بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(94)
الحلّ بحجية ظواهر مقام الفتوى، غير مجدٍ
ولكن التفصي عن إشكال عدم حجية الظواهر في الدلالة على المرادات الجدية، بالتفصيل بين مقام الفتوى ومقام التعليم، وان الظواهر حجة في المقام الأول دون ريب، ربما يورد عليه بوجهين:
1- إذ لا أصل ينقح المقام
الأول: ان ذلك على فرض تسليمه لا يثمر، إذ لا يوجد أصل ينقح كونهم (عليهم السلام) عند التكلم في أي مقام من المقامين.
من الأمارات على تمييز مقام التعليم عن الفتوى
ولكن يمكن الجواب عن ذلك بانه حتى لو سلم عدم وجود أصل، فان هنالك عدداً من الأمارات التي تكشف عن كون الإمام (عليه السلام) في هذا المقام أو ذاك المقام:
العمومات والمطلقات
ومنها: ان مقام ذكر العمومات والمطلقات، هو مقام التعليم عادة.
إن قلت: قد يكون ذلك في مقام الفتوى أيضاً كما لو سأله عما أبتلي به فأجابه بقاعدة عامة تنطبق على حالته وصغرى المقام.
قلت: ذلك وإن صح إلا انه لا يضر بالمدعى لأنه يكون حينئذٍ من الجمع بين المقامين فان المورد لا يخصص الوارد وتبقى القاعدة عامة وإن أنطبقت على المورد والمكلف.
بعبارة أخرى: تكون من حيث كونها قاعدة عامة قد ألقيت للتعليم، ومن حيث انطباقها على المكلف، قد ألقيت كفتوى أيضاً.
بعبارة ثالثة: ان الإمام (عليه السلام) لاحظ خصوصيات هذا السائل، فاختار العام الذي ينطبق عليه من دون ان يبتلى بمزاحم أو عنوان ثانوي أو حاكم أو ما أشبه، فيبقى العام بما هو عام قاعدة مرجعية في مقام التعليم فيجب البحث عن مخصصاته ومقيّداته ليعلم انطباقه على المكلف الآخر وعدمه، فلو قال مثلاً: (الشك بين الأولى والثانية، مبطل) كان كبرى كلية تعليمية عامة ولا يضر بكبرويتها انطباقها على المكلف، وحيث كانت كبرى كلية وجب الفحص عن الحاكم عليه مثل كـ(لا شك لكثير الشك) وكذا لو قال له في مقام الجواب عن سؤاله: (لا شك لكثير الشك) لعلمه انه وسواسي (أو كثير الشك فقط بناء على انه أعم من الوسوسة) لكانت قاعدة كلية يجب البحث عن المحكوم بها.. وهكذا.
الخُطَبْ
ومنها: ان أقوال المعصوم (عليه السلام) في خطبه، هي عادةً من مقام التعليم دون الفتوى، لاختلاف أحوال الذين يجلسون تحت منبره، وخصوصياتهم الشخصية التي لا يصلح معها إصدار الفتوى المبنية على ملاحظة حال مكلف خاص وظروفه المكتنفة من كونه مضطراً أو لا، قاصداً أو لا، مسافراً أو لا وهكذا.
الكُتُب والرسائل
ومنها: أقواله (عليه السلام) في كتبه ورسائله، إلا ما تعلق منه بشخص المرسل إليه.
ومنها: ما يطرحه (عليه السلام) في مجلس الدرس فان الأصل فيه انه في مقام التعليم.
ولئن صعب تمييز هذا الأخير عن غيره، لضياع القرائن التاريخية على مكان إلقائه (عليه السلام) الكلام وحالته، فان سابقيه مما سجله الرواة أو المؤرخون ويكفي إلقاء نظرة على خطب نهج البلاغة ورسائله (عليه السلام) فيها.. وهكذا.
قرينة السائل
ومنها: قرينة السائل، فان السائل إذا كان من العوام كان الأصل إلقاء الفتوى إليه، أما إذا كان من الفقهاء كزرارة وحمران فالأصل إلقاء القواعد إليه والتعليم.
نوع الخطاب: شخصي أو مبني للمجهول وعام
ومنها: نوع الخطاب، فانه كثيراً ما يكشف عن نوع المقام، فلو قال (عليه السلام) للنفساء أو المضطربة مثلاً اغتسلي، كان ذلك من مقام الفتوى أو انه لا يعلم، على الأقل، كونه من أي المقامين، فلا يصح اتخاذه كقاعدة كلية إذ كونه قاعدةً بحاجة إلى إحراز كونه في مقام التعليم دون الفتوى وان جوابه لم يكن بلحاظ خصوصيات السائل المجهولة لنا عادة، بينما لو قال لها بعد سؤالها عن حالتها (تغتسل مَن فعلت كذا) دلّ على انه في مقام ذكر القاعدة الكلية.
مثالٌ: جواب الرسول (صل الله عليه واله) عن نفاس أسماء، فتوى وليس قاعدة
ويكفي التمثيل لذلك بخبر حمران بن أعين: عن الإمام الباقر (عليه السلام) وفيه: ((قَالَتِ امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَكَانَتْ وَلُوداً: أَقْرِئْ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ أَقْعُدُ فِي نِفَاسِي أَرْبَعِينَ يَوْماً وَإِنَّ أَصْحَابَنَا ضَيَّقُوا عَلَيَّ فَجَعَلُوهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً؟
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): مَنْ أَفْتَاهَا بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً؟ قَالَ: قُلْتُ: الرِّوَايَةُ الَّتِي رَوَوْهَا فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهَا نَفِسَتْ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ لَهَا: اغْتَسِلِي وَاحْتَشِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ، فَاغْتَسَلَتْ وَاحْتَشَتْ وَدَخَلَتْ مَكَّةَ وَلَمْ تَطُفْ وَلَمْ تَسْعَ حَتَّى تَقْضِيَ الْحَجَّ، فَرَجَعَتْ إِلَى مَكَّةَ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صل الله عليه واله) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْرَمْتُ وَلَمْ أَطُفْ وَلَمْ أَسْعَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صل الله عليه واله): وَكَمْ لَكِ الْيَوْمَ؟ فَقَالَتْ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَقَالَ: أَمَّا الْآنَ فَاخْرُجِي السَّاعَةَ فَاغْتَسِلِي وَاحْتَشِي وَطُوفِي وَاسْعَيْ، فَاغْتَسَلَتْ وَطَافَتْ وَسَعَتْ وَأَحَلَّتْ.
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِنَّهَا لَوْ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صل الله عليه واله) قَبْلَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَتْهُ، لَأَمَرَهَا بِمَا أَمَرَهَا بِهِ، قُلْتُ: فَمَا حَدُّ النُّفَسَاءِ؟ قَالَ: تَقْعُدُ أَيَّامَهَا الَّتِي كَانَتْ تَطْمَثُ فِيهِنَّ أَيَّامَ قُرْئِهَا، فَإِنْ هِيَ طَهُرَتْ، وَإِلَّا اسْتَظْهَرَتْ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَتْ وَاحْتَشَتْ، فَإِنْ كَانَ انْقَطَعَ الدَّمُ فَقَدْ طَهُرَتْ، وَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعِ الدَّمُ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاتَيْنِ وَتُصَلِّي))([1]).
وتوضيحه: ان الأقوال في مدة أكثر النفاس مختلفة:
(القول الأول: هو الذي ذهب إليه المصنِّف بقوله: [وأكثره عشرة أيام] كما نسب إلى المعروف، وعن المبسوط والكركي والهندي نسبته إلى الأكثر.
القول الثاني: أن أكثره ثمانية عشرة – كما عن الفقيه والسيد والاسكافي والديلمي والمختلف -.
القول الثالث: إن أكثره أحد وعشرون – كما عن العماني -.
القول الرابع: أنه أحد عشر يوماً – كما عن المفيد-.
القول الخامس: أن ذات العادة نفاسها بقدر عادتها والمبتدئة ثمانية عشر يوماً – كما عن العلامة في المختلف..
القول السادس: أن المبتدئة: عند تجاوز دمها عن العشرة ترجع إلى التميز ثم النساء، ثم العشرة، والمضطربة: ترجع إلى التميز، ثم العشرة – كما عن البيان -)([2]).
وخبر حمران يعد من الأدلة على نفي القول الثاني.
ومورد الشاهد فيه: ان الرسول الأعظم (صل الله عليه واله) قال: (أَمَّا الْآنَ فَاخْرُجِي السَّاعَةَ فَاغْتَسِلِي وَاحْتَشِي وَطُوفِي وَاسْعَيْ) فالخطاب لها ولم يعمم (صل الله عليه واله) بقوله مثلاً (من استمر نفاسها 18 يوماً فلتغتسل ثم لتطف) وقد استشهد الإمام (عليه السلام) بذلك إذ قال: (إِنَّهَا لَوْ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صل الله عليه واله) قَبْلَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَتْهُ، لَأَمَرَهَا بِمَا أَمَرَهَا بِهِ) مما دلّ على ان الجواب لم يكن لضرب القاعدة بل كان جواباً على ضوء وضعها الخاص وحالتها وانه كان، بعبارة أخرى، قضية شخصية.
ومن ذلك كله ظهر الإشكال الآخر على هذا الحل المفصِّل بين المقامين وهو:
2- مقام الفتوى، لا يُعلم كونه قضية حقيقية
الثاني: ان مقام الفتوى وإن كانت إرادته الاستعمالية مرآة للإرادة الجدية، فتكون ظواهره حجة، دون مقام التعليم، إلا انه مبتلى بمعضلة أخرى وهي ان مقام الفتوى لا يُعلم منه كون ما أجاب به الإمام (عليه السلام) بنحو القضية الشخصية، أو بنحو القضية الخارجية، أو بنحو القضية الحقيقية، عكس مقام التعليم الذي الأصل فيه كونه بنحو القضية الحقيقية، ولكنه، في المقابل، مبتلى بإشكال تفكيك الإرادتين لولا الأجوبة السابقة عنه.
والحاصل: ان كلّاً من المقامين مبتلى بإشكال قد يدعى كونه بسببه ساقطاً عن الحجية: إما على المرادات الجدية، كمقام التعليم، أو على كونه قضية حقيقية، كمقام الفتوى. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((اكْتُبْ وَبُثَّ عِلْمَكَ فِي إِخْوَانِكَ، فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لَا يَأْنَسُونَ فِيهِ إِلَّا بِكُتُبِهِمْ))
(الكافي: ج1 ص52).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) وسائل الشيعة: ج2 ص386.
([2]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الطهارة، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت: ج12 ص17-18.
|