بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(56)
الاحتياط في التدريجيات يشهد على كثرة الابتلاء بموارده
ومما يؤكد إشكالنا الأول السابق على المحقق اليزدي من (ان الموارد التي يبتلى بها أحاد المكلفين والتي تستلزم لهم الحرج الشخصي ليست قليلة، وقد مضى التمثيل لذلك بنجاسة الحديد فانه مما يشتد ابتلاء أغلب، إن لم يكن جميع المكلفين، به، وكذلك نجاسة أنواع من المسوخ كالفأرة وأنواع من السباع كالهرة، ولبن الجارية إذ ان الكثير جداً من بيوت كل مدينة، لا يخلو من مرضع لجارية، وكذا وجوب غسل الجمعة، ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال، ووجوب تجنب ما لا يدركه الطرف من الدم، ونجاسة المذي([1]) الذي قال ابن الجنيد بنجاسته لبعض الروايات، وبطلان معاملة الصبي الراشد ولو بإذن الولي، وتعيّن تقليد الأعلم فانه حرجي للكثيرين إما في تشخيصه أو في الالتزام بفتاواه، خاصة، مقابل التخيير بينه وبين غيره.. وهكذا)([2]) أنواعُ([3]) الاحتياط الأربعة في أطراف العلم الإجمالي في التدريجيات، فانها مما لا مفرّ عادةً لأي مكلف منها بل هي مما يكثر الابتلاء به جداً، كما ان أصنافها كثيرة متنوّعة، والاحتياط فيها واجب على مبنى وجوبه مطلقاً سواء أكان في المظنونات أم المشكوكات أم الموهومات حتى وإن كان مبنى الفقيه، المحقق اليزدي أو غيره، عدم تنجز الاحتياط في التدريجيات مطلقاً أو في بعض أنواعها من جهة عدم العلم بالجامع والتكليف إلا ان الاحتياط الكلي بناء على لزومه في الدوائر الثلاث([4]) بل في بعضها، دليل آخر حاكم، بيان ذلك:
أنواع الاحتياط العرضي والطولي
ان العلم الإجمالي تارة يتعلَّق بالجامع بين الأفراد العرضية، ولا شك في وجوب الاحتياط في هذه الصورة كما لو علم بنجاسة أحد الانائين الموجودَين فِعلاً.
أنواع الاحتياط الأربعة في التدريجيات
وتارة يتعلق العلم الإجمالي بالجامع بين الأفراد الطولية أي المتعددة بتعدد الأزمان والمنتشرة في أوقات مختلفة، ولهذا صور:
فتارة يكون التكليف فعلياً على جميع التقادير وأخرى يكون فعلياً على بعضها دون البعض الآخر، وعلى الثاني فاما ان يكون ملاكه متحققاً الآن أو لا، فالصور ثلاثة يضاف لها رابع آت وهي:
التكليف فعلي مطلق لكن له فردان طوليان
أ- ان يكون التكليف فعلياً مطلقاً، ولكن وجد له فردان أحدهما فعلي في هذا الزمن (اليوم) والآخر استقبالي في زمن لاحق (غداً مثلاً) وذلك بناء على إمكان الواجب المعلق (وهو ما لو كان الوجوب فعلياً والواجب استقبالياً) وذلك كما لو نذر انه (إن رزق ولداً ان يتصدق على فقير)، فرزقه الله ولداً، ولكنه تردد أنّ نذره كان هو التصدق اليوم أو التصدق غداً فانه مكلف بالفعل بالتصدق على كلا التقديرين (لفرض إمكان الواجب المعلّق) أي ان التكليف منجز في حقه لكن متعلّقه اما الصدقة في الزمن الأول أو الصدقة في الزمن الثاني، والتدريجية إنما هي في تحقق متعلق التكليف.
ولا شك في منجزية العلم الإجمالي حينئذٍ لفرض انه لا تعليق في وجوب التكليف، وعِلمه بانه مكلف الآن حتماً سواء أكان متعلقه هذا أو ذاك([5]).
التكليف فعلي على تقديرٍ مع تحقق الملاك مطلقاً، واستحالة المعلّق
ب- ان لا يكون التكليف فعلياً على جميع التقادير، بل يكون فعلياً على تقدير دون آخر، ولكن مع كون الملاك متحققاً في الصورتين، وذلك في المثال السابق نفسه، ولكن بناء على استحالة الواجب المعلق، فان الملاك هو ان يرزق ولداً والفرض انه قد رزق، فالملاك متحقق من الآن لكنه إن كان قد نذر التصدق اليوم فالوجوب فعلي، وإن كان قد نذر التصدق غداً فالوجوب غير فعلي.
التكليف فعلي على تقدير مع تحقق الملاك فيه فقط
ج- الصورة الثانية بحالها لكن مع عدم تحقق الملاك، ففي احدى الصورتين لا التكليف فعلي ولا الملاك فعلي، وفي الأخرى كلاهما فعلي، وذلك في المثال السابق بعينه لكن مع تردده انه رزقه الله ولداً بالفعل (لغيبته عن المستشفى مثلاً) أو انه سيرزقه بعد ساعة مثلاً وتردده في انه نذر الصدقة عند رزقه الآن أو عند رزقه بعد ساعة، فعلى تقدير انه نذر الصدقة الآن وولد ولده الآن فكل من الملاك والتكليف فعلي، وعلى فرض انه نذر الصدقة بعد ساعة وانه سيولد ولده بعد ساعة فالملاك استقبالي والتكليف كذلك، وكذلك يمثل له بما لو دار أمر الصلاة الواجبة عليه بين الصلاة الفعلية الواجبة الآن (لكونه قد نذرها الآن في أحد محتمليه أو لكونها العشاء وقد علم انها إما هي الواجبة عليه لأنه لم يؤدها) أو الصلاة عند حصول الخسوف بعد ساعة مثلاً، حيث انه: لا ملاكها موجود الآن ولا فعلية الوجوب متحققة.
وقد ارتأى الشيخ (قدس سره) التفصيل بالمنجزية في صورة وجود الملاك (الصورة ب) وعدمها في صورة عدمه (الصورة ج) وأما الأخوند فذهب إلى عدم المنجزية في الصورتين، بينما ذهب المحقق النائيني إلى المنجزية فيهما.
أقول: فهذا على حسب جَرْى القوم وما مثّلوا به مع تطبيق الكلام كله على مثال واحد بصوره المختلفة، ولكن لنضف بعض الأمثلة الأخرى ليُعلم ان البحث شديد الابتلاء جداً:
لو علم بانه سيغتاب أو يسمع الغيبة أو يكذب أو يتّهم إن حضر هذا المجلس المنعقد الآن أو فيما إذا حضر المجلس الذي سينعقد غداً، إذ كثيراً من الناس قد يحرز عدم صدور المعصية منه الآن خاصة أو غداً خاصة (لوجه ما ولو لحضور من يخشاه في أحد المجلسين) فانه يحرم حضور المجلس الذي ستصدر منه المعصية فيه بناء على حرمة مقدمة الحرام، فلو علم بان من يخشى حضوره سيحضر أحد المجلسين فقط فعلم انه ستصدر منه المعصية في المجلس الآخر من دون ان يعلم انه المجلس الحالي أو الاستقبالي، فهل هذا العلم الإجمالي منجز فيحرم عليه حضور كلا المجلسين؟
وكذلك لو علم انه لو ذهب إلى الجامعة فانه سيقع في علاقة محرمة إما اليوم أو غداً.. وهكذا لو علم انه لو انشغل بالتجارة فانه سَيُرابي اليوم أو غداً أو يغش أو يسرق اليوم أو غداً.. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة جداً والشديدة الابتلاء جداً.
التكليف متعلق بالفرد المردد
وهناك صورة رابعة وهي:
د- ما لو لم يتعلق العلم بالجامع بل بأحدهما على سبيل البدل، كما لو علم بانه إما سيغتاب لو حضر هذا المجلس أو سيكذب لو حضر المجلس غداً أو انه إما يرابي لو ذهب للسوق اليوم أو سيكذب لو ذهب إليه غداً.. وهكذا
والأخير مما لعله لا قائل بتنجزه إلا ان يُرجَع إلى جامعٍ ولو اعتباري.
وجه الدفاع عن الشيخ ومناقشة اليزدي
والشاهد في دفاعنا عن الشيخ مقابل إشكال اليزدي عليه، انه بناء على مبنى لزوم الاحتياط حتى في الموهومات([6])، فانه حتى لو كان مبنى الفقيه عدم منجزية العلم الإجمالي في بعض الصور (كالصورة الأخيرة، أو مع التي سبقتها أو حتى مع الصورة الثانية) فان الفرض انه لا يوجد دليل قطعي من نص متواترة أو إجماع مسلم موجب للحدس أو اللطف القطعي (لفرض ان المسألة لم تكن مطروحة قديماً بل لم يطرحها الأكثر) وعليه فيبقى الحكم (كالوجوب) إما مظنوناً بالظن غير المعتبر أو مشكوكاً أو موهوماً، فعلى مبنى وجوب الاحتياط الكلي مقدَّماً على الظن المطلق، فانه يجب على المكلف الاحتياط في كافة الصور الأربع الماضية، حتى مع استظهار الفقيه عدم منجزية التكليف من حيث العلم الإجمالي، لكنه يبقى محتملاً ولو موهوماً([7]) مما يوقع أكثر المكلفين في أكثر الأزمان في أشد العسر والحرج إذ لا يخلو يوم من أيام حياتهم من الدوران بين فعل محرم فيه أو في يوم لاحق. فتأمل.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَتْقَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى النَّاسِ فَلْيَكُنْ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدِهِ)) (من لا يحضره الفقيه: ج4 ص400).
------------
([1]) المذي، ماء رقيق يخرج عند الملاعبة والتقبيل والنظر، بلا دفع وفتور - مجمع البحرين. أما الوذي، فهو ما يخرج عقيب إنزال المني. أما الودي فهو البلل اللزج الذي يخرج من الذكر بعد البول – مجمع البحرين.
([2]) الدرس (55).
([3]) مبتدأ متأخر خبره هو: ومما يؤكد.
([4]) المظنونات، المشكوكات والموهومات.
([5]) (الصدقة الآن أو غداً).
([6]) لاحظ عبارة الشيخ التي ناقشها صاحب العروة، قال (قدس سره): (الثاني: لزوم العسر الشديد والحرج الأكيد في التزامه؛ لكثرة ما يحتمل موهوماً وجوبه خصوصاً في أبواب الطهارة والصلاة، فمراعاته مما يوجب الحرج، والمثال لا يحتاج إليه؛ فلو بنى العالم الخبير بموارد الاحتياط فيما لم ينعقد عليه إجماعٌ قطعيٌّ أو خبرٌ متواترٌ على الالتزام بالاحتياط في جميع أموره يوما وليلة، لوجد صدق ما ادّعيناه. هذا كله بالنسبة إلى نفس العمل بالاحتياط) (فرائد الأصول: ج1 ص404).
([7]) مما يفتح المجال للقول بوجوب الاحتياط مقابل العمل بالظن المطلق.
|