بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(589)
3- دعوى كون فعل الصبي إنشاءً، مصادرةٌ
ثالثاً: إن قوله ((قدس الله سره)): (وذلك أنّ تأثير الإنشاء...) مصادرة، وكأنّه أخذ القضية بنحو مفروضه الموضوع؛ فمن أين أن ما عبّر عنه بـ(إنشاء الصغير) إنشاء؟ إذ الإستعمال أعم من الحقيقة فإن إطلاق الإنشاء على إنشائه أعم من كونه مجازاً للمشاكلة.
بعبارة أخرى: الإنشاء واقعي ووهمي، والأول هو الذي يطلق عليه لفظ الإنشاء حقيقة دون الثاني، فمن أين أن قول الصبي (بعت) إنشاء حقيقةً فإنه إنما يكون إنشاء حقيقة لو أوجد العنوان والمنشأ فلو قيل بإيجاده بدعوى إنشائه كان دوراً أو مصادرة([1]).
إنشاء أو صورة إنشاء؟
بوجه آخر: الصادر من اللافظ إما إنشاء وإما صورة إنشاء فلا يصح الإستدلال بصدوره منه على أنه إنشاء لأنه من الإستدلال بثبوت الأعم على ثبوت الأخص.
ويدلّ على أنه ليس كل إنشاءٍ بزعمه([2]) إنشاءً أنها لو زوّجت نفسها من زيد مع رفضه وكونه متزوجاً من أربعة مثلاً فإنّ الحاصل صورة إنشاء النكاح دون واقعه لتوقف حصول النكاح (المعلول) على إنشاء الطرفين ولو بإنشائها ثم رضاه لاحقاً ككل فضولي، بنحو الشرط المتأخر فلو قالت زوّجتك نفسي ولم يسبق رضاه وقبولُه ولم يلحق، فإنه لا يعقل حصول النكاح المعلول للإنشاء فلا يكون هذا إلّا صورة إنشاء وإلا لما أمكن تخلف منشأه عنه (بإقراره([3]) ((قدس الله سره))). فتدبر.
الخلط بين الوهم والإعتبار
بعبارة أخرى: إنه من الخلط بين الإعتبار والوهم، فما يسمى إنشاءً (للصبي في مفروض البحث، أو منها دون رضاه) مجرد وهم وليس اعتباراً، ولذا لا يرتب عليه العقلاء([4]) ولا الشارع([5]) الأثر ولو كان إنشاءً تكوينياً لحصل النكاح والبيع ولما أمكن للشارع رفعه، مع أننا وجدنا أنه رفعه في النكاح كما رفعه في الصبي غير المميّز، فليكن المميّز مثله، فقد قلبنا دليله ((قدس الله سره)) عليه.
ويتضح ذلك أكثر بقياس ما نحن فيه على الأَوْلى منه وهو تأثير التكويني في التكويني كالكسر في الإنكسار فإنه لو فرض حصول الكسر لحصل الإنكسار، ولكن ثبِّت العرش فمن أين أنّ ضربه للزجاج كان كاسراً له ليقال إنه مادام قد كسره فقد انكسر قهراً؟ إذ لعله توهم أنه كسره لا أنه كسره بالفعل، وفي المقام: من أين أن تلفظه ببعت وأنكحت كان إنشاءً إذ لعله([6])، توهّم أنه إنشاء واقعاً؟.
بنحو آخر: لا شك في تأثير السيف في القطع، ولكنه لا يصح الإستدلال به على أن سيف الطفل الذي ضرب به الشجرة أو رجل عمرو قد قطعها، إذ ليس كل ضرب بالسيف قاطعاً ولا كل ضارب بقاطع، إذ يشترط فيه قوة عضده كي تكون الضربة قوية قاطعة، كما يشترط حِدّة سيفه وإلا لما قطع، فقوله (كتأثير سيفه في القطع) عليه لا له؛ إذ ما أكثر ما لا يؤثر سيفه في القطع إما لفلول حدّه أو لضعف عضده.
ويدلّ عليه: أنّ من ليس بيده الإعتبار، كالموظف والمعلم والطبيب والجندي، لو اعتبر هذه الورقة بقيمة كيلو من الذهب وأنشأ ذلك بقوله مثلاً جعلت هذه الورقة بقيمة كيلو من الذهب، فإنه لا يتحقق الإنشاء أصلاً كي يقال إنه إذا تحقق الإنشاء تحقق المنشأ قهراً، عكس من بيده الإعتبار كحاكم المصرف المركزي، وقد يقال: إنه أنشأ، لكنّ المنشأ لم يحصل إذ الإنشاء ليس علة تامة لحصول المنشأ بل لا بد من توفّر شروط مما يعني أن الإنشاء من دونها صورة إنشاء أو هو وهم كما سبق، سلّمنا، لكن مرجعه إلى التفكيك بين الإنشاء الشخصي والعقلائي والشرعي كما سبق.
يكفي الإحتمال لِرَدِّ استدلاله ((قدس الله سره))
بل نقول: إنه يكفي احتمال ذلك لرد استدلاله العقلي المبني على القطع، إذ لعل الشارع رأى في الطفل قصوراً عن أن يُنشِأ فقال لا إنشاء للصبي (ورفع القلم عنه، لو قلنا بتعميمه لإنشائه) لا بمعنى أنّه نزله منزلة العدم بل بمعنى أنه كشف عن أنه ليس بإنشاء، فكما أن النائم غير منشأ لفقد القصد، والهازل غير منشأ لفقد الجد وإن كان له قصد، وكل من المورّي والمتّقي والمكرَه غير منشأ وإن كان له قصد وجد، فكذلك الصبي لعله يعاني بنظر الشارع الكاشف عن الواقع، من نوع ضعف لا يمكّنه ثبوتاً من القدرة على الإنشاء نظير ما لو كانت عضده تعاني من نوع ضعف لا يؤثر سيفه معه في قطع الشجرة.
بل يدل على ذلك: أنّ الشارع ميّز في بعض الأحكام الوضعية وكل الأحكام التكليفية بين البالغ وبين من لم يبلغ وإن بقيت له ساعة أو حتى ثواني ليصل إلى مرحلة البلوغ، مما لا يرى العقلاء فرقاً بينهما أبداً، فعلى مسلك العدلية والمعتزلة من تبعية الأحكام لمصالح ومفاسد في المتعلقات فلا بد من أن يكون ذلك لقصورٍ فيه، لا تعبداً، كما أن منعه الحائض من الصلاة وإن لم ندرك وجهه (إذ الصلاة عبادة فلماذا كانت صلاة الحائض مبعِّدة مكروهة، غير عبادة؟) لا يستلزم كون مانعية الحيض تعبدية بل الظاهر كونها واقعية، حسب تبعية الأحكام لمفاسد أو مصالح في الواقع.
بوجه آخر: لعل الصبي في قصوره عن الإنشاء (بما ندعيه، وبما يحتمل على الأقل) كالمرأة في قصورها بنظر الشارع عن المساواة مع الرجل في كل شيء (الإرث، والقصاص مثلاً) مع الرجل، فليس ذلك لأمر تعبدي بل لأمر واقعي وإن لم نفهمه. فتأمل
4- حصول الإنشاء والإيجاد أعم من الصحة والفساد
رابعاً: سلّمنا: أن إنشاء الصبي إنشاء وأنه يوجد المنشأ، لكنه أعم من كون الـمُنشَأ الموجد صحيحاً أو فاسداً، إذ غاية الأمر أن يكون الإنشاء مصداقاً للإيجاد، ولكن الإيجاد نوعان: إيجاد للصحيح وإيجاد للفاسد ألا ترى أنه قد توجد الدجاجةُ البيضةَ الفاسدة؟ وقد يوجد الشخص الخل الفاسد؟ فإذا أمكن أن يكون الإنشاء إنشاء فاسداً أي مما لا يترتب عليه الأثر أمكن أن يشمله حديث الرفع؛ إذ الصحة والفساد بمعنى ترتيب الأثر وعدمه بيد الشارع وإن لم يكونا بيده بمعنى المطابقة واللامطابقة.
ألا ترى أن الشارع اشترط في صحة عقد النكاح شروطاً، كأن لا تكون أخته أو أخت زوجته أو أمه، فإن أنشأ نكاحها وسلّمنا أنه قد وجد المنشأ (أي النكاح الموجَد بالإنشاء) فإنه نكاح فاسد باطل بنظر الشارع.
الايرواني: آثار العناوين، تترتب مطلقاً
وقال الايرواني: (وأمّا رفع الآثار المترتّبة شرعاً على العناوين المتولّدة من إنشائه على أن لا يكون البيع الحاصل بإنشائه محكوماً بأحكام البيع فذلك في البشاعة يساوق القول بعدم ترتيب أحكام الأموات على من مات بسيفه أو أحكام المصحف على ما كتب بقلمه وهكذا، ومعلوم بالقطع أن حديث الرفع لا يرفع إلا أحكاماً مترتّبة بلا واسطة على فعل الصغير لا أحكاماً مترتبة عليه حتى مع الواسطة)([7])
5- عقد الصبي يوجد عنوان البيع، لكن الآثار([8]) قد لا تترتب عليه
خامساً: وكلامه ((قدس الله سره)) يستبطن جواباً خامساً تصدى ((قدس الله سره)) لردّه، كما سيظهر، وتوضيح كلامه أنه وإن سلّمنا أن عقد الصبي إنشاء وأن الإنشاء يوجد العنوان الـمُنشأ (البيع) لكنه لا تترتب على هذا البيع الآثار الشرعية فالسلسلة هكذا: العقد الإنشائي ← عنوان النكاح أو البيع المنشأ ← آثارهما، فاعتبره ((قدس الله سره)) (في البشاعة يساوق...) مما يعني أنه انتقل من الإستحالة (التي جعلها الإشكال على دعوى عدم تأثير الإنشاء في حصول عنوان المنشأ) إلى البشاعة في دعوى عدم ترتيب الآثار على المنشأ؛ لبداهة أنه ليس محالاً.
والجواب واضح وهو أنه ما أكثر ذلك؟ فإن الفقه يمتلأ بالأمثلة على ما اعتبره غاية في البشاعة مع أن الإجماع عليه وهو ((قدس الله سره)) منهم، ألا ترى، مثلاً، أنه لو قتل شخصاً بسيفه (فتأثير السيف في القطع والقتل تكويني) فإنه لا يعقل عدم موته بردع الشارع ولا بغيره مادام قد قتله بسيفه، فهذا هو الشق الأول من كلامه وهو ترتب الأثر التكويني (الموت) على قطعه بسيفه عنقَ المضروب، ولكن، وهنا الشاهد في رد مدعاه، لا شك في ان بعض أحكام الأموات تترتب وبعضها لا تترتب على هذا الموت، قطعاً، فإنه لو قتل أباه أو ابنه لا سمح لله حصل الموت قهراً لكن بعض أحكام الموت تترتب كبينونة زوجته([9]) وتوزيع إرثه، وبعضها الآخر لا يترتب كإرثه منه إذ القاتل لا يرث فمع أن الإرث حكم الموت ((وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ))([10])([11]) إلا أن الشارع فصّل فرتب بعض الأحكام دون بعض بحسب الشروط التي اشترطها.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
عن أبي الجارود: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ((رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً أَحْيَا الْعِلْمَ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا إِحْيَاؤُهُ؟ قَالَ: أَنْ يُذَاكِرَ بِهِ أَهْلَ الدِّينِ وَأَهْلَ الْوَرَعِ)) (الكافي: ج1 ص41)
---------------------
([1]) (أوجد العنوان فهو إنشاء، الموقوف على كونه إنشاء أوجد العنوان) فهو مصادرة.
([2]) بزعم المنشأ.
([3]) أي حسب مبناه.
([4]) في مثال النكاح.
([5]) أي في مثال بيع الصبي أو المكره.
([6]) ومن عَضَدَه كالايرواني.
([7]) الحاج ميرزا علي الايرواني الغروي، حاشية المكاسب، الناشر: ذوي القربى ـ قم، ط3 ج2 ص168.
([8]) أي الآثار الشرعية للبيع.
([9]) زوجة المقتول.
([10]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص406.
([11]) فيقال: الميت تبين زوجته ويرثه ابنه، مثلاً، لكن ابنه لو كان قاتله لما ورثه.
|