• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : البيع (1444هـ) .
              • الموضوع : 580-في الدلوك خصوصية تكوينية وأخرى تعبدية تنزيلية .

580-في الدلوك خصوصية تكوينية وأخرى تعبدية تنزيلية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(580)

سبق: (وبوجه آخر: لا شك في ان وجوب الصلاة عند الدلوك، كسائر أحكام الشارع، تابعة لمصالح في المتعلقات وليست عبثاً ولا تشهياً، فذلك مذهب العدلية والمعتزلة، وعليه: نكتشف بالبرهان الإنّي من قول الشارع (دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة) ان هنالك مصلحة ذاتية كامنة في الدلوك تقتضي إيجاب الصلاة عنده، وإلا لوجب ان لا يعتبره الشارع أصلاً أو يعتبره ظرفاً فقط ولوجب ان يعتبر الوجوب غير مشروط بالدلوك بل الواجب فقط (كما يقوله الفصول) وهو خلاف قول الشيخ والمشهور)([1]).
مناقشات مع الشيخ
وفي بحث التزاحم تعليقاً على قول الشيخ ((قدس سره)): (مضافاً إلى أنه لا معنى لكون السببية مجعولة فيما نحن فيه حتى يتكلم أنه بجعل مستقل أو لا... الخ)([2]) أشكلنا عليه بما يلي: (ولكن يرد على كلامه ((قدس سره)):
1- لا مانع من تحقق خصوصية في الدلوك
أولاً: بأنه ما المانع من أن تكون في الدلوك خصوصية ذاتية أو صنفية تقتضي إيجاب الشارع للصلاة عنده؟ فكما أن النار فيها خصوصية ذاتية تقتضي بها الإحراق([3]) فلعله توجد في الدلوك خصوصية اقتضائية تستدعي إيجاب الصلاة لدى حصوله، فلا وجه لقوله (لا نعقل) فإن هذا الشق معقول محتمل.
بل نقول: أن الدليل دال على ذلك؛ حيث إن الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات على مسلك العدلية ومنهم الشيخ؛ وكما أنها تابعة في أصلها لمصالح في المتعلقات فكذلك هي تابعة في قيودها وخصوصياتها لمصالح في المتعلقات؛ وإلا كان التقييد بها لغواً لا يصدر من الحكيم.
لا يقال: تكفي الخصوصية في الجامع؟
إذ يقال: لو كانت الخصوصية في الجامع لوجب التخيير بين الأفراد لا إيجاب الصلاة عند الدلوك وتحريمها قبله.
2- وتبعية الأحكام لمصالح في المتعلق، دليل
وبوجه آخر: يدلنا على أن للدلوك خصوصية - إما في ذاته أو في صنفه ومشخصاته- أن الشارع حرّم صلاة الظهر قبله وأوجبها بعده، ولو لم تكن خصوصية فيه لكان إيجابه لها في هذا الوقت بلا مصلحة وكان تحريمه قبله لا عن مفسدة في الجواز قبله ،وكما لا يصح  إيجاب الأصل أو تحريمه بلا مصلحة ومفسدة([4])؛ فإنه لا يصح في القيد التقييد به - بحيث يكون بدون القيد حراماً ومعه واجباً - إلا لمصلحة أو مفسدة.
3- والروايات دالة على خصوصية فيه
ويدل عليه: أن الروايات دلت على أن في الدلوك خصوصية، وكذا في سائر أوقات الصلوات، فمنها ما دل على أن أبواب السماء تفتح لدى الدلوك وأن الدعاء أقرب للإجابة ،وأن الصلاة حينئذٍ تدفع الاضرار الكبيرة وتجلب المنافع العظيمة؛ والروايات كثيرة جداً:
منها: عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله ((عليه السلام)) يقول : إذا دخل وقت صلاة فتحت أبواب السماء لصعود الأعمال فما أحب ان يصعد عمل أول من عملي ولا يكتب في الصحيفة أحد أول مني([5]).
ومنها : عن بكر بن محمد قال: قال أبو عبد الله ((عليه السلام)): لَفَضلُ الوقت الأول على الأخير خير للمؤمن من ولده وماله([6]).
ومنها: عن سعد بن أبي خلف عن أبي الحسن موسى ((عليه السلام)) قال: الصلوات المفروضات في أول وقتها إذا أقيم حدودها أطيب ريحا من قضيب الآس حين يؤخذ من شجره في طيبه وريحه وطراوته فعليكم بالوقت الأول([7]).
ومنها : عن قتيبة الأعشى ، عن أبي عبد الله  ((عليه السلام)) قال : إن فضل الوقت الأول على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا([8]).
ومنها: فقه الرضا ((عليه السلام)): (إن الرجل قد يصلي في وقت، وما فاته من الوقت خير له من أهله وماله)([9]).
وغير ذلك مما يظهر منه أن للوقت مدخلاً اقتضائياً في الوجوب ،وللوقت قرباً وبعداً من الزوال مدخلاً في زيادة الأجر..)([10]).
الجمع بين الجهة التكوينية والتنزيلية الاعتبارية
والتحقيق: انه لا يمتنع، بل لا يبعد، ان يقال بالجمع بين الجهتين: الخصوصية التكوينية الذاتية والصفة التي يوجدها الشارع في الدلوك، بان تجتمع الجهتان الواقعية والتنزيلية، خلافاً لما ربما يستظهر من كلامه ((قدس سره)) من كونهما من قبيل مانعة الجمع، وذلك بان يقال: بان في الدلوك خصوصية ذاتية تقتضي إيجاب الشارع الصلاة عندها ثم زاد الشارع على ذلك بمتمم الجعل بان جعل فيه صفة اعتبارية، نظير اعتباره وقت استجابة الدعاء، فبذلك يتحول المقتضي لجعل الوجوب إلى علّة تامة للجعل، والمقصود كونه علّة تامة للجعل بالنظر للحكمة، فان وجود المقتضي غير كاف في تحقق المعلول بل لا بد من توفير الشروط ورفع الموانع، فلعل الشارع فعل ذلك.
متمم الكشف ومتمم الجعل، شاهدان
ويوضحه: مبحث تتميم الكشف، فانه مجمع الجهتين التكوينية والتنزيلية، فان الامارة كخبر الثقة كاشفة عن الواقع بنسبة 85% مثلاً، إذ يحتمل في الثقة الكذب كما يحتمل فيه الخطأ لكنّ الغالب فيه الصدق والمطابقة، وعليه: يحتمل فيه بنسبة 15% الكذب أو الخطأ، فعلى نظرية متمم الكشف، فان الشارع تمّم كشف خبر الثقة للواقع بان أمضى احتمال الخلاف فصارت نسبة كشفه عن الواقع 100% مركبة من جهة حقيقية وأخرى تنزيلية، فكذلك يمكن ان يكون المقام.
ويمكن ان يُنظَّر له أيضاً بمتمم الجعل، في التقسيمات اللاحقة على الأمر حيث لا يمكن ان تكون متعلَّقةً له؛ نظراً لوجوب كون الموضوع بتقسيماته سابقاً على الأمر به، ولذا فان الأمر يتعلق بالموضوع بتقسيماته السابقة دون اللاحقة، والحل، بحسب النائيني، بمتمم الجعل بصدور أمر أول بالموضوع فيتحقق الأمر به وتتحقق تقسيماته اللاحقة على الأمر، ثم يتعلق به بما له من الأقسام أو بعضها أمر ثاني، وذلك كقوله (صلِّ) ثم قوله مرة ثانية (صلِّ بقصد الأمر) فتأمل.
الدلوك سبب أو علامة عليه مقارنة له
نعم يحتمل في الدلوك ان لا يكون هو السبب ذو الخصوصية الذاتية التي تقتضي إيجاب الصلاة عنده وتحريمه بعده، بل يكون مجرد علامة على أمر تكويني آخر هو الحامل للخصوصية، وإنما لم يذكره الشارع لبعده عن أفهامنا فذكر ما يقارنه دائماً مما لا يخفى على أحد لكونه محسوساً وهو الدلوك، لكنّ هذا الاحتمال وإن أمكن إلا انه خلاف ظاهر بل نص ما بنى عليه الشيخ وهو قول الشارع (دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة) فهو سبب لا انه مقارن للسبب.
نعم بعض الأدلة السابقة وغيرها محتمل للوجهين، لكن بعضها الآخر ظاهر في مدخلية الوقت نفسه، أي وصول الشمس في حركتها في الأبراج إلى نقطة ما كنقطة وسط السماء، في ترتب آثار وضعية واعتبارية تشريعية عليه.
وقد ذكرنا في بحث سابق (ثانياً: يرد على قوله (ولو كانت، لم تكن مجعولة من الشارع) أنها يمكن أن تكون مجعولة من الشارع؛ وذلك لأن السببية الشأنية ليست مجعولة من قبل الشارع وهي لازم الذات اقتضاءً ، وأما السببية الفعلية فتكون هي المجعولة له.
وبعبارة أخرى :إن صح كلامه في السببية الشأنية الذاتية - إذا فرض انها كذلك-  فلا يصح في السببية الفعلية لـِمَا كانت سببيته الذاتية الشأنية تكوينية فقط، فمثلاً: قد يكون الدلوك في حد ذاته مقتضياً لأن يُجعل وجوب الصلاة عنده، فهو سبب شأني وهو في هذا الحد غير مجعول للشارع بما هو شارع، لكنّ جعله سبباً فعلاً بتتميم الجعل، هو المجعول من الشارع بما هو شارع، فتدبر([11]))([12]).
الصحة والبطلان حكمان عقليان لا شرعيان
فهذا كله توجيه الشيخ للسببية والشرطية والمانعية والجزئية وأدلته على إنكار كونها مجعولة بالاستقلال وانها ليست إلا أموراً انتزاعية، وحيث انه أنكر بالكلية وجود أحكام وضعية مستقلة، وحيث كانت الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية وجب عليه ان يستقرأ كافة الأحكام الوضعية ويثبت انه (لا شيء منها بمجعول بالاستقلال).. ولذا أكمل استقراءه للأحكام الوضعية وتصدى للإجابة عن كل واحد واحد منها فقال عن الصحة والبطلان: (وأما الصحة والفساد، فهما في العبادات: موافقة الفعل المأتي به للفعل المأمور به ومخالفته له، ومن المعلوم أن هاتين - الموافقة والمخالفة - ليستا بجعل جاعل)([13]).
والحاصل: ان الصحة والفساد مما يحكم بهما العقل ومما يتصف بهما الفعل قهراً فور الإتيان به، فلو طابق ما أتى به لما أمر الشارع به، كان، قهراً، صحيحاً، بل ليس أمره بيد الشارع أصلاً فانه لو طابق المأتي به للمأمور به، لما أمكن للشارع ان يحكم ببطلانه وإلا لناقض نفسه، فان قال انه صحيح فهو إرشاد إلى حكم العقل به إذ لا يمكنه جعل الصحة له أو البطلان فان القدرة تتعلق بالطرفين لا بطرف واحد، إضافة إلى ان الحكم العقلي بكونه صحيحاً لدى المطابقة أسبق رتبة من الحكم الشرعي ولذا فانه يلزم ويثبت له ويوصف الفعل به، أي بالصحة، وإن لم يكن هنالك شرع وشريعة.
وقد تفصّى المحقق اليزدي عن ذلك بوجهين، كما سيأتي بإذن الله تعالى.


وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الكاظم ((عليه السلام)): (( إِنَّ الْعَاقِلَ رَضِيَ بِالدُّونِ مِنَ الدُّنْيَا مَعَ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَرْضَ بِالدُّونِ مِنَ الْحِكْمَةِ مَعَ الدُّنْيَا فَلِذَلِكَ رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم‏)) (تحف العقول: ص387)

--------------------------

([1]) الدرس (579).
([2]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج3 ص129.
([3]) وليست علة تامة له لاشتراط المحاذاة الخاصة وقابلية القابل ؛ بأن لا يكون الخشب مرطوباً أو مطلياً بمادة عازلة مثلاً.
([4]) إلا في الامتحاني وشبهه.
([5]) تهذيب الأحكام: ج2 ص41.
([6]) المصدر نفسه: ج2ص40.
([7]) المصدر نفسه :ج2 ص40.
([8]) الكافي: ج3 ص274.
([9]) فقه الرضا ((عليه السلام))، الناشر: المؤتمر للإمام الرضا ((عليه السلام))، ص71.
([10]) مباحث التزاحم، الدرس (65/895) 9/ج2/ 1439هـ والفوائد والبحوث، الفوائد الأصولية: (317) بتصرف.
([11]) بحث التزاحم: الدرس (65).
([12]) مباحث التزاحم الدرس (65/ 895)، والفوائد والبحوث، الفوائد الأصولية: (317).
([13]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج3 ص129.

 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4333
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاثنين 20 ربيع الاول 1444هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14