداء فهو أسود وإلا فلا، ولا يخفى ان البياض والسواد ضدان بالذات والأسود والأبيض ضدان بالعرض.
التحقيق بحسب تعريف المناطقة للضدين
ومقتضى التحقيق التدبر في تعريف المناطقة والفلاسفة للضدين حيث سيظهر بوضوح ان الكره والرضا ليسا بحسب تعريف المشائيين للضدين ضدين إلا بحسب أشد المراتب منهما دون المتوسطات، وبحسب القدماء كذلك على بحث.
تعريف قدماء المناطقة للضدين
فقد عرّف قدماء الفلاسفة في أوائل المنطق، بحسب التفتازاني في شرح المقاصد، المتقابلين والمثلين و... بـ(فالأول المثلان، والثاني المتخالفان سواء اشتركا في ذاتي أو عرضي أو لم يشتركا أصلاً، ثم المتخالفان قد يكونان متقابلين كالسواد والبياض، وقد لا يتقابلان كالسواد والحلاوة، والمتقابلان هما المتخالفان اللذان يمتنع اجتماعهما في محل واحد في زمان واحد من جهة واحدة)([4]) وقال: (هو الذي أورده قدماء الفلاسفة في أوائل المنطق)([5]) وجاء في نهاية الحكمة (وقد عرفت أنّ المتحصّل من التقسيم السابق إنّ المتضادين أمران وجوديّان غيرُ متضائفين لا يجتمعان في محلٍّ واحدٍ في زمانٍ واحدٍ من جهةٍ واحدةٍ)([6]).
أقول: خرج بالتقييد بغير متضايفين كل ما يتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر، كالفوقية والتحتية والأبوة والبنوة فانهما متضايفان، عكس مثل السواد والبياض أو الحب والبغض إذ لا يتوقف تعقل أحدهما على الآخر.
ولكن قولهم: (من جهة واحدة) ليس على إطلاقه بل إنما يجري في المعاني الإضافية كالحب والشجاعة المتقومة بالطرف الآخر (المتعلق) إذ تقول أحب كذا، ولا يجري في مثل السواد والبياض الذين ليسا من المعاني الإضافية.
تعريف المشائيين للضدين
وعلى أي فان الملا صدرا في الأسفار نقل عن المشائيين تقييدهم المتضادين بقيد آخر هو (بينهما غاية البعد).
قال في الأسفار: (ومن أحكام التضادّ ـ على ما ذكرناه من إعتبار غاية التباعد ـ أنّ ضدَّ الواحد واحدٌ ، لأنّ الضدَّ على هذا الاعتبار هو الذي يلزم من وجودِهِ عدمُ الضدّ الآخر؛ فإذا كان الشيء وحدانيّاً وله أضداد ، فإمّا أن تكون مخالفتها مع ذلك الشيء من جهة واحدة أو من جهات كثيرة ، فإن كانت مخالفتها له من جهة واحدة فالمضادّ لذلك الشيء بالحقيقة شيءٌ واحدٌ وضدٌّ واحدٌّ وقد فُرِضَ أضداداً ، وإن كانت المخالفة بينها وبينه من جهات عديدة فليس الشيء ذا حقيقة بسيطة ، بل هو كالإنسان الذي يضادّ الحارّ من حيث هو بارد ، ويضادّ البارد من حيث هو حارّ ، ويضادّ كثيراً من الأشياء لاشتماله على أضدادها. فالتضادّ الحقيقيّ إنّما هو بين الحرارة والبرودة والسواد والبياض ، ولكلِّ واحد من الطرفين ضدٌّ واحد. وأمّا الحارّ والبارد فالتضادّ بينهما بالعرض)([7]).
وقال في نهاية الحكمة: (لكنّ المشّائين أضافوا إلى ما يتحصّل من التقسيم قيوداً اُخر، فرسّموا المتضادّين بـ"أنّهما أمران وجودّيان غيرُ متضائفَين متعاقبان على موضوع واحد داخلان تحت جنس قريب بينهما غاية الخلاف"([8]).
ولذلك ينحصر التضادّ عندهم في نوعَين أخيرَيْن من الأعراض داخلَيْن تحتَ جنس قريب بينهما غاية الخلاف، ويمتنع وقوع التضادّ بين أزيد من طرفين)([9]) وقال: (ومن أحكام التضادّ أنّه لا يقع بين أزيد من طرفَيْن لأنّه تقابُلٌ، والتقابل نسبةٌ، ولا تتحقّق نسبةٌ واحدةٌ بين أزيد من طرفين. وهذا حكمٌ عامٌّ لجميع أقسام التقابل)([10]).
مراتب الكُره والطيب، ليست متضادة، بحسب المشائي
أقول: فعلى حسب المشائيين من ان الضدين إنما هما ما كان بينهما غاية الخلاف، فلا يكون الضدان الا أقصى مراتب الكره، بحيث لا يتعقل كره فوقه، وأقصى مراتب الرضا والحب بحيث لا رضا ولا حب بعده فكيف يجتمعان؟ أما المراتب المتوسطة من الكره والرضا فحيث انه لا يوجد بينهما غاية الخلاف فانهما ليسا ضدين، كما من الممكن أن تجتمع.
ويمكن اجتماعهما بحسب أصالة الماهية
وأما بحسب تعريف قدامى المنطقيين فنقول: تارة يكون المسلك أصالة الماهية وأخرى أصالة الوجود.
فأما على مسلك أصالة الماهية، فحيث ان الماهية لا تشكيك فيها حسب مسلكهم([11]) فلا بد من تفسير درجات السواد، لا بالتشكيك لامتناع التشكيك في الماهية، بل بكونها ماهيات متعددة بالمصداق، فقد يكون بين حدي السواد الأعلى والأدنى ألوف الماهيات التي نراها، ظاهراً، متدرجة في الشدة والضعف، فإذا كانت كل درجة من درجات السواد ماهية من الماهيات وكذلك البياض، أمكن بوضوح تعقل خلطها فإذا خلطت مثلاً خمس ماهيات متدرجة من البياض بـ95 ماهية متدرجة من السواد كان سواده أقل شدةً مما تركب من مائة ماهية من السواد، فإذا خلطتها بعشر ماهيات من البياض كان سواده أخف.. وهكذا.. وعليه، وبحسبهم، فان خلط السواد بالبياض يكون كخلط حبات السكر بحبات الملح كلما زدت من أحدهما ضعف الآخر حتى يغلبه.. وهكذا. فتأمل
وكذا على أصالة الوجود، بوجهٍ
وأما على مسلك أصالة الوجود، فأن البياض حقيقية تشكيكية وكذا السواد فيمتنع اجتماع المرتبتين الشديدتين أما الضعيفتين منهما فلا يمتنع اجتماعهما إذ الدرجة الضعيفة لا تطرد ما عداها إلا في حدود شدتها أما فيما فوقه([12]) من الدرجات فليست متحققة لتطرد الغير المسمى بالضد، فالمراد من اجتماعهما ذلك لا اجتماعها في نفس المرتبة والدرجة، بل نقول: انه ليس لمن يقول بالوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة، رغم كون تضادهما أبين من الشمس وأظهر من الأمس، ان ينكر السواد في عين البياض والعكس فكيف بأن ينكر درجة من أحدهما اجتمعت بالآخر؟. فتأمل
والحاصل: إن الحب والرضا، يجتمعان في صور:
أولها: إذا كانا من جهتين، وهذا مما لا شك فيه، كما ينطبق عليه ضابط الضدين؛ إذ انهما لا يجتمعان من جهة واحدة لا من جهتين.
ثانيهما: إذا كانا بدرجتين وهذا هو ما بحثناه قبل قليل.
ثالثهما: إذا كانا بنحو الداعي على الداعي والعلة على العلة، ولا يرد على هذا إشكال اجتماع الضدين أبداً، وأما إشكال عليه أحدهما للآخر فالجواب عنه ان أحدهما ليس علة للآخر بل هو مجرد معدٍّ. فتدبر.
إشكالات وأجوبة
لا يقال([13]): الضد، مأخوذ بشرط لا، فلا يجتمع مع الضد الآخر أبداً؟.
إذ يقال: الضدان والمثلان والمتخالفان (كالسواد والحلاوة، حيث يجتمعان) كلها تؤخذ بنحو لا بشرط، لا بنحو بشرط شيء ولا بنحو بشرط لا وإلا لما أمكن اجتماع المثلين أيضاً ولا الموصوف والصفة إذا أخذ كل منهما بشرط لا عن الآخر.
لا يقال: الضد بوجوده الخارجي بشرط لا؟.
إذ يقال: البشرطلائية كقسيميها اعتبار ذهني، وأما في الخارج فلا يوجد شيء منها بل إنما الموجود الماهية بما هي هي أو فقل الطبيعة، أو على المسلك الآخر: الوجود، وإن أبيت فنقول: الضد الخارجي، أي مصداقه، كالمثل الخارجي يلاحظ بنحو اللا بشرط القسمي إذ كل شيء يلاحظ بما هو هو، فيكون عند لحاظه هكذا لا بشرط عن غيره ولذا أمكن اجتماع الجواهر مع الأعراض.
لا يقال: الوجود بشرط لا عن المشخصات الفردية؟
إذ يقال: الوجود لا بشرط عنها ولذا لا يتغير الإنسان مهما تغيرت مشخصاته، وأما التشخص فهو عين الوجود فليس مقيساً له بشرط شيء ولا بشرط لا ولا لا بشرط، فانه هو هو.
* * *
تمرين: لخّص البحث كله في خمسة أسطر (درجة).
انقض ما ذكرناه من اجتماع الدرجات الوسطى من الضدين، واجتماع الكره مع الطيب بوجه أو وجوه أو أيّده بوجه أو وجوه (درجتان).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ بَنَى اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ: مَنْ آوَى الْيَتِيمَ، وَرَحِمَ الضَّعِيفَ، وَأَشْفَقَ عَلَى وَالِدَيْهِ، وَرَفَقَ بِمَمْلُوكِهِ)) (من لا يحضره الفقيه: ج4 ص358).
--------------------------------
([1]) الدرس (620).
([2]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب البيع، انتشارات خوشنواز ـ أصفهان، ج114/3 ص165.
([3]) الدرس (620).
([4]) سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد، الناشر: الشريف الرضي ـ قم، ج2 ص54.
([5]) المصدر: ص60.
([6]) العلامة الطباطبائي، نهاية الحكمة، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج1 ص194.
([7]) الملا صدرا، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، دار إحياء التراث ـ بيروت، ج2 ص114.
([8]) المصدر: ص111.
([9]) العلامة الطباطبائي، نهاية الحكمة، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج1 ص194.
([10]) المصدر: ص196.
([11]) ولذا استدل في المنظومة على اصالة الوجود بعدم تشكيكية الماهية، رغم ان العلة سابقة على المعلول مما لا يمكن تفسيره، برأيه، إلا بمشككية الوجود قال:
إن الوجـــــود عنــدنا أصـــيل دليــــــل مـــن خالفنــــــا عليــــــل
لأنـــــه منبـــع كــــل شـــــرف والفرق بين نحوي الكون يفــي
كذا لزوم السبق في العلية مع عدم التشكيك في الماهية*
* منظومه ملا هادي سبزواري ج2 ص62.
([12]) فوق حد الشدّة.
([13]) هذا الإشكال ولواحقه أورده بعض فضلاء البحث.
|