بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(578)
شهرة سببية الدلوك أعم من الطولية
وقال الشيخ ((قدس سره)): (ولهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء "سببية الدلوك" و"مانعية الحيض"، ولم يرد من الشارع إلا إنشاء طلب الصلاة عند الأول، وطلب تركها عند الثاني؟)([1]).
يقول ((قدس سره)): حيث اشتهر بين الفقهاء سببية الدلوك ومانعية الحيض مع أنه لم يرد من الشارع إلا ((أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ))([2]) و((دَعِ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ))([3]) فإننا نستكشف الطولية وأنهم استفادوا السببية باعتبارها منتزعة من ((أَقِمِ الصَّلاةَ)).
المناقشة:
ولكن يرد عليه: أن استكشاف السببية والمانعية من هذين الدليلين أعم من الطولية إذ قد تكون مستفادة بنحو العرضية، بل لا ريب في ذلك لما سبق من أن الوجوب استفيد من ((أَقِمِ الصَّلاةَ)) والسببية وهي الحكم الوضعي استفيدت من الجملة اللاحقة وهي ((لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)) ولولاها لما استفيدت السببية كما أن المانعية استفيدت من تعليق النهي عن الصلاة على كونها في أيام أقرائها، فليس الحكم الوضعي مستفاداً من الحكم التكليفي بل استفيد الأخير من الصدر وما قبله من ما بعده([4]).
بوجه آخر: النسبة بين الحكم التكليفي والوضعي، من وجه، فقد يجعل حكم تكليفي من غير وضعي كما لو اقتصر على الصدر ((أَقِمِ الصَّلاةَ)) وقد يعكس كما لو قال ((لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)) فإنه يستفاد منه سببية الدلوك لأمر ما لكن هل هو الوجوب أم الإستحباب أم الحرمة أم غير ذلك؟ لا يعلم إلا إذا ذكر الحكم إذ قد يقال: لدلوك الشمس تستحب النافلة أو لغروب الشمس تحرم صلاة الظهر أداءً.
الشيخ: محتملات ثلاث في الحكمين التكليفي والوضعي
وقال الشيخ ((قدس سره)): (فإن أراد تباينهما مفهوماً فهو أظهر من أن يخفى، كيف! وهما محمولان مختلفا الموضوع.
وإن أراد كونهما مجعولين بجعلين، فالحوالة على الوجدان لا البرهان.
وكذا لو أراد كونهما مجعولين بجعل واحد، فإن الوجدان شاهد على أن السببية والمانعية في المثالين اعتباران منتزعان، كالمسببية والمشروطية والممنوعية)([5]).
المناقشة: المحتمل الرابع: جعلُ واحدٍ عنواني لأمرين
أقول: الشقوق أربعة، رابعها الذي أغفله ((قدس سره)) أو رفضه، وهو المختار والذي لا يرد عليه الإشكال وهو مراد السيد الأعرجي، وهي:
1- تباينهما مفهوماً، وهو صحيح وبديهي.
2- أن يكونا مجعولين بجعلين مستقلين أي أن يكونا مُنشَأين بإنشائين وجملتين مستقلتين.
وقد أشكل عليه الشيخ بالحوالة على الوجدان ويقصد به ما نجده بالحس والتتبع في الآيات والروايات، ولا يقصد به الوجدان بمعنى الضمير والإدراك الباطني الخفي؛ إذ الوجدان والحس يشهد أنه لم يرد إلا إنشاء واحد وهو قوله ((أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ))([6])، وقوله: ((دَعِ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ))([7]).
3- أن يكونا مجعولين بجعل واحد.
وفيه، بحسب الشيخ، أنه ليس ههنا مجعولان عَرْضيان بل مجعول واحد (تكليفي) وهناك مجعول طولي منتزع منه، وذلك بحسب الوجدان الذي يقصد به ههنا الضمير الداخلي.
ولكن يرد عليه: أولاً: وجود الشق الرابع الذي بنى ((قدس سره)) على نفيه وهو أنه يمكن جعل السببية والحكم التكليفي جميعاً بجعل واحد، فإن السببية اعتبار والإعتبار يمكن جعله بمفرده ويمكن جعله بضميمة جعل اعتبار آخر بنفس الجملة أو بجملة أخرى، والحاصل: كونهما مجعولين عَرْضيين بجعل واحد.
ويوضحه: أنه لا شك في إمكان إنشاء معاملتين، بإنشاء واحد عنواني أي جملة واحدة، وذلك هو المشهور فإنه كما يمكنه أن يقول مثلاً بعتك هذا الكتاب بدينار ثم يقول بعتك الكتاب الثاني بدينار، فهما حينئذٍ مُنشآن وإنشاءان، يمكنه أن يبيعهما بإنشاء واحد فيقول: (بعتك الكتابين بدينارين) فهو لفظ واحد لكنه قد أوجَد به معاملتين ومُنشأين؛ ولذا فإن له خيار تبعض الصفقة لو بانَ مثلاً أن أحد الكتابين مغصوب أو غرري أو شبه ذلك، وذلك إذا كان بيع كل منهما بنحو اللابشرط، والكاشف عنه إما الإرتكاز العرفي أو تبانيهما قبل العقد أو غير ذلك، فلا يعترض بالظهور أو الإنصراف إلى الإحتمال اللاحق([8])، إذ الكلام والمناقشة مع الشيخ ((قدس سره)) في الإمكان الثبوتي، على أن الإثبات ممكن بأحد الوجهين السابقين ونظائرهما، نعم لو أراد البشرط شيئية بحيث يكون المبيع مجموعهما لا كل منهما لكان من الإنشاء الواحد والـمُنشأ الواحد، والكاشف عنه أحد الأمرين السابقين وغيرهما.
والشاهد أنه يمكن إنشاء واحد (لفظي أو عنواني) ومنشآن، نعم يعود ذلك لبّاً إلى إنشائين اندكّا في لفظ أو وُجِدا به، ولذا عبّرنا بـ(إنشاء واحد لفظي أو عنواني، أي ليس الأمر كذلك واقعاً).
2- بل هما جعلان وإنشاءان مع مُنشَأين
ثانياً: ما سبق من أنه ليس إنشاءً واحداً حتى لفظاً وعنواناً بل هما إنشاءان بجملتين لـمُنشأين: إنشاء الحكم التكليفي بـ((أَقِمِ الصَّلاةَ)) وإنشاء الحكم الوضعي بـ((لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)).
والملخص
4- والحاصل: أن الشق الرابع هو: أنهما مجعولان عرضيين بجعل واحد، لا مجعولان طوليين بجعل واحد، وهو صحيح واقع وأما القول بأنهما مجعولان عرضيين بجعلين بجملة مركبة، فإنه الأظهر، ثم سابقه، لكن هذا ليس شقاً خامساً بل هو ثاني الشيخ الذي نفاه وأنكره.
قياس الشيخ المقام على المسببية ورد اليزدي
وقال الشيخ ((قدس سره)): (كالمسببية والمشروطية والممنوعية).
وأشكل عليه المحقق اليزدي ((قدس سره)) بقوله: (لا شاهد في هذا أيضا لمدّعاه، لأنّ المسببية والمشروطية والممنوعية لا تحتاج إلى جعل مغاير لجعل السببية والشرطية والمانعية، بل جعل السببية عين جعل المسببية وجعل الشرطية والمانعية عين جعل المشروطية والممنوعية، لأنّ جاعل السببية مثلاً إنّما يجعل الملازمة بين وجود شيء ووجود شيء آخر، فتحصل هنا إضافات كثيرة ويصح به إطلاق المسبّب بالكسر على الفاعل الجاعل باعتبار الإسناد الصدوري والسبب على الملزوم باعتبار النسبة القيامية والمسبب على اللازم باعتبار نسبته من حيث التأثّر، وهكذا باعتبار نسبته إلى الزمان والمكان مع أنّ حقيقة الأمر المجعول شيء واحد ولا ينافي ذلك حصول جميع هذه الاضافات)([9]).
التحقيق
أقول: كلامه([10]) وإن صح في حد ذاته بمعنى إمكانه لكننا في غنى عنه إضافة إلى كونه خلاف الظاهر([11])، ووجه الإستغناء عنه: أن المسببية لازمة للسببية والسببية علّة لها فجعل السببية يلزمه طولاً قهراً جعل المسببية ولا يمكن نفي هذا اللازم أو عدم جعله طولياً، عكس جعل الحكم التكليفي الذي يمكنه أن لا يجعل معه حكماً وضعياً كأن يجعل جواز تصرفاته في هذه الدار من غير أن يجعل له الملكية أو يجعل جواز مباشرتها من غير أن يجعل له الزوجية، كالأمة المحللة، أو يجعل وجوب الصلاة من غير أن يجعلها مشروطة بكذا (بوقت أو بطهور، أو بساتر وقبلة.. الخ).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين ((عليه السلام)): ((جُمِعَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي ثَلَاثِ خِصَالٍ: النَّظَرِ، وَالسُّكُوتِ، وَالْكَلَامِ، فَكُلُّ نَظَرٍ لَيْسَ فِيهِ اعْتِبَارٌ فَهُوَ سَهْوٌ، وَكُلُّ كَلَامٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ فَهُوَ لَغْوٌ، وَكُلُّ سُكُوتٍ لَيْسَ فِيهِ فِكْرَةٌ فَهُوَ غَفْلَةٌ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ نَظَرُهُ عَبَراً، وَسُكُوتُهُ فِكْراً، وَكَلَامُهُ ذِكْراً وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ وَأَمِنَ النَّاسُ شَرَّهُ)) (من لا يحضره الفقيه: ج4 ص405).
---------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج3 ص128.
([2]) سورة الإسراء: الآية 78.
([3]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص83.
([4]) (ما قبله) هو الوضعي، (من ما بعده): ما بعد الصدر وهو الذيل وآخر الجملة في الآية الكريمة وهو ((لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)) .
([5]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج3 ص128.
([6]) سورة الإسراء: الآية 78.
([7]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص83.
([8]) وهو معاملة واحدةٌ بشرط شيئية.
([9]) الشيخ محمد إبراهيم اليزدي النجفي، حاشية فرائد الأصول، دار الهدى، ج3 ص153.
([10]) جعل الملازمة.
([11]) فلأن ظاهر ((أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)) إذ ظاهره جعل السببية لا الملازمة.
|