بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(529)
الإعتراض بأن الشارع قد ردع
وقد يعترض بـ(إحتمال اكتفاء المعصومين (عليهم السلام) في الردع عن تلك السيرة بالحوالة إلى مثل أصالة الفساد في المعاملات، أو إلى عموم حرمة أكل مال الغير، أو إلى إطلاق رواية ابن حمزة المتقدّمة فمدفوع أيضاً)([1]).
أ- الردع بأصالة الفساد
وتفصيله: أنه قد يقال: إنّ الشارع اكتفى في الردع عن معاملات الصبيان الراشدين بأصالة الفساد في المعاملات، والوجه في هذا الأصل، ما ذكره صاحب الجواهر بقوله: (لأصالة عدم ترتب الأثر، وعدم النقل والإنتقال)([2]) وأوضحه المحقق النائيني بأن (الأصل في جميع موارد الشك في صحة المعاملة يقتضى الفساد لأصالة عدم ترتب الأثر على المعاملة الخارجية وبقاء متعلقها على ما كان عليه قبل تحققها)([3]) والشك في صحة المعاملة قد يكون للشك في تحقق شرط، كالبلوغ في مبحثنا، أو وجود مانع، وفي الكفاية (لو شك في اعتبارٍ شيء فيها عرفاً، فلا مجال للتمسك بإطلاقها في عدم اعتباره، بل لابد من اعتباره، لأصالة عدم الأثر بدونه)([4]).
والتدبر يقود إلى وجود أصلين: أ- أصالة عدم النقل والإنتقال أو أصالة عدم ترتب الأثر وهو أثر العقد: من نقل ملكية أو حدوث زوجية أو إزالة علقتها أو غير ذلك أو أصالة عدم تأثير هذا العقد، لأنها أمور حادثة، ب- وأصالة عدم تحقق العقد أو الإيقاع نفسه لأنه أمر حادث.
الجواب: (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) حاكم
أقول: لا يجري هذا الأصل مع الشك في شرطية الشيء شرعاً، كما في المقام، وذلك لصدق (البيع) عليه عرفاً فيشمله قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) وذلك بعد الفراغ عن عدم ثبوت الحقيقة الشرعية في ألفاظ البيع، الإجارة، المزارعة وغيرها من العقود أو الإيقاعات، وصدق البيع على معاملات الصبيان الراشدين عرفاً مسلّم قطعي لا ريب فيه فتشمله الآية الكريمة، بل لنا التمسك بإطلاق الآية الكريمة حتى مع القول بأن ألفاظ العقود موضوعة، عرفاً، للصحيح منها إذ لا شك أنهم يرونها صحيحة.
بل قد يتمسك بـ(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)([5]) استناداً إلى أنها عقود دون ريب، و أن (أَوْفُوا) وإن دلّ على اللزوم لكن الصحة ملزومة له، فلا يرد أنها ليست واردة لبيان الصحة بل اللزوم فقط فتدبّر.
إذا ظهر ذلك ظهر أن دعوى الردع بمثل أصالة الفساد لا وجه له، بل حتى لو فرض النقاش فيما ذكر من الأجوبة وأمثالها فإنه لا يعقل الردع بمثل هذا الأصل الذي يخفى شموله للمقام ويحتاج إلى تجشم مؤونة استدلال لم يقتنع به الكثير من الفقهاء إن لم يكن الأكثر.
ب- الردع بـ(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)
وقد يقال: بأن الشارع اكتفى في الردع بعموم حرمة أكل مال الغير (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)([6]).
الجواب: ليست معاملة الراشدين باطلاً عرفاً
وفيه: أن معاملات الصبيان الراشدين لا تعدّ عرفاً من أكل الأموال بالباطل، ولم يقل أحد بالحقيقة الشرعية في (الباطل)، بل إن العرف الملقى إليه الكلام يجدها مصداق الإستثناء (إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)([7]).
ج- الردع برواية ((حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً))
وقد يقال: بأن الشارع اكتفى في الردع برواية ابي حمزة ((وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً))([8]).
الجواب: معارضة بأكثر منها عدداً و...
وفيه: أنه كيف يكتفي الشارع في الردع عن هذه السيرة الراسخة العامة الشاملة المستقرة برواية أو روايتين أو ثلاث([9])، مع كونها خلاف الإرتكاز الفطري المسلّم على الصحة فيما إذا إذن الولي؛ لأن الحق لا يعدوهما (المالك وهو الصبي على الفرض والولي وهو السلطان) كما سبق تفصيله؟
وكيف يكتفي الشارع برواية أو روايتين أو ثلاث في الردع عن مثل هذه السيرة مع وجود روايات معارضة أكثر منها (تبلغ سبع روايات)([10]) تصرح بأن المدار على البلوغ ثلاث عشرة سنة أو إكمالها وهي موجودة في الكافي والتهذيب والعياشي والخصال وغيرها ومنها (682 (9) كا 253 - ج 2 - عدة من أصحابنا عن يب 385 - ج 2 - أحمد بن محمد بن عيسى عن فقيه 413 - (الحسن بن علي - فقيه (3)) الوشاء عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال إذا بلغ (الغلام - فقيه خصال) أشده ثلاث عشرة سنة ودخل في الأربع عشرة (سنة - فقيه) وجب عليه ما وجب على المحتلمين احتلم أو لم يحتلم (و - خصال) كتبت (4) عليه السيئات وكتب (5) له الحسنات وجاز له كل شيء إلا أن يكون سفيها أو ضعيفا الخصال 89 - ج 2 -)([11]) ومع وجود روايتين تصرحان بأن المدار ثمان سنين ومنها (عن العسكري (عليه السلام) قال: ((إِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ ثَمَانِيَ سِنِينَ فَجَائِزٌ أَمْرُهُ فِي مَالِهِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ وَإِذَا تَمَّ لِلْجَارِيَةِ سَبْعُ سِنِينَ فَكَذَلِك))([12]) )([13])، وثمان سنين هي السن التي يحتمل عقلائياً أن تجعل ضابطاً نوعياً للفارق بين التمييز وعدمه بالنسبة لمعاملات الصبيان من باب سَنّ القانون، فلا يُشكَل بأن بعض الأطفال قد يرشد قبل الثمان وبعضهم قد يرشد بعدها).
وكيف يكتفي بالردع بمثل رواية ابن حمزة وعدد من الروايات يستفاد منه أن المدار كل المدار هو الرشد أو إيناسه ومنها (عن الصادق (عليه السلام) ((أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) قَالَ: إِينَاسُ الرُّشْدِ حِفْظُ الْمَالِ))([14]).
وقال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الْيَتِيمَةِ مَتَى يُدْفَعُ إِلَيْهَا مَالُهَا؟ قَالَ: إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهَا لَا تُفْسِدُ وَلَا تُضَيِّعُ))([15])
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): ((أَنَّهُ قَضَى أَنْ يُحْجَرَ عَلَى الْغُلَامِ الْمُفْسِدِ حَتَّى يَعْقِلَ))([16])) إلى غيرها مما سبق.
وبأنها لا تكفي للردع عن السيرة الراسخة الشاملة
إضافة إلى ذلك كله فإنه يرد على اكتفاء المعصوم (عليه السلام) بأحد الثلاثة السابقة([17]) ما ذكره المحقق اللاري من: (أنّ الإكتفاء بمثل الحوالة إلى أصل أو عموم أو إطلاق في التبليغ إنّما هو فيما لم يعم به البلوى ولم تجرِ السيرة على العمل به، وأمّا فيما عمّ به البلوى بل قد جرت عليه السيرة بزعم صحّته – كما فيما نحن فيه – فليس من مقتضى اللطف وعادة المعصومين (عليهم السلام) الإكتفاء في تبليغ الردع عن مثله بالحوالة إلى أصل أو عموم أو إطلاق، فضلاً عن العموم والإطلاق النازل منزلة الإجمال في مثل المقال.
بل كان اللازم بمقتضى اللطف والعادة في كلّ ما كان المنكر بتلك المثابة من الشيوع وعموم البلوى وجريان السيرة عليه، المبالغة في الردع عنه على الوجه الأكيد والنهي الشديد، بل لا يكتفي بمجرّد ذلك حتى يعلّق الردع والنهي بعنوان ذلك المنكر صريحاً لا تلويحاً، كما علم ذلك منهم (عليهم السلام) بالنسبة إلى القياس، وشرب المسكرات وغيرهما من المنكرات الشائعة في عصرهم، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)([18]))([19]).
اللطف في الردع الأكيد والنهي الشديد
أقول: اللطف له معان ثلاثة: المقرِّب إلى الطاعة، والممكّن منها بإيجاد القوة والآلات والأدوات كاليد والرجلين، والـمُلجِأ إليها، ولا شك في عدم وجوب الأخيرين عليه تعالى بل في مرجوحية الثالث، وأما المقرِّب فإنّ إجماع المتكلمين على وجوبه، وقد ناقش في إطلاق وجوب اللطف عليه تعالى السيد الخوئي، ولكنه لم يناقش ولا يناقش أحد في أصله فكيف بوجوب مصداقه الأجلى وهو إبلاغ رسالات الله تعالى فإن ذلك من ضروريات الدين وبه وردت الآيات الصريحة والروايات الكثيرة، بل إن الإبلاغ والتعليم إضافة للتزكية هما مهمة الأنبياء الأساسية فكيف لا يكون اللطف بهما بإرسال الرسول وأمره بالإبلاغ واجباً وقد قال تعالى: (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)([20])
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
عن عبد المؤمن عن سالم قال: ((سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) قَالَ: السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ الْإِمَامُ وَالْمُقْتَصِدُ الْعَارِفُ لِلْإِمَامِ وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْإِمَامَ))
(الكافي: ج1 ص214).
------------------------------------------
([1]) السيد عبد الحسين اللاري، التعليقة على المكاسب، الأمانة العامة للمؤتمر ـ قم: ج2 ص16.
([2]) الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، جواهر الكلام، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت: ج23 ص340.
([3]) السيد أبو القاسم الخوئي، أجود التقريرات، مكتبة مصطفوي ـ قم: ج1 ص393-394.
([4]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم: ج1 ص33.
([5]) سورة المائدة: الآية 1.
([6]) سورة البقرة: الآية 188.
([7]) سورة النساء: الآية 29.
([8]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامي ـ طهران، ج7 ص197.
([9]) لعلها لا تزيد على ثلاث روايات فراجع وتثبَّت.
([10]) وربما أكثر.
([11]) السيد حسين البروجردي، جامع أحاديث الشيعة ج1 ص352-353.
([12]) الوسائل 13:321 ب"15" من أبواب الوقوف والصدقات ح4.
([13]) السيد عبد الحسين اللاري، التعليقة على المكاسب، الأمانة العامة للمؤتمر ـ قم: ج2 ص7.
([14]) من لا يحضره الفقيه: ج4 ص222.
([15]) الكافي: ج7 ص68.
([16]) من لا يحضره الفقيه: ج3 ص28.
([17]) الأصل، الإطلاق ورواية ابن حمزة.
([18]) سورة الأنفال: الآية 42.
([19]) السيد عبد الحسين اللاري، التعليقة على المكاسب، الأمانة العامة للمؤتمر ـ قم: ج2 ص16-17.
([20]) سورة النساء: الآية 165.
|