• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الظن (1442-1443هـ) .
              • الموضوع : 118-مناقشة مع الكفاية في تفسيره للإطاعة الظنية .

118-مناقشة مع الكفاية في تفسيره للإطاعة الظنية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(118)

الكفاية: العقل حاكم وقاعدة الملازمة غير جارية هنا

وقال صاحب الكفاية: (ولا مجال لاستكشاف نصب الشارع من حكم العقل، لقاعدة الملازمة، ضرورة إنّها إنّما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي، والمورد هاهنا غير قابل له، فإن الإطاعة الظنية التي يستقل العقل بكفايتها في حال الانسداد إنّما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها، وعدم جواز اقتصار المكلف بدونها، ومؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه، وهو واضح.

واقتصار المكلف بما دونها، لما كان بنفسه موجباً للعقاب مطلقاً، أو فيما أصاب الظن، كما إنّها بنفسها موجبة للثواب أخطأ أو أصاب من دون حاجة إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها، كان حكم الشارع فيه مولوياً بلا ملاك يوجبه، كما لا يخفى، ولا بأس به إرشادياً، كما هو شأنّه في حكمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية)([1]).

لأنها لا تجري في سلسلة المعاليل

أقول: قوله (ولا مجال...) لأنَّ قاعدة الملازمة لا تجري - في نظره - في سلسلة المعاليل، كما سبق تفصيله والمقام منه ؛ لأنَّه بحث عن كيفية الإطاعة وأنّ اتّباع الظن بأحكامه تعالى كافٍ في امتثال أوامره واتّباع الوهم غير كاف بل مستلزم للعقاب، وما وقع في سلسلة المعاليل لا يقبل الحكم الشرعي أبداً لاستلزامه اللغوية أو طلب الحاصل أو اجتماع المثلين أو التسلسل أو غيرها مما سبق وسبق الجواب عنه([2]).

ولكن يرد عليه (قدس سره) إضافة إلى ما سبق من إمكان الأمر الثاني (الشرعي المولوي) بعد الأمر الأول (العقلي المستقل) وما سبق من استظهار القلب([3]):

مناقشات: تفسيره من تفسير القسيم بعدم قسيميه

أولاً: ان تفسيره (قدس سره) لكفاية الإطاعة الظنية بـ(إنما هي...) غيرُ تام؛ فإنَّه أكلٌ من القفا إذ الشيء يُفسَّر بنفسه إن احتاج إلى تفسير وكفاية الإطاعة الظنية لا تحتاج إلى تفسير فإن فُسِّرت فسِّرت بنفسها أي بما يفيد ماهيتها أي مفهومها هي لا بغيرها الأعلى منها أو الأدنى الخارج عنها فإنَّه فسَّر (الإطاعة الظنية التي يستقل العقل بكفايتها) بـ(عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها) وهو القطع و(وعدم جواز اقتصار المكلف بدونها) وهو الوهم والشك والأول يعني: عدم جواز مؤاخذة الشارع على الأزيد وهو تركه القطع، والثاني: يعني عدم جواز اقتصار المكلف على العمل بالشك أو الوهم الذي هو دونها (أي دون الإطاعة الظنية) فقد فسر القسيم بقسيميه الآخرين([4]).

والعجب أنَّه (قدس سره) كان يمكنه إبقاء القضية والجملة على ظاهرها (استقلال العقل بكفاية الإطاعة الظنية) والإشكال عليها بأنَّه مادام العقل استقلَّ بها فلا يمكن للشارع أن يحكم فيها ؛ لامتناع الحكم الشرعي المولوي، فيما حكم به العقل، فلم يكن أصلاً بحاجة إلى لَيِّ عنق المطلب وتفسيره بعدم قسيميه ثم القول بأنَّ هذين القسيمين (اللذين فسر كفاية الظن بعدمهما) لا يصحان!

2- وهناك إشكال أسبق رتبةً

ثانياً: ان قوله (ومؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه، وهو واضح) وإن صح، لأن أفعالنا تخضع لحكمه لا مؤاخذته لأنها من أفعاله، ولكن يوجد ههنا إشكال سابق كان هو الأولى بطرحه وهو: ان مؤاخذة الشارع غير ممكنة في المقام أي المؤاخذة على ترك المكلف الأزيد منها أي تركه العمل بالقطع، وذلك لعجزه عن العمل به، لأن الفرض ومبنى الكلام هو الانسداد وعدم إمكان القطع وانه حينئذٍ ينتقل إلى الظن، فلا يصح التعليل إلا بأنَّ عدم حكم العقل بلزوم اتّباع القطع وعدم مؤاخذة العبد على عدم عمله بالقطع حينئذٍ إنما هو لعدم إمكانه على الفرض، ولا يصح الكلام عمّا لا يصح فرضه إلا بعد فرض إمكان القطع وقدرة العبد عليه (وذلك خلف مفروض الكلام) فلا يصح تعليل عدم حكم الشارع بأنَّ مؤاخذته إياه على ترك القطع غير قابل لحكمه!!

ثالثاً: قوله (بلا ملاك يوجبه) سبق الجواب عنه مفصلاً بأنَّ ملاكه في اتّباع الظن في الأمر المحركيةُ والباعثية وفي النهي الزاجرية (عن اتّباع الوهم أو الشك) وسبق أنَّ القسمة ليست حاصرة بين إما ان يكون الحكم العقلي محركاً أو باعثاً فالحكم الشرعي لا يُعقَل كونه حينئذٍ محركاً أو باعثاً لأنه تحصيل حاصل، وإمّا لا فلا يكون الحكم الشرعي باعثاً أيضاً؛ إذ سبق الجواب بوجهين فراجع.

الكفاية: صحة جعل طريقٍ تنزيلاً، لا يثبت صحة الحكم بما حكم به العقل

وقال (قدس سره): (وصحة نصبه الطريق وجعله في كلّ حالٍ بملاكٍ يوجب نصبه وحِكمةٍ داعيةٍ إليه، لا تنافي استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحوٍ حال الانسداد، كما يحكم بلزومها بنحوٍ آخر حال الانفتاح، من دون استكشاف حكم الشارع بلزومها مولوياً، لما عرفت)([5]).

وخلاصة إشكال المحقق الخراساني على نفسه هو: ان العقل وإن حَكم بكفاية الإطاعة الظنية، لكن الشرع يمكنه أن يحكم بها أيضاً، وذلك تنزيلاً ويكون حُكمُهُ لمصلحةٍ أخرى (غير مصلحة المتعلَّق) كمصلحة التسهيل مثلاً، قال في الوصول: (قلت: (صحة نصب الطريق وجعله) أي صحة جعل الطريق‌ (في كل حال) من حالي الانفتاح والانسداد (بملاك يوجب نصبه و) ب (حكمة داعية اليه) أي الى نصبه‌ (لا تنافي استقلال العقل بلزوم الاطاعة) وهذا خبر لقوله «صحة» أي ان صحة نصب الطريق غير منافية لكون العقل مستقلاً في باب الاطاعة، إذ ربما ينصب الشارع طريقا للتسهيل بما ليس للعقل نصبه، كما لو نصب الشارع الشهرة طريقاً فان العقل لا يرى للشهرة كشفاً عن حكم المولى.

والحاصل: ان العقل لا يمنع نصب الشارع للطريق وانما يمنع عن كون الطريق الذي عينه العقل مجعولاً للشارع مولوياً، فالعقل يستقل بلزوم الاطاعة (بنحوِ) الظن‌ (حال الانسداد كما يحكم بلزومها) أي لزوم الاطاعة (بنحوٍ آخر) كالقطع‌ (حال الانفتاح من دون استكشاف حكم الشارع بلزومها) أي الاطاعة (مولوياً) وان كان لا بأس بإلزام الشارع للاطاعة ارشاديا (لما عرفت).)([6]).

بعبارة أخرى: للشارع في حالتي الانفتاح والانسداد ان ينصب طريقاً غير طريق العقلاء أو يلغي طريقاً عقلائياً عن طريقيته، وذلك تنزيلاً أي بعد ان يَخرُجَ عن الطريقية المحضة للوصول إلى الواقع، إلى المصلحة السلوكية في نصب الطريق كمصلحة التسهيل مثلاً.

ومثاله: (غَيبة المسلم)، إذ لا يعدّها العقلاء طريقاً إلى إحراز طهارته بل يجدون استصحاب النجاسة حاكماً، لكنّ الشارع جعل غَيبته طريقاً إلى إحراز طهارته (تنزيلاً) وإن كان بشروط ككونه ملتفتاً إلى تنجس ثوبه أو بدنه وغيابه فترة وبكيفية يحتمل فيها أنَّه طهّر نفسه، مع ان العقلاء لا يجدون غيبته رغم اجتماع الشروط الشرعية طريقاً إلى إحراز الطهارة، وكذلك (اليد) فانها أَمارة الملك شرعاً لكن العقلاء لا يجدونها أمارة إلا في الجملة ولذا لو احتملوا عقلائياً انه مستأجر فَحَصوا وحققوا ولم يكتفوا باليد دليلاً على ملكه، خاصة إذا كان في منطقة يكثر فيها الاستئجار. فتأمل

وكذلك العكس: حيث يرى العقلاء خبر الثقة الضابط بسرقة زيد مثلاً حُجة، وطريقاً ولكن الشارع لا يعتبره حجة بل يشترط الشاهدين مع انه اكتفى بخبر الثقة في الأعلى منه وهو نقل كلام المعصوم المتضمن للأحكام الكلية.. وهكذا.

فأجاب الآخوند: انه وإن صح ان للشارع ان ينصب طريقاً تنزيلياً إلى جوار الطريق العقلي لكنه خروج عن الفرض ومحل الكلام إذ الكلام إنما هو في ان يحكم الشارع بلزوم اتّباع نفس ما حكم به العقل وهو (كفاية الظن) على الانسداد فإنه إذا حكم به كان حكم الشارع به ثانياً بلا ملاك يوجبه، كما قال، أي لغواً أو طلباً للحاصل. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

صلى الله على محمد وآله الطاهرين

قال الإمام الرضا (عليه السلام): ((الصَّغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ طُرُقٌ إِلَى الْكَبَائِرِ، وَمَنْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ فِي الْقَلِيلِ لَمْ يَخَفْهُ فِي الْكَثِيرِ‏)) (عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص180).


-------------------
([1]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ـ قم: ص321.

([2]) قال السيد الوالد (قدس سره) : (وقد وجّهوا عدم كون الأمر بالإطاعة مولويا بأمور: كقولهم: ان الأمر لا بد وأن يكون لغرض - كما هو مذهب العدلية - فإن كان الغرض من الأمر بالإطاعة نفس الغرض الأول الذي يتحقق بالأمر الأول - كالأمر بالصلاة مثلا - فهو لغو، اذ لا تعدد في الغرض والغرض الواحد يكفيه أمر واحد. وإن كان الغرض بالإطاعة غير الغرض الاول فهو غير معقول، اذ الأمر المولوي الحقيقي لا يدعو إلّا الى ما في المتعلق من الغرض، فلا يمكن أن يكون الأمر بإطاعة أمر الصلاة لغرض آخر غير ما يدعو إليه الأمر بالصلاة.
وقولهم: ان أمر المولى إن كان محركاً لم يبق مجال لأمر ثان، وإن لم يكن محركاً لم ينفع الأمر الاول.
وقولهم: ان الأمر بالإطاعة مولوياً موجب للتسلسل، إذ الأمر الثاني لا يخلو اما أن يكون له اطاعة أم لا؟ فان لم تكن له اطاعة كان لغوا وإن كان له اطاعة احتاج الى أمر ثالث، ولو كان الامر الثالث ناشئاً عن نفس الامر بالإطاعة فانه يشمل نفسه على القضية الطبيعية، كما يشمل قوله «كل خبري صادق» نفس هذا الخبر، والأمر الثالث يحتاج الى أمر رابع وهكذا وهو تسلسل. الى غير ذلك من المحاذير المذكورة في محلها) (الوصول إلى كفاية الأصول: ج4 ص162) وقد أجبنا عنها جميعاً سابقاً فراجع.

([3]) قلب الإشكال عليهم.

([4]) القسيم الظن وحكمه كفاية إطاعة أحكام الشارع به. والقسيمان: 1- القطع وحكمه عدم جواز مؤاخذة الشارع على تركه، مادام الباب منسدّاً، 2- والوهم والشك وحكمهما عدم جواز عمل المكلف بأي منهما.

([5]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ـ قم: ص321-322.

([6]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الوصول إلى كفاية الأصول، دار الحكمة ـ قم: ج4 ص163.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4254
  • تاريخ إضافة الموضوع : الأربعاء 15 ذي القعدة 1443هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14