بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(591)
وتحقيق الحال في المسألتين (هل يرفع حديث الرفع السببية، وهل يرفع الموضوعية) في ضمن نقل عبارة الشيخ (قدس سره) والتعليق عليها.
الجواب الثالث للشيخ
قال (قدس سره): (وثالثاً: لو سلّمنا اختصاص الأحكام حتى الوضعية بالبالغين لكن لا مانع من كون فعل غير البالغ- موضوعاً للأحكام المجعولة في حق البالغين فيكون الفاعل كسائر غير البالغين خارجاً عن ذلك الحكم إلى وقت البلوغ)([1]).
فعل الصبي موضوع لحكم الغير وليس سبباً
أقول: من الظاهر ان الشيخ (قدس سره) لا يتحدث في الجواب الثالث عن كون فعل غير البالغ سبباً (أي عن سببية عقده للنقل والانتقال) بل عن كون فعله موضوعاً للأحكام المجعولة في حق غير البالغ، ومن البديهي ان السبب غير الموضوع.
لا يقال: فليكن ذلك إذ لا فرق بينهما؟
إذ يقال: الفرق كبير إذ السببية حكم وضعي كما سبق وكما هو محل اتفاق الأطراف، أما كون شيء موضوعاً لشيء آخر فليس حكماً وضعياً، ألا ترى ان الخمر موضوع الحرمة لكن الخمرة وكونها موضوعاً ليست حكماً وضعياً، ويوضحه: ان الموضوع في المثال السابق الخمر والحكم الحرمة والسبب الإسكار فليس الموضوع هو السبب، إذ لا يقال: الخمر سبب الحرمة وإن كان مقتضياً لها بل يقال: الإسكار سبب الحرمة.
لا يقال: السببية، أي سببية الخمر للإسكار هي الحكم الوضعي.
إذ يقال: ذلك أجنبي عن جواب الشيخ إذ ليس كلامه كما سبق عن السببية، ثم انه وإن صح لكنها ليست مجعولة للشارع ليرفعها حديث الرفع، بل هي أمر تكويني.
وفي المقام: يقول الشيخ لا مانع من أن يقال بان (عقد الصبي موضوع لوجوب الوفاء على طرفه البالغ المتعاقد معه) فهو موضوع وليس سبباً، وأما السبب فهو عقد البالغ لا عقد الصبي، كما سيأتي من ان الموضوع عقد الصبي والسبب عقد البالغ.
كون عقد الصبي موضوعاً إما تكويني أو عقلائي
وكونه موضوعاً ليس مجعولاً للشارع ليرفعه حديث الرفع؛ إذ يدور أمره بين أن يكون حكماً تكوينياً وأن يكون حكماً عقلائياً:
أما الأول: فبان يقال: ان عقده مقتضٍ تكويني لحكم الشارع على المتعاقد معه بلزوم الوفاء، وهو محتمل وقد سبق نظيره في العلاقة بين العقد والحيازة والملكية.
وأما الثاني: فبان يقال: ان اقتضاء العقد للزوم الوفاء (بأنواعه المختلفة) هو حكم عقلائي، فليس مجعولاً للشارع كي يرفعه حديث الرفع.
ويرد عليه: ان إمضاءه إذا كان بيد الشارع كان رفعه بيده أيضاً. فتأمل([2])
وقد يقال: كون هذا موضوعاً لذاك ليس حكماً وضعياً بل هو حكم انتزاعي محض، فان الشارع، أو أي مشرع آخر، إذا حكم على موضوع بحكم، كما لو حكم على الصلاة بالوجوب أو على العقد بالصحة والبطلان، انتزع من حكمه عليه كونه موضوعاً له، فهو منتزع قهري لا يصلح للرفع والوضع فلا يشمله حديث الرفع، نعم هو كأي أمر انتزاعي آخر يمكن رفعه برفع منشأ انتزاعه لكن شمول حديث الرفع لذلك بعيد حتى مع القول بإمكانه. فتأمل
عقد الصبي سبب شأني لحكم مستقبلي، وليس سبباً فعلياً
تنبيه: قال المحقق الاصفهاني: (حاصله: أنّ عقد الصبي ولو لم يكن سبباً فعلاً لوجوب الوفاء به بعد البلوغ، كما هو المفروض في الجواب الثاني، بل سبباً لوجوب الوفاء بعد البلوغ، بلا سببية فعليّة للوجوب التعليقي)([3]) ولا تناقض بين كلاميه النافي والمثبت إذ انه يشير بذلك إلى الصورتين الثانية والرابعة من الدرس السابق فراجع، وملخصه، بعبارة أخرى، أن المثبت هو السببية الفعلية لوجوب الوفاء المستقبلي، والمنفي هو السببية الشأنية لوجوب الوفاء المستقبلي.
ونضيف: انّ السببية الشأنية ليست أمراً مجعولاً للشارع ليرفعها حديث الرفع وإن قيل بان السببية الفعلية أمر مجعول للشارع.
وللعقد أبعاد ثلاثة، ولكل منها حكم
وهناك وجه آخر لتوجيه كلام الشيخ وتصحيح ترتّب وجوب وفاء الطرف الآخر بالعقد، على عقد الصبي، أي تصحيح كون عقد الصبي موضوعاً لحكم الشارع بوجوب الوفاء على طرفه المتعاقد معه من دون ان يكون هو المؤثر فيه وهو: ان العقد، كل عقد، له ثلاثة أبعاد: إضافته للمشتري وإضافته للبائع، ومعناه الأسمي أي عندما نلاحظه بما هو هو أي كونه عقداً فانه معنى من المعاني التي تقابل الإيقاع مثلاً وغيره، فإذا صح ذلك أمكن التفكيك في الأحكام التكليفية التي يمكن أن تترتب على كل منها.
فقد يقال: بان عقد الصبي مع البائع، وإن لم يصلح ليكون سبباً لوجوب الوفاء على طرفه المتعاقد معه لفرض القول باختصاص الأحكام الوضعية بالبالغين، لكن عقد البالغ مع الصبي هو الذي يصلح لأن يكون سبباً لوجوب الوفاء عليه، فحيث اتضح ان للعقد هاتين الإضافتين (عقد الصبي مع البالغ، وعقد البلاغ مع الصبي) فعدم صلاحيته ليكون منشأ للتأثير من الجهة الأولى لا يدفع صلاحيته من الجهة الثانية، وذلك هو ما ذكره المحقق الاصفهاني بقوله: (فمعنى عدم الوضع في حق الصبي عدم سببية عقده للملكية، وعدم سببيته فعلاً لوجوب الوفاء على الصبي ولو بعد بلوغه.
وهو لا ينافي سببية هذا العقد - من حيث إنّه عقد الكبير مع الصغير - لوجوب الوفاء به، فإنّه حكم تكليفي ووضعي في حق الكبير، غاية الأمر أنّ موضوع الحكمين متقوِّم بفعل الصغير)([4]) والتكليفي هو وجوب الوفاء، والوضعي هو سببية هذا العقد من حيث...
ومزيد الإيضاح ان السقف الذي على رؤوسنا له ثلاثة أبعاد يمكن ان يكون بلحاظ كل واحد منها موضوعاً لحكم كما يمكن ان يكون كل منها مؤثراً في حكم: لحاظ فوقيته للأرض التي هي دونه، ولحاظ تحتيته للسقف الأعلى منه، ولحاظه بما هو سقف مع قطع النظر عن كونه فوق هذا أو تحت ذاك، وكثيراً ما يكون لهذا الثالث حكم آخر.
والكلام عن وجوب الوفاء لا عن الملكية فالتفكيك ممكن
تنبيه: كلام الشيخ (قدس سره) كما ظهر كله عن موضوعية عقد الصبي للحكم التكليفي أي لوجوب الوفاء على الطرف الآخر وليس عن موضوعيته للحكم الوضعي والملكية وذلك لأن الملكية لا يمكن التفكيك بين طرفيها عكس وجوب الوفاء، وتوضيحه: انه لا يمكن القول ان هذا الكتاب الذي باعه الصبي للبالغ لم يقع نقله من طرف الصبي لكنه انتقل إلى المشتري، أو انه لم يخرج عن ملك الصبي لكنه دخل في ملك طرفه، أو ان عقده غير مؤثر في الملكية من طرفه، ولكن العقد من طرف البالغ مؤثر فيها، وذلك لأن الملكية أمر واحد بسيط فإما ان تقع أو لا وإما أن تنتقل أو لا، أما وجوب الوفاء فانه انحلالي، فيمكن ان يجب الوفاء على الكبير ولا يجب على الصغير، وبذلك يتضح أيضاً ما قاله الاصفهاني من: (وبما ذكرنا يندفع ما يتوهم من أنّ العقد إذا كان مؤثراً في الملكية، فلا معنى لتأثيره من طرف الكبير دون الصغير، فإنّ غرضه (قدس سره) مجرد موضوعية العقد لوجوب الوفاء على الكبير فعلاً دون الصغير، لا تأثيره في الملكية حتى لا يعقل التفكيك)([5]) وللبحث مزيد إيضاح وتتمة إن شاء الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((لَيْسَ الْخَيْرُ أَنْ يَكْثُرَ مَالُكَ وَوَلَدُكَ، وَلَكِنَّ الْخَيْرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ وَأَنْ يَعْظُمَ حِلْمُكَ وَأَنْ تُبَاهِيَ النَّاسَ بِعِبَادَةِ رَبِّكَ فَإِنْ أَحْسَنْتَ حَمِدْتَ اللَّهَ وَإِنْ أَسَأْتَ اسْتَغْفَرْتَ اللَّهَ)) (نهج البلاغة: الحكمة 94)
---------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الانصاري، المكاسب، دار الذخائر ـ قم، ج1 ص434.
([2]) إذ الإمضاء ليس للاقتضاء بل لما بعده من الفعلية.
([3]) الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني، حاشية كتاب المكاسب، أنوار الهدى ـ قم، ج2 ص15.
([4]) المصدر: ص15-16.
([5]) الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني، حاشية كتاب المكاسب، أنوار الهدى ـ قم، ج2 ص16.
|