• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : البيع (1442-1443هـ) .
              • الموضوع : 525-الأدلة على حجية سيرة العقلاء والمتشرعة، من غير توقف على الإمضاء .

525-الأدلة على حجية سيرة العقلاء والمتشرعة، من غير توقف على الإمضاء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(525)

ومزيد التحقيق: أنّ سيرة العقلاء حجة من دون توقف على إحراز رضا المعصوم (عليه السلام) ولو بعدم الردع، وأنّ سيرة المتشرعة حجة من دون توقف كذلك، وكلتا السيرتين متحققة في معاملات الصبيان الراشدين مع كونها بإذن أوليائهم.

وجوه حجية سيرة العقلاء

أما سيرة العقلاء فلوجهين:

الأول: ما مضى من أنّ سيرة العقلاء بما هم عقلاء حجة ذاتية لعودتها إلى حكم العقل أو إدراكه.

الثاني: ما فصّلناه في كتاب التبعيض في التقليد (وقد يقال: بأن وجه حجية السيرة الذي به نستغني عن شَرطَي الإتصال والإمضاء هو الملازمة بين حجية شيء لدى العقلاء وحجيته لدى الشارع؛ فهو كقاعدة الملازمة فإنّ قاعدة الملازمة هي: كلما حكم به العقل حكم به الشرع؛ فحيث كانت الملازمة ثبوتية بين حكمي العقل والشارع لم نحتج إلى دليل إثباتي على حكم الشارع من إمضاء وغيره، وهناك قاعدة ملازمة أخرى([1]) وهي الملازمة الثبوتية بين حكم العقلاء المستكشف من سيرتهم([2]) وحكم الشارع؛ فلا وجه مع ذلك للتوقف على إمضاء من الشارع؛ إذ هو كالقول بحاجة حجج الشارع أو أحكامه إلى إمضاء منه.

والوجه في ذلك هو دعوى مرآتية عقول العقلاء بما هم عقلاء لعقل الشارع([3])، فسيرتهم كاشفة عن عقلهم ـ أي المرتكز فيه ـ وعقلهم أي مرتكزاتهم كاشفة عن مرتكزاته، وهي حجة دون ريب.

أو نقول: الوجه دعوى تضمن العقلاء لعقل الشارع وكونه منهم، بل هو سيدهم.

وإلى هذا الأخير أشار المحقق الأصفهاني (قدس سره) حاكياً عن شيخه الآخوند الخراساني (قدس سره) بقوله: (ومبنى شيخنا الأستاذ (قدس سره) في الإكتفاء بنفس عدم ثبوت الردع هو: أن الشارع أحد العقلاء بل هو رئيسهم؛ فهو بما أنه عاقل متّحد المسلك معهم)([4])، وذلك رداً منه على كلام الشيخ الحائري (قدس سره)([5]) الذي رأى أن حجية السيرة منوطة برضا الشارع وإمضائه؛ فعدم العلم به كافٍ في عدم الحجية، فقال الشيخ الأصفهاني (قدس سره): (ومبناه أنه لا ملازمة بين حجية شيء لدى العقلاء وحجيته عند الشارع فلا بد من إمضائه)([6])، فأجاب بما سبق، ولكننا زدنا عليه عدم الحاجة إلى عدم الردع، لنفس الدليل الذي ذكره([7]) وأضفنا وجهاً آخر على سبيل البدل هو الذي سبقه([8])، فتدبّر)([9]).

ولكن لا يخفى أن المرآتية إثباتية، والتلازم ثبوتي فهي كاشفة عنه وليست وجهاً له. فتدبّر.

وبوجه آخر: حكم العقلاء دالّ على حكم الشارع إما بالدلالة التضمنية أو بالدلالة الإلتزامية، والترديد بينهما نظراً للترديد في المبنى العام وهو أن العقل واحد له شُعب، وكل شعبة منه تتعلق بأحد الأنفس البشرية فهو كشمس واحدة دخلت منها أشعتها إلى كل بيت بيت، كما تدل عليه بعض الروايات، أو أنّ العقول متعددة فهي كمصابيح متكثرة يوجد في كل فردٍ مصباحٌ، فعلى الأول فالدلالة تضمنية بوجهٍ، وعلى الثاني فالدلالة إلتزامية. فتدبّر وتأمّل. هذا.

وهناك وجوه أخرى لحجية سيرة العقلاء تظهر من بعض الوجوه الآتية المذكورة لحجية سيرة المتشرعة.

وجوه حجية سيرة المتشرعة

وأما سيرة المتشرعة فلوجوه:

كشفها عن تلقيهم عن الشارع

الوجه الأول: ما ذكرناه في ذلك الكتاب من (الوجه الأول: إنّ سيرة المتشرعة كاشفة بنفسها عن إنشاء الشارع للحكم الذي كانت على طبقه؛ إذ لا يعقل أن يلتزم المتشرعة جميعهم بما هم متشرعة([10]) بأمرٍ ـ إذا كان على خلاف سيرة العقلاء أو كان في مورد لم تكن للعقلاء فيه سيرة، إلاّ إذا كان منشؤه([11]) الشارع.

وعلى هذا لا تتوقف حجية سيرة المتشرعة على الإمضاء؛ لفرض كشفها بالكشف الإنّي عن جعل الشارع للحكم، وكيف يتوهم احتياج ما جعله الشارع ـ حكماً كان أو حجة ـ إلى إمضائه؟

نعم، تتوقف حجية هذه السيرة على هذا الوجه على الاتصال بزمنه (عليه السلام)؛ إذ لا تكون كاشفة إلاّ حينئذ؛ إذ كيف يتوهم كاشفيتها مع مسبوقيتها لفترة بالعدم أو بسيرة معاكسة فرضاً أو بسِيرَ متخالفة([12]) ولكن سيأتي وجه لدفع التوقف عليه.

الوجه الثاني...)([13]).

الحدس منها برأيه (عليه السلام)

الوجه الثاني: ما إستدل به المحقق النائيني على حجية الإجماع، ناقلاً له عن بعض المتقدمين من (وقيل: إنّ المدرك في حجيته هو الحدس برأيه (عليه السلام) ورضاه بما أجمع عليه، للملازمة العادية بين اتفاق المرؤوسين المنقادين على شيء وبين رضا الرئيس بذلك الشيء ويحكى ذلك عن بعض المتقدمين)([14]) وعلّق المحقق العراقي بـ:( أقول: إذا كانت الملازمة عادية – نظير ملازمة لوازم الشجاعة وملكة العدالة – فهو حدسي قريب بالحس، كما أسّسنا في الحاشية الطويلة؛ فراجع)([15]) والحدسي القريب للحس ملحق به فتشمله أدلته.

وهو كما ترى جارٍ بعينه في سيرة المتشرعة، بل السيرة أقوى من الإجماع وأعظم كما صرح به صاحب الجواهر، وذلك لأن الإجماع لا يعدو كونه إجماع العلماء وأما السيرة فتضم العلماء وغيرهم من عامة المتدينين وجماهير الناس.

ووجه الحدس: أنّ سيرة المتشرعة إن كانت على خلاف سيرة العقلاء، أو كانت في مورد لا سيرة للعقلاء فيه، كما في العباديات التأسيسية، فإنه لا يعقل حينئذٍ أن تكون ناشئة إلا من رئيسهم وأنّهم تلقوها من الشارع لا غير، ألا ترى أن إفطار الشيعة عند المغرب لا قبله رغم أن مبنى أهل العامة على الغروب، دليل جلي على أنهم تلقوه عن الشارع الأقدس؟ وكذلك إسبالهم اليدين، خلاف للعامة إلا المالكية، فإنه دليل على أنهم تلقوه عن المعصومين (عليهم السلام) إما قولاً وإما فعلاً لقوله (صلى الله عليه وآله): ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي))([16]).

اللطف وهو أقوى في السيرة منه في الإجماع

الوجه الثالث: قاعدة اللطف، وقد أسهبنا الكلام عنها في كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى) فراجع، وعلى أية حال، فإنّ اللطف في السيرة العامة التامة، كالمقام؛ لإطباق المتدينين على التعامل مع الصبيان الراشدين بإذن آبائهم، أولى وأقوى من اللطف في الإجماع؛ إذ كيف يعقل أنْ يترك الإمام (عليه السلام) الأمة كلها، علماء وعامة وعدولاً وفساقاً، يجمعون على السيرة على الضلال، بل قد يقال بأن اللطف لا يقتضي منع الإجماع إذا كانت سيرة المتدينين خلافاً للفتوى موافقة للواقع فرضاً، أما السيرة فلا يحتمل فيها ذلك لفرض شمولها للجميع من العلماء والعامة على حد سواء.

تراكم الظنون

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق النائيني أيضاً كوجه لحجية الإجماع من: (وقيل: إنّ حجيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حدّ يوجب القطع بالحكم، كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر)([17]) وهو كما ترى أولى في السيرة وأقوى وأظهر.

كشفها عن وجود دليل معتبر

الوجه الخامس: (وقيل: إنّ الوجه في حجيته إنّما هو لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر عند المجمعين. ولعلّ هذا الأخير أقرب المسالك)([18]).

وستأتي منّا غداً بإذن الله تعالى بعض المناقشات لمناقشات المحقق النائيني في الأدلة السابقة.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَأَطَاعَهُ وَمَا كَانُوا يُعْرَفُونَ إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ وَالتَّخَشُّعِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَكَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَتَعَهُّدِ الْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَذَوِي الْمَسْكَنَةِ وَالْغَارِمِينَ وَالْأَيْتَامِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَكَفِّ الْأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ وَكَانُوا أُمَنَاءَ عَشَائِرِهِمْ فِي الْأَشْيَاءِ‏)) (تحف العقول: ص295).


-----------
([1]) هذا إن لم نقل بعودها إليها بدعوى أن حكم العقلاء بما هم عقلاء يعود إلى حكم العقل، وقد فصّلناه في مباحث البيع (حق الخلو) فراجع.

([2]) أو غيرها.

([3]) أي النبي أو الإمام (صلوات الله عليهم).

([4]) نهاية الدراية: ج2 ص223.

([5]) مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قم المشرفة.  

([6]) نهاية الدراية: ج2 ص223.

([7]) التضمن والإتحاد.

([8]) المرآتية.

([9]) السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، التبعيض في التقليد، منشورات مؤسسة التقى الثقافية ـ النجف الأشرف: ص158-159.

([10]) أي: التزاماً ناشئاً عن تديّنهم، بل مطلقاً أي في ظرف تديّنهم.  

([11]) منشأ الإلتزام.

([12]) وكيف يتوهم أنها لا منشأ لها إلا الشارع مع انقطاعها عن زمنه؟.

([13]) السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، التبعيض في التقليد، منشورات مؤسسة التقى الثقافية ـ النجف الأشرف: ص171، بتصرف وإضافة.

([14]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: ج3 ص149.

([15]) المصدر.

([16]) عوالي اللآلئ: ج1 ص197.

([17]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج3 ص149.

([18]) المصدر: ص150.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4089
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاثنين 27 جمادى الآخرة 1443هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14