بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(596)
أصالة عدم الحجية في أخبار العامة وأقوالهم
سبق: (الأصل عدم الحجية إلا في صور) وذكرنا صوراً، ونضيف:
ومنها: ان الخبرين المتعارضين يترجح أحدهما بمخالفة العامة، وهو مرجح جهوي على رأي، إذ جاء في مقبولة عمر بن حنظلة قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ((عليه السلام))... قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ كُلُّ رَجُلٍ اخْتَارَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِنَا فَرَضِيَا أَنْ يَكُونَا النَّاظِرَيْنِ فِي حَقِّهِمَا وَاخْتَلَفَا فِيمَا حَكَمَا وَكِلَاهُمَا اخْتَلَفَا فِي حَدِيثِكُمْ، قَالَ: الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا وَلَا يَلْتَفِتْ إِلَى مَا يَحْكُمُ بِهِ الْآخَرُ.
قَالَ: قُلْتُ فَإِنَّهُمَا عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لَا يُفَضَّلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، قَالَ: فَقَالَ: يُنْظَرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِمْ عَنَّا فِي ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِكَ فَيُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِنَا وَيُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا رَيْبَ فِيهِ...
قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ الْخَبَرَانِ عَنْكُمَا مَشْهُورَيْنِ قَدْ رَوَاهُمَا الثِّقَاتُ عَنْكُمْ، قَالَ: يُنْظَرُ فَمَا وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَخَالَفَ الْعَامَّةَ فَيُؤْخَذُ بِهِ وَيُتْرَكُ مَا خَالَفَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوَافَقَ الْعَامَّةَ.
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْفَقِيهَانِ عَرَفَا حُكْمَهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوَجَدْنَا أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ مُوَافِقاً لِلْعَامَّةِ وَالْآخَرَ مُخَالِفاً لَهُمْ بِأَيِّ الْخَبَرَيْنِ يُؤْخَذُ؟ قَالَ: مَا خَالَفَ الْعَامَّةَ فَفِيهِ الرَّشَادُ.
فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَإِنْ وَافَقَهُمَا الْخَبَرَانِ جَمِيعاً، قَالَ: يُنْظَرُ إِلَى مَا هُمْ إِلَيْهِ أَمْيَلُ حُكَّامُهُمْ وَقُضَاتُهُمْ فَيُتْرَكُ وَيُؤْخَذُ بِالْآخَرِ،
قُلْتُ: فَإِنْ وَافَقَ حُكَّامُهُمُ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعاً، قَالَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَرْجِهْ حَتَّى تَلْقَى إِمَامَكَ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ))([1]).
ولكن لو وجد في الخبر الآخر الموافق للعامة مرجح منصوص، كموافقة الكتاب أو الشهرة أو غير منصوص كموافقة الاعتبار أو الأفصحية أو غيرها، فالأمر على المباني:
فمن يقول بترتيب المرجحات، يعمل بالأقوى فالأقوى، فمثلاً موافقة أحدهما للكتاب متقدمة على مخالفة الآخر للعامة([2]).
ومن يقول، كالآخوند، بان المستفاد من مجموع الروايات هو: (ان هذا مرجح وهذا مرجح) ولا ترتيب بين المرجحات، فهو مخيّر.
ومن يقول، كالشيخ، بالتعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها، يتعدّى، والحاصل: ان مخالفة العامة إنما هو مرجح من المرجحات.
أدلة وشواهد على عدم ترادف القصد مع العمد
كما سبق البحث عن ان العمد ليس مترادفاً مع القصد ولا ان مفاد قضية ((عَمْدُ الصَّبِيِّ وَخَطَأُهُ وَاحِدٌ))([3]) مساوية لقضية (قصد الصبي ولا قصده واحد)([4]) وقد ذكرنا أدلة وشواهد على ذلك، ونضيف الآن شواهد أخرى تتنوع بين الرجوع إلى المرتكز الذهني العرفي (الذي يعود إلى التبادر) وصحة الحمل وعدم صحة السلب ونحوها من علائم الحقيقة وبين أقوال اللغويين، وهي بين دليل ومؤيد على المبنى، فعلى مبنانا هي دليل لأن اللغوي أهل خبرة في الوضع كما هو أهل خبرة في الاستعمال فقوله حجة فيهما، وعلى مبنى خبرويته في الاستعمال دون الوضع فقوله مؤيد، لكن قد تتراكم المؤيدات (مما ذكرناه ومما سيأتي) فتفيد الاطمئنان ولذا كان من المهم تكثيرها مهما أمكن، والأدلة أو المؤيدات هي:
أ- ما جاء في معجم الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري قال: (الخطأ: هو أن يقصد الشيء فيصيب غيره)([5]) وهو تفسير له بأحد نوعيه إذ النوع الآخر: ان يقصد الشيء فلا يصيبه([6]).
أقول: والاستدلال بمرتكزنا الوجداني أيضاً، من صحة الحمل... إلخ، إضافة إلى كونه أهل خبرة كما سبق، توضيح الدلالة: انه لو قصد شيئاً فأصاب غيره، كما لو قصد رمي الطائر فأصاب شجرةً أو إنساناً، فانه خطأ حتماً (أي يطلق عليه بالحمل الشائع الصناعي دون عنايةٍ، انه خطأ) فليس بعمدٍ (مادام العمد ضد الخطأ) أي ليس بعامد لكنه قاصد أي لا يوجد فيه العمد، لكنه يوجد فيه القصد، لفرض انه (قصد الشيء...) فقد انفك القصد عن العمد، أي صدق الأول دون الثاني.
ب- وما جاء في لسان العرب، قال في أول مادة عمد (العَمْدُ: ضِدُّ الخطأ فِي الْقَتْلِ وَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ)([7]) وهو صريح في التخصيص بها([8])، مع ان القصد ليس خاصاً بها كما هو واضح، وهو وإن ذكر فيما بعد معنى أوسع لكن كلامه بطوله من أوّله إلى آخره يشي بانه يريد اختصاصه بباب الجنايات كما صدّر به التعريف فليس لديه من التفسير بالمصداق فراجع كلامه، سلّمنا لكن الظاهر من كلامه الانصراف إليها.
ج- ومن الأدلة الارتكازية الوجدانية التي تعود إلى عدد من علائم الحقيقة الأربعة، انه لو صام مثلاً عيد الفِطر ناسياً أو غافلاً أو جاهلاً انه الفطر والصوم فيه حرام، فانه لا يقال: صام يوم الفطر عامداً، ولكن يقال: صام يوم الفطر قاصداً، أو: لا يقال: صام عامداً ويقال: صام قاصداً، وقد فصّلنا سابقاً الفرق بين قصد المضاف إليه وعدمه فراجع.
د- الفرق في التعدي بنفسه أو بالجارِّ، فان القصد يتعدى بنفسه، تقول قصد مكة أقصد مكة... الخ، وأما العمد فلا يتعدى في المرتكز العرفي إلا بالجارِّ تقول: عمدت إلى الطعام فطبخته وعمدت إلى ثيابه فغسلتها وعمدت إلى الزيارة أو إلى مكة، ولا يقال، في المرتكز العرفي عمدت الطعام فطبخته أو عمدت مكه، نعم، ذكر بعض اللغويين التعدية بنفسه، لكنه غريب عن الارتكاز العرفي بل مستهجن لديهم، وعلى أي فانه حتى لو قبلنا التعدي بنفسه، على مضض إن لم نقل انه إنما كان لتضمين العمد معنى القصد([9])، فانه يؤكد الفارق بينه وبين القصد وان هناك اختلافاً ارتكازياً بينهما حيث نجد بوضوح صحة تعدي القصد بنفسه واستهجان تعديته بالجار، على العكس من العمد في المطلبين.
هـ - وبعض اشتقاقات العمد والمنحوتات منه، تختلف عن القصد والمنحوتات منه، فمثلاً الاسم الجامد (اسم الجنس) من العمد، العمود ولا يقال القصود وهكذا. فتأمل هذا.
استدلال النائيني على اختصاص العمد بالجنايات، بالتعارف
وقد استدل المحقق النائيني بحسب تقريرات الآملي على اختصاص العمد بباب الجنايات بقوله: (ومما استدل به ما ورد من أن عمد الصبي خطأ. والانصاف عدم دلالته على حَجره عن مطلق الأفعال القصدية وذلك لتذيل هذه الجملة في بعض الاخبار بكون ديته على عاقلته الموجب لاختصاصه بباب الجنايات، وتصير قرينة على إرادة ذلك منه حتى في الأخبار الغير المذيلة بذاك الذيل، ومع قطع النظر عن هذه القرينة يكون المتعارف في التعبير عن هاتين الكلمتين أعني العمد والخطأ هو باب الجنايات، وباب كفارة الإحرام، وهذا المتعارف أيضا يوجب صرفهما عن الظهور في العموم، بحيث لا يمكن أن يستدل بالخبر المشتمل عليها على رفع القلم عن الصبي كما لا يخفى)([10])
المناقشة
أقول: لعل ظاهر تعبيره بالمتعارف انه يقصد الانصراف، أي انه يذعن بان لفظ العمد ظاهر في الأعم من باب الجنايات والكفارات، ويؤكده تعبيره بـ(صرفها عن الظهور في العموم) فهو يقول بالانصراف إذاً نظراً لتعارف استعمالهما في الجنايات، فنقول:
إن مناشئ الانصراف، كما حققناه في بحث سابق، سبعة:
أولها: كثرة الوجود، وليس هذا منشأ للانصراف بالبداهة.
ثانيها: كثرة الاستعمال، والظاهر انه يقصد هذا المنشأ، وفيه: ان كثرة الاستعمال إنما توجد الانصراف إذا أوجدت للفظ وِجهةً، دون ما عدا ذلك، فعهدة الإثبات تقع عليه.
ثالثها: التشكيك في الماهية.
رابعها: التشكيك في الصدق... وللكلام تتمة فانتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين ((عليه السلام)): ((عَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَدْأَبَ نَفْسَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَلَا يَمَلَّ مِنْ تَعَلُّمِهِ، وَلَا يَسْتَكْثِرَ مَا عَلِمَ)) (غرر الحكم: ص43)
--------------------------
([1]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص67-68.
([2]) على رأي.
([3]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج10 ص233.
([4]) راجع الدرسين السابقين (594-595)
([5]) أبو هلال العسكري، الفروق اللغويه، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع ـ القاهرة، ص54.
([6]) من دون قيد أن يصيب غيره.
([7]) ابن منظور، لسان العرب، دار صادر ـ بيروت، ج3 ص302.
([8]) أو الإنصراف لها.
([9]) بان تقول: عمدت مكة، وتقصد: قصدت مكة، أي تطعّم عمد معنى قصد.
([10]) الشيخ محمد تقي الآملي/ تقرير بحث الميرزا النائيني، كتاب المكاسب والبيع، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ـ قم، ج1 ص401
|