• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : البيع (1442-1443هـ) .
              • الموضوع : 523-الشيخ: السيرة ناشئة عن اللامبالاة الأجوبة .

523-الشيخ: السيرة ناشئة عن اللامبالاة الأجوبة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(523)

الشيخ: إحتمال نشوء السيرة من اللامبالاة

وقد اعترض الشيخ (قدس سره) على الإستدلال بالسيرة على صحة معاملات الصبي إذا كان بمنزلة الآلة بقوله: (وفيه إشكال من جهة قوّة احتمال كون السيرة ناشئة عن عدم المبالاة في الدّين، كما في سيرهم الفاسدة.

ويؤيّد ذلك ما يرى من استمرار سيرتهم على عدم الفرق بين المميّزين وغيرهم، ولا بينهم وبين المجانين، ولا بين معاملتهم لأنفسهم بالإستقلال بحيث لا يعلم الوليّ أصلاً ومعاملتهم لأوليائهم على سبيل الآلية، مع أنّ هذا ممّا لا ينبغي الشكّ في فساده خصوصاً الأخير.

مع أنّ الإحالة على ما جرت العادة به كالإحالة على المجهول؛ فإنّ الذي جرت عليه السّيرة هو الوكول إلى كلِّ صبيٍّ ما هو فطنٌ فيه بحيث لا يغلب في المساومة عليه، فيَكِلون إلى من بلغ ستّ سنين شراءَ باقة بقلٍ أو بيعَ بيضة دجاجٍ بفَلْسٍ وإلى من بلغ ثمانية سنين اشتراء اللحم والخبز ونحوهما، وإلى من بلغ أربع عشرة سنة شراء الثياب، بل الحيوان، بل يكلون إليه أُمور التجارة في الأسواق والبلدان، ولا يفرّقون بينه وبين مَن أكمل خمس عشرة سنة، ولا يكِلون إليه شراء مثل القرى والبساتين وبيعها إلّا بعد أن يحصل له التجارب، ولا أظنّ أنّ القائل بالصحّة يلتزم العمل بالسيرة على هذا التفصيل)([1]).

أجوبة الفقهاء

وأجاب السيد الوالد (قدس سره) عن دعوى اللامبالاة وتأييدها بعدم تمييزهم بين المجانين وغيرهم، بقوله: (ولم نجد حتى مورداً واحداً سيرة ناشئة عن عدم المبالاة عند المتدينين عامة والحوزات العلمية خاصة، كما لم نجد إرسالهم غير المميزين أو المجانين إلى الأسواق، كما أن الغالب الذي يندر خلافه أن يكون الصبيان منبعثين بدون إذن الأولياء ورضائهم)([2]).

وقال السيد اليزدي (قدس سره): (أقول: الإنصاف خلاف ذلك؛ فإنّهم يفرّقون بين المميّز وغيره، بل القدر المعلوم من السّيرة إيكال الأمر إلى المميّزين بمقدار قابليّتهم، وإقدام الناس على المعاملة معهم، مع العلم بكونهم مأذونين عن الولي أو رضاه بذلك، كما في الأيتام الّذين وليّهم الحاكم الشّرعي المعلوم رضاه لشراء ما بيدهم ممّا جمعوه من المباحات أو الماء الّذي أخذوه من النهر المباح ونحو ذلك، وليس ذلك من جهة كونهم آلة - كما اختاره سيّد الرياض([3]) - بل من باب التصرّف المأذون فيه)([4]).

السيرة تتعايش مع احتمال الخلاف

أقول: السيرة، كسائر الحجج، مبنية على التعايش مع احتمال الخلاف، فلا يُخِلّ احتمال الخلاف بحجيتها كما لا تخل كثرة التخصيص والتقييد والتجوز بحجية العام والمطلق والحقيقة، بل إن الحياة وسيرة العقلاء مبنية على إلغاء احتمال الخلاف في كافة الأدلة والطرق والأمارات؛ ألا ترى قوة احتمال خطأ الثقات أو كذبهم وقوة احتمال كذب البينات، وقد تبلغ نسبة الخطأ أو الكذب، مجموعاً، في أخبار الثقات ثلاثين بالمائة أو أكثر أو أقل؟ بل نقول: إن قوام الظواهر والحجج، غير النصوص المتواترة، باحتمال الخلاف وإلا لما كانت ظواهر بل كانت نصوصاً، على أن النصوص هي، غالباً ظواهر ولو في جهة من الجهات.

على أن إحتمال كون هذه السيرة ناشئة عن عدم المبالاة في الدين، بعيد جداً وذلك لما نجده من عموم هذه السيرة وشمولها، كما سبق، لكافة طبقات المتدينين من العلماء والخطباء وأهل الصلاح والمساجد والملتزمين بالخمس والزكاة والمحتاطين في أطراف الشبهات، وهل يعقل بعد ذلك أن تكون السيرة العامة التامة هذه ناشئة عن لامبالاتهم بأجمعهم؟

إختلاف السيرة دليل على تدينهم وعقلانيتهم

وأما اختلافهم في إيكال أصناف من المعاملات لأعمار خاصة دون غيرها فقد أجاب عنه السيد الوالد بما حاصله: أن هذا عليه (قدس سره) لا له، قال: (أما اختلافهم في الإيكال إلى مختلف الأسنان، فهو اعتراف بالسيرة لا بعدمها وإنما يفعلون كذلك لأنهم عقلاء، وهذا رأيهم حتى في الكبار من أولادهم، فهل يكلون اشتراء البساتين والعقار إلى من سنه السادس عشر أو ما أشبه؟، فإن إيكالهم مختلف الأشياء الثمينة إلى مختلف أعمار البالغين كالعشرين والخمس والعشرين وما أشبه، ليس دليلاً على عدم الجواز وإنما هو دليل على عقلائية الموكلين في تفويض المناسب من الأشياء إلى المناسب من الأعمار، حسب التجربة والعرفية)([5]).

وبعبارة أخرى: نفس هذا الإختلاف في الإيكال إلى مختلف الأعمار وسنّ دون سنّ، دليل على تدينهم، وليس عقلانيتهم فقط كما قال (قدس سره) إذ لو كانوا غير متدينين لا يهمهم إلا الحصول على المال من أي طريق حرام أو حلال، لما فصّلوا هذا التفصيل العقلائي , ولباعوا لكل من أقدم على الشراء منهم: للمجنون، وللصبي وإن لم يكن راشداً، وللراشد وإن لم تكن المعاملة بمستوى رشده بل كانت فوق مستوى عقله وفطنته.

وليست الإحالة إحالة على المجهول

ونضيف: إن الإحالة ليست إحالة على المجهول، بل هي كإحالة مختلف الموضوعات إلى العرف الذي قد يختلف فيها أحياناً، ألا ترى أنه لا يصح القول بأن إحالة تشخيص (العدالة) إلى العرف إحالة على المجهول؟ مع بداهة أن العدالة إذا فسرت بالملكة، اختلف الناس في كشفها وتشخيصها إلا أن الملاك أوساطهم، أو كل فرد فرد باعتبار أنّ ذهنه مرآة للعرف، وكذلك الإحالة على العرف في تشخيص نوع المعاملة التي يحولونها إلى هذا الصبي وذاك بحسب سنّه وفطنته.

وأجاب بعض الفقهاء بـ: (نقضاً: بلزوم سقوط سيرات المسلمين عن الحجية ما لم يعاضدها الأدلة الخارجية، إذ ما من سيرة من سير المسلمين إلا ويتأتّى فيها هذا الإحتمال)([6]).

ومن السير سيرهم على التزاحم في الطرق المزدحمة، وعلى جلوس أحدهم لدى ضيق المكان بحيث يضيّق على الآخر أو يزحزحه عن مكانه قليلاً أو يجلس على طرف عباءته، وكذلك سيرة الضيوف على التوضؤ والتخلي في الميضاة ، عند غياب صاحب الدار لحاجةٍ، فإن كل هذه السير، المخالفة ظاهراً لقاعدة السلطنة، لا شك أنها ليست ناشئة عن اللامبالاة , بل عن إحراز رضا المضيف وعن أن حالات الإزدحام مبنيّة على المزاحمة , وانصراف أدلة السلطنة عنها، والسيرة متصلة بزمن المعصوم (عليه السلام) لكثرة تزاحم الناس في الحج والجمعات والأسواق وغيرها وعدم ردع أي أحد منهم عن ذلك. فتأمل

الوجوه الخمس لإنكار السيرة أو إنكار حجيتها

ثم إن المحقق السيد عبد الحسين اللاري، تلميذ الميرزا الشيرازي الكبير، ناقش المنكرين للسيرة أو لحجيتها بقوله: (وأمّا إنكار السيرة فمنحصر إمّا في إنكار أصل السيرة، أو إنكار إطلاع المعصوم (عليه السلام) عليها، أو إنكار تمكّنه من الردع، أو إنكار عدم ردعه بدعوى كفاية الردع بمثل خبر ابن حمزة المتقدّم، أو بمثل الحوالة إلى الأصول)([7]).

أقول: ويحتمل احتمال خامس وهو: إنكار عدم ردع الشارع بدعوى أنه ردع ولكن لم يصلنا، والفرق بينه وبين الرابع، وهو الأخير في كلامه، أن الرابع إجماله: أن الشارع قد ردع وقد وصل ردعه إلينا عبر الآيات والروايات، وأما الخامس فإجماله: أن الشارع ردع ولكن لم يصلنا ردعه لضياع كثير من الروايات، كما فيما وَرَدَ في كتاب (مدينة العلم).

وأجاب عن الأول بـ: (أمّا أصل وجود السيرة فلا مجال لإنكاره في المحقّرات، بل في كلّ ما يليق بحال الصبيان من المعاملات، لشهادة العيان بجريان سيرة المسلمين على الوكول إلى كل صبي ما هو فطن فيه بحيث لا يغلب في المساومة عليه، فقد ترى أنهم يكلون إلى البالغ أربع سنين شراء باقة بقل أو بيع بيضة بفلس، وإلى البالغ ثمان سنين شراء اللحم والخبز ونحوهما، وإلى البالغ أربع عشرة سنة شراء الثياب بل والحيوان، بل يكلون إليه أمور التجارة في الأسواق والبلدان، ولا يفرّقون بينه وبين الكامل خمس عشرة سنة، ولا يكلون إليه شراء مثل القرى والبساتين وبيعها إلا بعد أن يحصل له التجارب.

وقول الماتن: "لا أظنّ أنّ القائل بالصحة يلتزم العمل بالسيرة على هذا التفصيل"([8]) مجرّد استبعاد إذا لم يكن جهة إنفراد، وإلا فهو الفارق بين الأفراد)([9]).

وأقول: وأما قوله: (أو إنكار إطّلاع المعصوم عليها) لا يقصد به، جهله بها، كيف؟ ومن البديهي عندنا أنهم (عليهم السلام) محيطون بكل شيء بإذن الله تعالى وأنهم الراسخون في العلم الذين أُوتوا علم ما مضى وما سيأتي وما هو آت إلى يوم القيامة، بل يقصد عدم إطّلاعهم (عليهم السلام) عليها عبر الطرق الطبيعية الظاهرية وإن علموا بها بعلم الغيب؛ وذلك لأنهم (عليهم السلام) مكلفون بالعمل على حسب علومهم الظاهرية لا على حسب علمهم بالغيب، ولذا قال (صلى الله عليه واله): ((إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَ الْأَيْمَانِ وَ بَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ))([10]) ولم يتجنبوا (عليهم السلام) قاتلهم، كابن ملجم وغيره، وهكذا، بل الذي حكم ويحكم حسب الواقع فقط هو داوود وسليمان (عليها السلام) ثم الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) ولا غير.

ولكن نقول: إنّ نفي إطلاعهم بحسب علومهم الظاهرية على السيرة، ليس بعيداً فقط بل هو ممتنع عادة، لأنهم عاشوا وسط الناس وكان لهم أولاد وأحفاد وأصهار وأسباط وجيران وأصدقاء وكانوا يعاشرون الناس في كثير من الأحيان معاشرة كثيرة جداً فكيف يعقل أن يخفى عليهم أن الصبيان يشترون الخبز أو الفاكهة أو غيرها؟ بل كيف يعقل شمول دعوى عدم الإطّلاع كافة المعصومين طوال 255 عاماً؟ إن ذلك أشبه بالمحال، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((إِنَّا لَا نَعُدُّ الرَّجُلَ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُونَ لِجَمِيعِ أَمْرِنَا مُتَّبِعاً مُرِيداً أَلَا وَإِنَّ مِنِ اتِّبَاعِ أَمْرِنَا وَإِرَادَتِهِ الْوَرَعَ فَتَزَيَّنُوا بِهِ يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ وَكَبِّدُوا أَعْدَاءَنَا بِهِ يَنْعَشْكُمُ اللَّهُ))

(الكافي: ج2 ص78).


-----------------------
([1]) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، نشر آرموس (إسماعيليان) ـ قم: ج1 ص342.

([2]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه / كتاب البيع، ج3 ص81.

([3]) الرياض: 5/61.

([4]) السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، حاشية كتاب المكاسب، مؤسسة طيبة لإحياء التراث، ج2 ص23-24.

([5]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه / كتاب البيع، ج3 ص81-82.

([6]) السيد عبد الحسين اللاري، التعليقة على المكاسب، الأمانة العامة للمؤتمر ـ قم: ج2 ص14.

([7]) المصدر: ج2 ص13.

([8]) المكاسب: 116.

([9]) السيد عبد الحسين اللاري، التعليقة على المكاسب، الأمانة العامة للمؤتمر ـ قم: ج2 ص13-14.

([10]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج7 ص414.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4083
  • تاريخ إضافة الموضوع : السبت 25 جمادى الآخرة 1443هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14