بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(616)
إذا أُكره على الطلاق فطلَّق ناوياً
ولكي يتنقح البحث في مسألتنا (وهي ما لو اجتمع عنوانا الإكراه والاضطرار) بأدلته ومناقشاته، لا بد من أن نطرح ما ذكره الفقهاء في عنوان مشابه حيث أثروا البحث فيه بما يثري البحث في المقام الذي لم يبحثوه، فيما وجدنا من المكاسب وتعليقاته وإن بحثوه في مواضع أخرى ولكن لا بمثل هذه السعة، والفرع المشابه هو ما طرحه العلامة في التحرير قال: (إذا أكره على الطلاق فطلق ناوياً فالأقرب وقوع الطلاق) بحسب نقل الشيخ عنه([1]) لكن نص عبارة العلامة هي: (و لو أكره على الطلاق فطلّق ناويا له، فالأقرب أنّه غير مكره إذ لا إكراه على القصد)([2]) وقد تناول الشيخ (قدس سره) هذه المسألة بالتفصيل كما سيأتي، ولكن سنطرح هنا ما ذكره المحقق النائيني جامعين بين ما ذكره في دورتيه بتقريرات الآملي والخوانساري، فقد ذكره (قدس سره) أن للمسألة صوراً (نجمعها من كلا التقريرين).
1- لو انبعث عن إرادة المكرِه، محضاً
قال في تقرير الآملي: (وتحقيق الكلام فيه يحتاج إلى بيان صوره: (الأولى) إذا أكره على الطلاق فطلق المكرَه عن إرادةٍ منبعثةٍ عن إرادة المكرِه مع وعيده. بلا إرادة نفسية منه في تحقق المعنى الاسم المصدري بل كان ايقاع الطلاق منه بداعي إرادة المكرِه محضاً، ولا شبهة في بطلان الطلاق في هذه الصورة لكونه مكرَهاً غيرَ ناوٍ للمعنى الاسم المصدري، وهذا ظاهر)([3]).
والحاصل: انه انبعث عن إكراه الـمُكرِه لا عن رغبة منه ورضا، وهذا وإن صح ولكن قد يناقش كلامه (قدس سره) بان تخصيصه بـ(بلا إرادة منه في تحقق المعنى الاسم مصدري) لا وجه له؛ إذ حال المعنى المصدري هو كذلك تماماً، وذلك لأن المراد بالمعنى الاسم مصدري النتيجة والهيئة الحاصلة، والمراد من المعنى المصدري الفعل وهو الإنشاء في المقام، ولا شك ان المعنى المصدري هو العلّة للمعنى الاسم مصدري، وكما انه لا يرغب في النتيجة لا يرغب في العلّة فهو مكرَه عليها طولياً فصح القول (بلا إرادة منه في تحقق المعنى المصدري ولا الاسم مصدري) وصح القول (لكونه مكرهاً غير ناوٍ المعنى المصدري ولا الاسم مصدري) فالتخصيص إن كان للاحتراز فغير صحيح أو للإيضاح فناقص، بعبارة أخرى: مورد البحث هو الإكراه وكونه مكرَهاً عليه والفعل الصادر من المكرَه هو الإنشاء وهو معنى مصدري وهو المقدور أولاً وبالذات وأما المعنى الاسم مصدري فهو المسبّب وهو المقدور عليه ثانياً وبالواسطة، والأول هو الأولى بأن يكون المشمول لـ: (رفع ما اكرهوا عليه)، إذ ذاك (اسم المصدر) مكره عليه بواسطة الإكراه على هذا (المصدر)، والأمر سهل.
2- لو انبعث عن رضا منه، محضاً
وقال: ((الثانية) إذا اكره على الطلاق مع كون المكرَه في نفسه قاصداً لإيقاعه بحيث لولا الإكراه لكان يوقعه، لكن لمكان جهل المكره أكرهه فطلق لأجل وقوع الطلاق بالمعنى الاسم المصدري من غير دخل في الاكراه في الطلاق عكس الصورة الأولى، ولا ينبغي الإشكال في صحته في هذه الصورة لتمامية ما هو المناط للصحة أعني الرضا والطيب وإرادة معنى الاسم المصدري وهذا أيضاً ظاهر)([4]) وقال في تقريرات الخوانساري: (لا يخفى أن الاحتمالات المتصورة في كلام العلامة على وجوه، إلا أنه لا بد أن يؤخذ بما يمكن أن يتصور فيه الصحة والفساد. ونحن نذكر الاحتمالات حتى يتضح أن المتعين منها في كلامه ما هو؟:
فالأول([5]): أن لا يكون الاكراه مؤثرا في إرادة الفاعل أصلاً؛ بل كان بانياً على الطلاق، لكن لما كان الآمر جاهلاً بحاله أكرهه عليه، وهذا لا يتطرق فيه الوجهان، بل لا شبهة في صحته)([6]).
المناقشة: الفرق بين (أُكرِهوا) و(أُستكرهوا)
أقول: كلامه (قدس سره) وإن صح لكنه قد يناقش في قوله: (بل لا شبهة في صحته) وذلك لأن من استكرهه شخص على الطلاق وهو لا يعلم من حاله انه كان راضياً به ناوياً عليه وكذا من كان كارهاً ثم تدبر في المسألة فلم يجده سيئاً مثلاً بل وجده حسناً فرضي به في نفسه فطلق عن رضا، وإن كان السيف لا يزال مشهراً على رأسه لجهل المكرِه بانه رضي وبأنه سيطلق وإن رفع سيفه عنه، فانه وإن لم يصدق عليه انه مكره لكنه قد يقال بانه يصدق عليه مستكره وقد (رفع ما استكرهوا عليه).
بيانه ان الوارد في الروايات تارة عنوان (ما أكرهوا عليه) وأخرى (ما استكرهوا عليه).
ففي الكافي الشريف: عن الحسين بن محمد عن محمد بن أحمد النهدي رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه واله): ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ: الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانِ وَمَا لَا يَعْلَمُونَ وَمَا لَا يُطِيقُونَ وَمَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَالطِّيَرَةُ وَالْوَسْوَسَةُ فِي التَّفَكُّرِ فِي الْخَلْقِ وَالْحَسَدُ مَا لَمْ يُظْهِرْ بِلِسَانٍ أَوْ يَدٍ))([7]) فهنا نجد ورود (اسْتُكْرِهُوا).
وفي الفقيه قال النبي (صلى الله عليه واله): ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةُ أَشْيَاءَ: السَّهْوُ وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَمَا لَا يَعْلَمُونَ وَمَا لَا يُطِيقُونَ وَالطِّيَرَةُ وَالْحَسَدُ وَالتَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْقِ مَا لَمْ يَنْطِقِ الْإِنْسَانُ بِشَفَةٍ))([8]) وهنا نجد انه ورد (أُكْرِهُوا) ونظيره في الخصال والتوحيد والمستدرك والعياشي، فإن لم يصدق (أكرهوا) عليه لأنه كان راضياً أو كان مكرهاً والآن هو راضٍ والمشتق مجاز فيما انقضى عنه المبدأ، فلا يكون مصداقاً لـ(ما أكرهوا عليه) فانه قد يقال: انه يصدق عليه (ما استكرهوا عليه) لأن الاستكراه قائم بالمكرِه وهو متحقق في المقام لأنه باب الاستفعال وباب الاستفعال يعني طلب إكراهه وهو متحقق، لأنه طالب لإكراهه وإن لم يكن هو في ذاته كارهاً لأنه راضٍ بالفعل، عكس باب الافعال (ما أكرهوا عليه) لأنه مادام قد رضي فليست له كراهة فكيف يُكرَه؟
وفيه: ان باب الاستفعال (ما استكرهوا) يعني (طلب ما يَكرهون) لا (طلب إكراههم) ولو كان الأخير لكان هناك وجه لما قيل، لكن الأول هو المراد لأنه طالب لإكراهه لكنه ليس طالباً لما يكرهه إذ الفرض انه لا يكرهه الآن أما طلب إكراهه فهو أعم من كرهه ثبوتاً وعدمه، ويرد عليه: انّ الاستكراه قائم بالطرفين فلو لم يكن مكرهاً لما كان استكراه، وحملُه على الاستكراه الإثباتي لا الثبوتي خلاف الظاهر، والشاهد ان المسألة فيها شبهة وإن رفعناها لا انه (لا شبهة في صحته) فتأمل.
3- لو انبعث عن الرضا والإكراه، جميعاً
وقال: (والثاني([9]): أن يكون كل من الإكراه والرضا سبباً مستقلاً بحيث لولا الإكراه لأوقعه، ولولا الرضا لأوقعه أيضاً دفعاً للإكراه. وحيث لا يمكن توارد علّتين مستقلتين على معلول واحد فيصير كل واحدة إذا اجتمعا جزء السبب والفعل يسند إليهما معاً)([10]).
هل يجوز في الاعتباريات توارد علتين تامتين على معلول؟
ولكن قد يورد على الكبرى أمران:
الأول ما ذكره (قدس سره) في تقرير الآملي: (إما لجواز توارد العلتين المستقلتين على معلول واحداً في نظائر المقام وإن كان لا يعقل في التكوينيات وإما لكفاية)([11]) وحاصله ان المحالات إنما تجري في غير الاعتباريات لأنها خفيفة المؤونة أمرها بيد المعتبر.
وأجاب عنه بـ: (وأما حديث الفرق بين التكوينيات وبين الاعتبارات بجواز توارد العلل المستقلة في الأخير دون الأول... فهو حديث محض لا يرجع الى محصل)([12]).
وتوضيحه: ان المحال محال في كل العوالم فكما يستحيل اجتماع النقيضين في عالم الثبوت والعين يستحيل في عالم الذهن والاعتبار (بان يعتبر ولا يعتبر في الوقت نفسه)، والموجود في الذهن عند القول (اجتماع النقيضين كذا) هو صورتهما ومجرد اللفظ المشير إليهما لا واقعهما أي هما نقيضان بالحمل الذاتي الأولي (أي هما مفهوم اجتماع النقيضين) لا بالحمل الشائع أي ليسا مصداقاً لاجتماع نقيضين.
وفي المقام: فحيث ان العلة التامة هي: (ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم) فلو فرضنا كون العلتين المستقلتين على سبيل البدل علتين تامتين عند الاجتماع لدى تواردهما على مورد واحد، للزم التناقض إذ لا تكونان حينئذٍ علتين تامتين، هذا خلف؛ إذ أي واحد منهما لو عدم لما عدم المعلول نظراً لوجود الآخر، بعبارة أخرى: الأول لو عدم لا ينعدم المعلول لفرض وجود العلة التامة الأخرى فلم ينطبق تعريف العلة التامة عليه (ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم) فلم يكن علة تامة وكذا حال الثاني، ففرض كونهما علة تامة يستلزم الإذعان بعدم كونهما علة تامة هذا خلف. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
* * *
تمرين: إذا كان الاعتبار بيد المعتبر فلماذا لا يمكن أن يعتبر العلة لا علّةً أو العلة معلولاً أو المعلول علة أو العلة الناقصة علة تامة؟ وهل هناك فرق بين الافتراض والاعتبار إذ قيل (فرض المحال ليس بمحال) ولكن يقال ان (الاعتبار المحال محال)؟.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله (صلى الله عليه واله): ((إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ قَالَ النَّاسُ: مَا خَلَّفَ، وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: مَا قَدَّمَ))(من لا يحضره الفقيه: ج4 ص362)
------------------------------
([1]) المكاسب، ج3 ص325.
([2]) العلامة الحلي، تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية، مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، ج4 ص51.
([3]) الشيخ محمد تقي الآملي، / تقرير بحث الميرزا النائيني، كتاب المكاسب والبيع، مؤسسة النشر الاسلامي - قم المشرفة، ج1 ص453.
([4]) المصدر: ص453-454.
([5]) أوله هنا، هو ثانيه هناك.
([6]) الشيخ موسى النجفي الخوانساري / تقرير بحث الميرزا النائيني، منية الطالب، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج1 ص406.
([7]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج2 ص463.
([8]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج1 ص59.
([9]) وهو الثالث من تقريرات الآملي.
([10]) الشيخ موسى النجفي الخوانساري / تقرير بحث الميرزا النائيني، منية الطالب، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج1 ص406.
([11]) الشيخ محمد تقي الآملي، / تقرير بحث الميرزا النائيني، كتاب المكاسب والبيع، مؤسسة النشر الاسلامي - قم المشرفة، ج1 ص454.
([12]) المصدر: ص455.
|