بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(556)
لزوم كثرة الاستثناء من تعميم حديث الرفع
الوجه الخامس: لزوم كثرة الاستثناءات لو أريد من حديث رفع القلم الأعم إذ لا بد ان يخرج منه حينئذٍ الأحكام الوضعية([1]) والتكليفية اللاإقتضائية والعقوبة الدنيوية وبعض التكليفية الاقتضائية كما في موارد المستقلات العقلية، فلذلك التجأ الشيخ، بحسب بعض الأعلام، إلى القول بالمعنى الأخص وهو ان المراد منه رفع المؤاخذة.
مناقشة الوجه الأول
سبق ان الوجه الأول هو أن: (الشيخ في مناقشته الأولى يدّعي أنّ المرفوع هو مجرّد قلم المؤاخذة دون الأحكام؛ لأنّ المرفوع هو الأمر الثقيل وليس الثقيل إلا المؤاخذة دون نفس الحكم الذي ليس ثقيلاً بمفرده، وإنّما يثقل باعتبار ما يترتّب على مخالفته من المؤاخذة والعقوبة)([2]).
ولكن قد يورد عليه بوجوه:
ليس الثقل مأخوذاً في (الرفع)
أولاً: ان (الثقل) ليس مأخوذاً في مفهوم (الرفع) لغةً ولا عرفاً، فان الرفع ضد الوضع وكلاهما يطلق على الخفيف كالثقيل؛ ألا ترى انك تقول: وضعت الحجر على الأرض وتقول رفعته، وفيه ثقل، وتقول أيضاً: وضعت الريشة على الأرض ورفعتها، وتقول وضعت هذا الكتاب الثقيل على مكتبك ورفعته، كما تقول وضعت تلك الورقة على مكتبك ورفعتها، والاستعمال وإن كان أعم من الحقيقة، إلا انه إذا كان بعناية، والظاهر ان الاستعمال عرفاً ههنا بدون أية عناية.
والحكم الإلزامي ثقيل حتى بدون عقوبة
ثانياً: سلّمنا، لكن الحكم الإلزامي ثقيل بنفسه وإن تجرد عن العقوبة، فلا يصح تبرير عدول الشيخ عن (رفع قلم التكليف الإلزامي) إلى (رفع قلم المؤاخذة على التكليف الإلزامي) بذلك، رغم كونهما متساويين من بين النسب الأربع، والتقدير خلاف الأصل، والتكليف بنفسه قابل للرفع كما قَبِلَ الوضع فلا حاجة لتقدير أمر كالمؤاخذة؛ ألا ترى ان العبد لو علم بان المولى لا يؤاخذه على عصيانه، ومع ذلك أمره المولى الحقيقي العلي القهار بأمر أو نهاه عن أمر، فإن نفس إلزامه يشكل ثقلاً نفسياً عليه ومسؤوليةً تثقل كاهله، لو كان يشعر، وإن تجرد من العقاب.
وهو يستلزم استحقاقها وإن لم تترتب العقوبة
ثالثاً: ان الحكم الإلزامي يستلزم استحقاق العقوبة وإن لم تترتب خارجاً لشفاعةٍ أو توبة أو غيرهما، وهو ثقيل بلحاظ استلزامه استحقاق العقوبة وإن لم تترتب العقوبة أصلاً.
والثقل في المؤاخذة واسطة في الثبوت
رابعاً: ان الثقل في (المؤاخذة) واسطة في ثبوته للتكليف الإلزامي، وليس واسطة في العروض كي لا يكون التكليف الإلزامي ثقيلاً، بعبارة أخرى: كون المعلول (المؤاخذة) ثقيلاً يُثبِت الثقل لسببه (الحكم الإلزامي) فانه منشؤه فكيف لا يكون ثقيلاً؟
والثقل محقَّق في المكروه أيضاً
خامساً: ان الثقل غير خاص بوضع قلم التكليف الإلزامي، بل ان في وضع قلم التكليف اللاإقتضائي كالكراهة أيضاً ثقلاً، فان المكروه وإن لم يستحق العبد على ارتكابه العقاب لكنه يستحق العتاب، والعتاب على الإنسان ثقيل، بل قد يكون عند بعض الأنفس عتاب المولى أثقل عليه من عقابه بحيث يتمنى ان يعاقبه بضرب وشبهه بدل ان يعاتبه أو يكون عاتباً عليه.
والحاصل: ان الملتفت لمقام المولى جل وعلا يحس بثقل في مخالفة مكروهاته لأن الفرض انها مكروهات له وإن لم يحرّمها، أو حتى ترك مستحباته، إذا كان تركه لا لمزاحم أهم، بل عبثاً أو تشهياً.
ويكفي في كونه ثقلاً كونه إجمالاً كذلك
سادساً: ان رفع القلم كناية عن عدم التشريع، ويكفي في كونه ثقلاً كونه (أي التشريع) إجمالاً كذلك ولا يتشرط فيه ان تكون كافة متعلقاته أو مصاديقه ثقيلة، والحاصل: انه يكفي في ثقل الكلي أو النوع كون معظم أفراده بل كون جملةٍ معتدٍّ بها منها ثقيلاً، ويتضح ذلك بالنظائر فان صدق العالم بالفقه على زيد لا يشترط فيه علمه بكافة مسائله، بل قد يندر ذلك، بل يكفي علمه بجملة معتد بها منها.
ويوضّحه: ما إذا حُوّلت إلى الشخص مسؤولية إدارة مدرسة فانه يصح له ان يقول: انها مسؤولية ثقيلة، مع وضوح انه ليست كل مفردات إدارته ثقيلة بل قد يكون بعضها ثقيلاً وبعضها سهلاً خفيفاً وبعضها ممتعاً، كما لو كانت الصفوف بعضها طيّعة وبعضها عصيّة فيقول مع ذلك: إدارة هذه المدرسة ثقيلة. هذا
الأدلة الأربع على تعميم حديث الرفع
ويقع في مقابل رأي الشيخ (قدس سره) المضيّق لدائرة حديث الرفع، الموسّعون، ومنهم المحقق النائيني (قدس سره) وقد مضى رأيه ومنهم السيد الوالد (قدس سره) الذي عمم حديث الرفع للأربعة الآتية لكنه لم يوسع كما وسع النائيني إذ رأى، بخلاف النائيني، انه ليس مسلوب العبارة.
وقد استدل السيد الوالد على التوسعة للأربعة بأربع أدلة، قال:
لحذف المتعلق
(إذ يرد على الأول([3]): أولاً: انه محذوف المتعلق ومثله يفيد الوضع والتكليف والتأديب الدنيوي والمؤاخذة فمن أين الاختصاص؟ فانه كما قرره الأدباء والفقهاء والأصوليون يشمل متعلق الموضوع أو الحكم أو متعلقهما)([4]).
أقول: يمكن ان يستدل بان حذف المتعلق يفيد الأعم كما استدل به (قدس سره) ويمكن ان يستدل بوجه آخر وهو ان الأصل في اللام انها للجنس فـ(القلم) أي جنس القلم فيعم الأربعة، (كما ويعم أمرين آخرين سبق ذكرهما وهما استحقاق العقاب، وكتابة السيئات).
المناقشة
ولكنّ هذا الدليل وإن صح في حد ذاته إلا انه محكوم بأدلة الطرف الآخر إذ انه إذا ثبت الوجه الأول (ان الثقل مأخوذ في الرفع) أو الثاني (ان حديث الرفع وارد مورد الامتنان) كان هو المخصص لحديث الرفع فيفيد كون اللام للجنس لا للعهد الذهني ويفيد تحديد المتعلق بما فيه ثقل أو بما في رفعه مِنّه لا مطلقاً. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَيُبْغِضُ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا أَهْلَ صَفْوَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ)) (تحف العقول: ص374)
---------------
([1]) كلها أو أكثرها.
([2]) الشيخ محمد رضا الانصاري القمي، العقد النضيد، دار التفسير ـ قم: ج2 ص422-423.
([3]) أي أول ما ذكره الشيخ وهو ان الظاهر من حديث الرفع رفع قلم المؤاخذة.
([4]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه / كتاب البيع: ج3 ص39.
|