• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الظن (1442-1443هـ) .
              • الموضوع : 59-الأدلة على أن لا حرج شخصي أو نوعي .

59-الأدلة على أن لا حرج شخصي أو نوعي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(59)

هل لا حرج شخصي أو نوعي؟

النقطة الثانية: ان هناك خلافاً بين الأعلام في مفاد (لا حرج) و(لا ضرر) وما أشبههما، وهو انه: هل مفادها نفي الحرج الشخصي أو مفادهما نفي الحرج النوعي، والشخصي مداره الشخص نفسه وانه إن كان في حرج من هذا الحكم، كالصوم، ارتفع عنه خاصة، مادام حرجياً عليه، لا عن غيره، ولا عنه في وقت آخر لا يكون فيه حرجياً عليه، وأما النوعي فمداره النوع والمقصود أغلب الأشخاص في أغلب الأوقات من أغلب أفراد ذلك الحكم، كالسواك، فان رفع وجوبه بقوله (صلى الله عليه وآله): ((لَوْ لَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ))([1]) إنما هو لأجل ان الغالب يقع في عسر وحرج لذا رُفع عن الكل، لا لأن الشخص قد يقع في حرج؛ وإلا لوجب ان يوجب على من لا يقع في حرج.. والمهم التدبر في أدلة الطرفين:

من الأدلة على نفي لا حرج للحرج الشخصي

أ- ظاهر ضمير الجمع

فقد يستدل على ان الحرج شخصي بان ذلك ظاهر كون ضمير الجمع في (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)([2]) (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)([3]) انحلالياً فان (لكم) وسائر صيغ الجمع كـ(العلماء) ينحل إلى: لزيد وعمرو وبكر وهكذا، وهذا العالم وذاك وذياك وهكذا، فان الجمع هو جمع الأفراد كما ان التثنية جمع الفردين فزيدان يعني زيد وزيد وزيود يعني زيد وزيد وزيد ولكن بنحو اللابشرط القسمي الذي يجتمع مع ألف شرط، لا بنحو البشرط شيء، وإلا لكان من (المجموع) لا (الجميع) والمجموع هو الجميع نفسه لكن مع إضافة العلة الصورية أو الهيئة، كالغابة فانها تزيد عن جميع آحاد أشجارها بأنضمامها بعضها إلى بعض، فانها قد تكون جميعاً من غير ان تكون مجموعاً، كما لو تناثرت مائة ألف شجرة في بقاع شتى.

والحاصل: ان (المجموع) خلاف الأصل فان (الارتباطية) و(كون الشيء بنحو بشرط شيء) قيد زائد، والجميع في صيغ الجمع هو الأصل إذ يلاحظ الأفراد بما هم أفراد لا بشرط انضمام وصورة أو هيئة.

والمتحصل: انه إذا كان (لكم) انحلالياً في الآيات الكريمة كان معنى ذلك ان كل شخصٍ له حُكمه، فإن كان زيد في عسر من الصوم مثلاً رَفَعَه الله عنه، وإن لم يكن عمرو في عسر لم يرفعه عنه، فان وضع الحكم فرع ثبوت الموضوع وشرطه ورفعه فرع ارتفاع أحدهما، والكلي لا وجود له إلا بوجود أفراده، فالمدار المصاديق.

ب- مقتضى مقام الامتنان

وقد يستدل على انه شخصي بان ذلك مقتضى الامتنان فانه المِنّة إنما هي في رفع الحكم عمن صار في حقه حرجياً دون غيره، بل رفعه عن غيره خلاف المِنّة؛ إذ لا شك في ان الحكم، الوجوب، إنما جعل لمصلحة ملزمة فإذا عارضته مفسدة كالعسر والحرج كان للحكيم ان يرفعه تغليباً لدفع المفسدة على جلب المصلحة، أما من لا يقع في حرج من الحكم فان تفويت المصلحة الملزمة عليه قبيح إذ لم يزاحمها شيء، فرفْعُ الحكمِ تفويتٌ لمصلحته، من غير ان ينتفع به يسراً لأنه من تحصيل الحاصل في حقه.

قال الشيخ (قدس سره) مزيجاً بشرح الوصائل: ("وفي هذا الاستدلال نظر، لأنّ أدلّة نفي العسر والحرج من الآيات والروايات" وكذا الاجماع والعقل قد وردت في مقام الامتنان، فهي "لا تدل الّا على انّ ما كان فيه ضيقٌ على مكلّف، فهو مرتفع عنه" وذلك لأنه يتدارك بمصلحة التسهيل.

"وامّا ارتفاع ما كان ضيقاً على الأكثر عمّن هو" أي التكليف "عليه في غاية السّهولة، فليس فيه امتنانٌ على أحد" لأنّ رفع التكليف عن الذي لا عسر فيه عليه بلا تدارك، لا امتنان فيه له ولا لغيره، فانه ليس منّة على زيد لو رفع التكليف عن عمرو، ولذلك قال: "بل فيه تفويت مصلحة التّكليف من غير تداركها بالتسهيل" إذ ليس الرفع تسهيلاً عليه، حتى يتدارك مصلحة سقوط التكليف بمصلحة التسهيل.

مثلا : في الوضوء مصالح؛ فاذا عسر على انسان، بدّله الشارع بالتيمّم، أمّا اذا لم يكن على انسان عسراً وتيمّم فاتته مصلحة الوضوء، ولم يكن في رفع الوضوء عنه تسهيلاً عليه)([4]).

من الأدلة على نفي الحرج النوعي

وفي مقابل ذلك فانه قد يستدل على ان الحرج نوعي دائر مدار غالب المكلفين في غالب الأوقات، بظواهر الأدلة الدالة على ان الأحكام الكلية منوطة بالحرج النوعي وان الله رفع أحكاماً عن الكل لكونها حرجاً على النوع والغالب قال الشيخ: ("وهذا المعنى وإن كان خلاف الظاهر" حيث ان المستفاد من رفع الحرج هو: الحرج الشخصي، لا الحرج النوعي، بمعنى: ان كل من يشق عليه امتثال تكليف من التكاليف في مورد من الموارد يرتفع عنه ذلك التكليف في ذلك المورد، لا انّه مرفوع عن عامة المكلفين. وعليه: فاذا كان في المدينة ـ مثلاً ـ مائة انسان وكان الوضوء يشق على خمسة وتسعين منهم ولا يشق على الخمسة الباقين، وجب على أولئك الخمسة الوضوء، وهكذا بالنسبة الى الصلاة من قيام، والصوم، والغسل، وغير ذلك، حتى اشتهر بينهم: ان رفع الحرج شخصي وليس بنوعي، سوى ما ذكره الشارع بالنص مثل: ((لَوْ لَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي)) ونحوه، حيث ان المشقة النوعية فيها أوجبت رفع الشارع بنفسه التكليف عن كل المكلفين.

وعليه: "الّا انّه يتعين الحمل عليه" أي : على النوعي بالإضافة الى الشخصي أيضاً "بمعونة ما ورد: من إناطة الأحكام الشرعية وجوداً وعدماً بالعسر واليسر الغالبين")([5])

ظواهر الآيات والروايات: مدارية الحرج النوعي

وقد يستدل على ذلك بالآيات والروايات التالية([6]):

أ- قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضاً أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) فان الله سبحانه وتعالى رفع حكم الصوم بالكلية عن المسافر والمريض، سواء من يقع منهم في عسر وحرج من الصوم ومن لا يقع، وعلّله بـ(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) مما دل على مدارية النوع في رافعية العسر والحرج للحكم الكلي وانه ليس المدار الشخص، وان الحكم الكلي ثابت للنوع فحتى من لم يكن حرجياً عليه فان حكمه (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وقد رفع وجوب الصوم عنه بل رفع جوازه.

ب- قوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرينَ)([7]) وقال السيد الوالد: (حيث رفع الحكم عن الجميع بواسطة ضعف البعض)([8]).

ج- قوله (صلى الله عليه وآله): ((لَوْ لَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ))([9]) فقد رُفِع حكم الوجوب كلية عن كل المكلفين رغم ان بعضهم فقط يقع منه في حرج.

د- صحيحة أبي بصير: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الْجُنُبِ يَجْعَلُ الرَّكْوَةَ أَوِ التَّوْرَ فَيُدْخِلُ إِصْبَعَهُ فِيهِ؟ قَالَ: إِنْ كَانَتْ يَدُهُ قَذِرَةً فَأَهْرَقَهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُصِبْهَا قَذَرٌ فَلْيَغْتَسِلْ مِنْهُ، هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج‏) ))([10]) ووجهه ان الجنابة قذارة معنوية دون شك لكن الشارع لم يحكم بنجاسة الجنب (وفكك الخبث عن الحدث) وجوّز للمكلف ان يغتسل بماءٍ وَضَعَ الجنبُ فيه يَدَهُ، لمصلحة التخفيف والتسهيل مع انها جارية فقط فيمن لا يملك غير هذا الماء، عكس من له وفرة من المياه.

هـ - وفي رواية أخرى: عن أبي عبد الله عليه ‌السلام:  

((إِنَّا نُسَافِرُ، فَرُبَّمَا بُلِينَا بِالْغَدِيرِ مِنَ الْمَطَرِ يَكُونُ إِلَى جَانِبِ الْقَرْيَةِ، فَيَكُونُ فِيهِ الْعَذِرَةُ وَيَبُولُ فِيهِ الصَّبِيُّ، وَتَبُولُ فِيهِ الدَّابَّةُ وَتَرُوثُ؟ فَقَالَ: إِنْ عَرَضَ فِي قَلْبِكَ مِنْهُ شَيْ‏ءٌ فَافْعَل هَكَذَا - يَعْنِي افْرِجِ الْمَاءَ بِيَدِكَ ثُمَّ تَوَضَّأْ - فَإِنَّ الدِّينَ لَيْسَ بِمُضَيَّقٍ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏) ))([11]).

المحتملات في رواية التوضأ من الغدير

أقول: في الرواية محتملات:

أ- ان يكون الغدير المسؤول عنه، ولو بقرائن حالية أو تاريخية، كُرّاً، وقد بقي من غير ما تغيّر لونه وطعمه وريحه، مقدار الكر، فانه لا ينجس، لكن هذا خلاف إطلاق السؤال كما ينفيه ترك الإمام (عليه السلام) الاستفصال، إلا ان يؤتي عليه ببرهان. فتأمل

ب- ان لا يكون السائل عالماً بوجود العذرة وبول الصبي فيه، بل كان مجرد ظان والظن ليس بحجة كما ان الاستصحاب يفيد العدم، وهذا وإن كان خلاف ظاهر كلام السائل (فيكون فيه...) لكن لعله ظاهر كلام الإمام (عليه السلام) (إن عرض في قلبك منه شيء) فانه ظاهر في الاحتمال فقط.

ج- ان يكون مبنياً على ان المتنجس لا ينجس، كما افتى به نادر، ككاشف الغطاء([12])، فيما لو خلا المتنجس من عين النجاسة، واحتاط فيه قليل كالسيد الجد([13])، لكنه غير مجد إذ الكلام في الرواية عن التوضأ به، إلا ان يراد به التطهر من الخبث.

د- انه استثناء من عموم تنجس الماء القليل.  

ولا يضرنا التردد بين هذه الاحتمالات، بل والالتزام بأي منها أو غيرها، إذ ذلك كله لا يضر الشاهد وهو استدلال الإمام (عليه السلام) عليه (مهما كان المستدَل عليه) بـ(فانّ الدين ليس بمضيّق وان الله عز وجل يقول: (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) حيث ان ظاهره إناطة الحكم بصحة الوضوء منه مدار النوع والحرج الغالبين (لا مدار الأشخاص: وان من وقع في حرج فله ان يتوضأ منه ومن لم يقع لا). وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

قال الإمام الرضا (عليه السلام): ((مِن عَلاماتِ الفِقهِ الحِلمُ، وَالعِلمُ، وَالصَّمتُ. إنَّ الصَّمتَ بابٌ مِن أبوابِ الحِكمَةِ. إنَ الصَّمتَ يَكسبُ المَحَبَّةَ. إنَّهُ دَليلٌ عَلى كُلِّ خَيرٍ‏‏)) (الكافي: ج2 ص113).


-----------
([1])  أبو جعفر البرقي، المحاسن، دار الكتب الإسلامية ـ قم: ج2 ص561.

([2]) سورة الحج: الآية 78.

([3]) سورة البقرة: الآية 185.

([4]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الوصائل الى الرسائل، مؤسسة عاشوراء ـ قم: ج9 ص51.

([5]) المصدر: ص48.

([6]) وقد ذكرها السيد الوالد في الوصائل، وأضفنا لها الشرح والوجه، كما ستأتي إضافة روايات أخرى.

([7]) سورة الأنفال: الآية 66.

([8]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الوصائل الى الرسائل، مؤسسة عاشوراء ـ قم: ج9 ص49.

([9])  أبو جعفر البرقي، المحاسن، دار الكتب الإسلامية ـ قم: ج2 ص561.

([10]) تهذيب الاحكام : ج 1 ص 38 ب 3 ح 42 وص 229 ب 10 ح 44 ، الاستبصار ج 1 ص 20 ب 10 ح 1 ، وسائل الشيعة : ج 1 ص 154 ب 8 ح 385.

([11]) تهذيب الاحكام: ج 1 ص 417 ب 21 ح 35، الاستبصار: ج 1 ص 22 ب 10 ح 10، وسائل الشيعة: ج 1 ص 163 ب 9 ح 404.

([12]) الشيخ محمد حسين.

([13]) راجع العروة المحشاة بـ41 حاشية ج2 ص186-187.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4065
  • تاريخ إضافة الموضوع : السبت 18 جمادى الآخرة 1443هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15