بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(69)
بناء الشارع في الشبهات الحكمية، على غير الإحتياط
تتمة: (كما يدل على أنّ الأمر في الشبهات الحكمية كذلك وأنّ الشارع لم يبنِ على الإحتياط، أنّ الشارع حكم:
أ- عند فقد النص بالإباحة أو بالبراءة لا الإحتياط.
ب- وعند تعارض النصين بالتخيير لا الإحتياط، ولا التوقف. قال في الرسائل: (المسألة الثالثة: فيما اشتبه حكمه الشرعيّ من جهة تعارض النصّين
وهنا مقامات، لكنّ المقصود هنا إثبات عدم وجوب التوقف والإحتياط. والمعروف عدم وجوبه هنا، وما تقدّم في المسألة الثانية: من نقل الوفاق والخلاف، آتٍ هنا.
وقد صرّح المحدّثان المتقدّمان([1]) بوجوب التوقّف والإحتياط هنا([2])، ولا مدرك له سوى أخبار التوقف، التي قد عرفت ما فيها: من قصور الدلالة على الوجوب في ما نحن فيه. مع أنّها أعمّ ممّا دلّ على التوسعة والتخيير)([3]) (وممّا يدلّ على الأمر بالتخيير في خصوص ما نحن فيه من اشتباه الوجوب بغير الحرمة: التوقيعُ المرويُّ في الإحتجاج عن الـحِميريّ، حيث كتب إلى الصاحب عجّل الله فرجه)([4]).
ج- وعند إجمال النص بالرجوع إلى العام الفوقاني، وإلا فالبراءة لا الإحتياط، قال في الرسائل: (المسألة الثانية: فيما اشتبه حكمه الشرعيّ من جهة إجمال اللفظ كما إذا قلنا باشتراك لفظ "الأمر" بين الوجوب والإستحباب أو الإباحة.
والمعروف هنا عدم وجوب الإحتياط، وقد تقدّم عن المحدّث العاملي في الوسائل: أنّه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشكّ في الوجوب، ويشمله أيضا معقد إجماع المعارج([5]))([6]).
د- وعند سبق الحالة بالإستصحاب، بناء على جريانه في الشبهات الحكمية، لا الإحتياط)([7]).
والحاصل: أن الشارع حَكَم عند (فقد النص) بالبراءة حسب مشهور الأصوليين سواء في الشبهة الوجوبية أم التحريمية، ووافقهم على ذلك الأخباريون في الشبهة الوجوبية دون التحريمية التي ذهب معظم الأخباريين فيها إلى الإحتياط على ما ذكره في القوانين ونقله الشيخ عنه في الرسائل.
وعند (تعارض الدليلين): حكم الشارع بالتخيير في قوله (إذاً فتخيّر) مطابقاً للأصل الأولي فيما نرى، ومخالفاً له حسب آخرين؛ إذ رأوا أن الأصل الأولي في المتعارضين التساقط.
معقد البحث ثبوت التكليف أو سقوطه بالظن
تنبيه: الكلام في مبحث حجية الظن تارة يدور حول ثبوت التكاليف بالظن المطلق وأخرى يدور حول سقوطها به، فقد يقال بهما معاً وقد لا يقال بأي منهما وقد يفصّل بثبوتها بالظن وعدم سقوطها إلا بعلمي وقد يعكس، والأدلة السابقة والآتية تتنوع بين ما يفيد حجية الظن في الثبوت والسقوط معاً فلا مجال على هذا لقاعدة (الإشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية) إذ يُكتفى حينئذٍ بالظني والمقصود الظن المطلق وإلا فإن الظن الخاص لمكان تنزيله منزلة العلم فإنه يفيد البراءة حتماً، وقد يفصّل استناداً إلى دليل المولوية ومدى سعتها أو ضيقها كما سيأتي.
كما أن البحث تارة يدور عن ثبوت / سقوط التكليف بالظن، كما ذكرناه، وقد يدور عن منجزيته ومعذريته وقد يدور عن لزوم إتباعه، وسيأتي الفرق بين كون معقد البحث أي واحد من هذه الثلاثة، وأثره في القول بالتفصيل وعدمه.
3- ولأن العلم الإجمالي غير منجز للإضطرار لبعض أطرافه
الوجه الثالث: وهو يعتمد على تمهيد مقدمة هي: أن القيود إما قيود التكليف وإما قيود المكلف به، فأما قيود التكليف، فكالعقل والإختيار وهما قيدان عقليان، وكالإستطاعة لوجوب الحج ودخول الوقت لوجوب الصلاة وهما قيدان شرعيّان فإنه لا يعقل التكليف بدون عقل وإختيار، كما أنه قبل الوقت ومن دون الإستطاعة لا وجوب، وليس أن الوجوب فعلي والواجب استقبالي، عكس قيود المكلف به كالساتر للصلاة فإن وجوبها ثابت آخذ بعنق المكلف عند دخول الوقت ولا يتوقف على وجود ساتر أو ماء يتوضأ به أو شبه ذلك وإنما هي قيود المكلف به. وكذلك الحج بعد تحقق الإستطاعة في شهر رمضان أو شوال مثلاً فإن وجوبه فعلي والواجب استقبالي.
إذا اتضح ذلك نقول: إن عدم الإضطرار من قيود التكليف، فإن المضطر اضطراراً دقيّاً لا يصح تكليفه عقلاً والمضطر اضطراراً عرفياً لا يكلف شرعاً بل هو قبيح عقلاً، بل أرجع بعضهم الإضطرار إلى العجز وعدم المقدرة.
وإذا ثبت أن عدم الإضطرار من قيود التكليف ثبت أنه لا فرق في عدم منجزية العلم الإجمالي بين أن يكون الإضطرار إلى بعض الأطراف سابقاً على العلم الإجمالي أو مقارناً أو لاحقاً، فإن المضطر غير مكلف أبداً، فعروض الإضطرار لاحقاً يكشف عن عدم تعلق التكليف به حين إنشائه، بنحو القضية الحقيقية، ومعه لا يكون لنا علم بالتكليف، وليس أنّه لا يكون لنا علم بالتكليف المنجز فقط، أصلاً بل هي شبهة بدوية ولا غير.
وكذلك لا فرق بين أن يكون الإضطرار إلى طرف معيّن أو إلى أحد الأطراف لا على التعيين وسيأتي لهذا مزيد إيضاح بإذن الله تعالى.
وذلك كله بحسب ما ذهب إليه المحقق الخراساني، حسبما نقله عنه المحقق النائيني قال: (أو مبنيٌّ على ما ذهب إليه([8]): من أنّ العلم الإجمالي مع الإضطرار إلى بعض الأطراف لا يقتضي التنجيز مطلقاً، سواء كان الإضطرار قبل العلم الإجمالي أو بعده، وسواء كان الإضطرار إلى المعيّن أو غير المعيّن، بدعوى: أنّ الإضطرار لما كان من حدود التكليف وقيوده، فلا يحصل العلم بالتكليف المطلق ليقتضي التنجيز والإجتناب عما عدا المضطر إليه)([9]) وقال: (فالقول بأنّ الإضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي يوجب سقوط التكليف رأساً وجواز الإقتحام في غير ما يدفع به الإضطرار مطلقاً، سواء كان الإضطرار إلى المعيّن أو غير المعيّن وسواء كان طروّ الإضطرار قبل العلم الإجمالي أو بعده([10]) ضعيف غايته)([11])
وسيأتي ما يكمل الكلام وإشكال المحقق النائيني على الآخوند وجوابنا عنه غداً بإذن الله تعالى.
فحيث انحل العلم الإجمالي كان الظن هو الطريق
وموطن الشاهد: أنه مع الإضطرار، في الشبهات الحكمية كما هو مورد الكلام، إلى بعض الأطراف فإن العلم الإجمالي بالتكاليف المجهولة الكثيرة الثبوتية ينحلّ أو لا يكون منجزاً بعد أن لم يمكن تكليف المضطر فقد انحل العلم الإجمالي إذ لا علم بالتكليف، أو بقي لكنه من غير أن يكون منجزاً ولم يبق لنا إلا الشبهات الحكمية البدوية، وعليه: يكون الظن بالتكاليف فيما عدا المضطر إليه منها هو الطريق الوحيد المجعول حجة، أو الممضاة حجيته. وللكلام تتمة وأخذ ورد فانتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((ابْذُلْ لِأَخِيكَ دَمَكَ وَمَالَكَ، وَلِعَدُوِّكَ عَدْلَكَ وَإِنْصَافَكَ، وَلِلْعَامَّةِ بِشْرَكَ وَإِحْسَانَكَ، سَلِّمْ عَلَى النَّاسِ يُسَلِّمُون عَلَيْكَ))
(تحف العقول: ص212).
--------------------------
([1]) يعني الاسترآبادي والبحراني.
([2]) انظر الفوائد المدنية: 163، والحدائق 1: 70.
([3]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج2 ص165.
([4]) المصدر: ص166.
([5]) المعارج: 208.
([6]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج2 ص162-164.
([7]) الدرس (68) بإضافات كثيرة.
([8]) أي المحقق الخراساني.
([9]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج3 ص256.
([10]) أقول: لو ترجع إلى ما ذكرنا ترى في إطلاقه تأمل، بل ليس لك أخذ نتيجة القائل بالتبعيض من هذه المقدمات، فتدبّر.
([11]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج3 ص253.
|