بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(50)
6- ظنون المجتهد حجة
وأما التخريج السادس فهو: ان ظنون المجتهد حجة مطلقاً مادام قد استفرغ وسعه، والمقام صغرى هذه الكبرى فان الشهرة العملية تورث المجتهد الظن بمطابقة مضمون الخبر الضعيف السند، للواقع بل وتورث الظن بصدقه، بل وكذا الشهرة الفتوائية فانها تورث الظن بالمطابقة وإن لم تورث الظن بصحته فرضاً.
وقد سبق: (المقدمة الخامسة: ان البحث تارة يقع في حجية الظن مطلقاً، أي حجية كافة الظنون، وأخرى يقع في حجية ظن المجتهد مطلقاً وعدمها، إذ قد لا يَلتزم الفقيه بان كافة الظنون حتى ظنون العوام وغير أهل الخبرة حجة؛ لبداهة ان غير أهل الخبرة لا يرى العقلاء حجية آرائهم واجتهاداتهم القطعية([1]) فكيف بالظنية، ولكن قد يقال بان ظنون المجتهد حجة مطلقاً أي سواء أنشأت من الظنون الخاصة (والتي نسميها الظنون المنهجية) كخبر الثقة والظواهر أم نشأت من الظنون التي لم تثبت حجيتها لدى الفقيه، كالشهرة والإجماع المنقول والظهور السياقي، أو حتى تلك التي نشأت مما علم عدم حجيته كخبر الفاسق؛ إلا القياس فانه لشدة لسان الروايات الرادعة عنه، يأبى الاستثناء وذلك بالأدلة الآتية.
ولا يتوهم التناقض في القول بان ظن المجتهد حجة ولو نشأ مما علم عدم حجيته كخبر الفاسق، وذلك لأنه قد يقال: إن خبر الفاسق ليس بحجة ولكن الظن الشخصي الحاصل للمجتهد من هذا الخبر الذي جاء به هذا الفاسق حجة، فالحجية صفةُ ظنِّ المجتهد وليست صفة خبر الفاسق وإن كان خبره عِلّة حصول الظن له، والفرق بينهما كبير)([2]).
أدلة الوحيد البهبهاني الخمسة على حجية ظن المجتهد
وتحقيق الحال في ذلك ان بعض فطاحل الفقهاء ذهبوا إلى حجية ظن المجتهد مطلقاً ومنهم الوحيد البهباني على ما نقله عنه حفيده السيد محمد المجاهد صاحب المفاتيح في مفاتيحه واستدل على ذلك بخمسة أدلة، قال في المفاتيح: (الثّاني [القول في بيان خروج ظن المجتهدين من تحت عدم حجية الظن]
قال جدي رحمه الله، في جملة كلام له: وبالجملة الأصل عدم حجيّة الظن خرج من جميع ذلك ظن المجتهد بالإجماع وقضاء الضرورة إذ المسلمون أجمعوا على أن من استفرغ وسعه في درك الحكم الشرعي وراعى عند ذلك جميع ما له دخل في استحكام المدرك وتشييده وتسديده وحصّل ما هو أحرى، يكون ذلك حجّة عليه، والضّرورة قاضية بأنه لو كان الظنّ حجّة فهذا حجّة وكذا لو كان لا بدّ من العمل بالظن جاز التّعويل على ذلك، وأيضاً بقاء التكاليف إلى يوم القيامة يقيني وسدّ باب العلم أيضاً معلوم كما عرفت، ومَن إستفرَغَ وسعه في جميع ما له دخل في الوثوق والمتانة وحصل ما هو أقرب لا يكلّفه اللّه تعالى أزيد من ذلك يقيناً لقوله تعالى (لا يكلّف اللّه نفسا إلا وسعها) وقوله تعالى (ما جعل عليكم في الدّين من حرج) و ما ورد أنه لا يكلف ما لا يطاق)([3]) فهذه ثلاثة أدلة وسيأتي الدليلان الآخران.
الإشكال على استدلاله بالإجماع على حجيته
ولكن قد يورد عليه بالوجوه التالية:
أولاً: ان الإجماع المدعى لا يخلو إما ان يدعي انعقاده على حجية ظن المجتهد مطلقاً، أو على خصوص حجية ظن المجتهد الناشئ من الظنون الخاصة كخبر العدل الإمامي الضابط، والأول هو المطلوب والنافع في هذا البحث([4]) كما لا يخفى.
فإن اراد الأول ورد عليه: انه يقطع بخلافه إذ ان هنالك الكثير من العلماء ومنهم المولى أحمد النراقي([5]) كما نقلنا عبارته سابقاً([6]) والشيخ الانصاري وغيره ممن صرحوا بعدم صحة اعتماد المجتهد إلا على الظنون الخاصة أي الظنون التي دل دليل خاص على اعتبارها وعدم صحة اعتماده على الظن المطلق.
نعم من ذهب إلى الانسداد وهم قلة قليلة من الفقهاء كصاحب القوانين، التزم بحجية الظن المطلق.
وبوجه آخر: الإجماع دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن وهو حجية ظن المجتهد الناشئ من الظنون الخاصة، فحتى لو فرض عدم إحاطتنا بكلام المجمعين وعدم وجود تصريح كتصريح الشيخ بتقييد اجتهاد المجتهد بكونه معتمداً على الظنون الخاصة، فان القدر المتيقن من الإجماع هو ما كان اجتهاده معتمداً على الظنون الخاصة.
وإن أراد الثاني: ورد انه لا يجدي شيئاً في مساق البحث من حجية الضعيف السند المعتضد بالشهرة إذ بناءً على عدم كونها ظناً خاصاً وحجة بالخصوص فلا تجدي لتصحيح تمسك المجتهد بالخبر الضعيف السند.
الإشكال على دعوى الضرورة
ثانياً: ان قوله: (والضّرورة قاضية بأنّه لو كان ظنّ حجّة فهذا حجّة، وكذا لو كان لا بدّ من العمل بالظن "جاز التعويل على ذلك")([7]) غير تام؛ إذ القضية الشرطية لا تنتج صحة التالي إلا مع إثبات المقدم فقوله: (لو كان ظنّ حجّة فهذا حجّة) لا يجدي في حجية هذا (المعتضد بالشهرة) أبداً وهو أوضح من ان يخفى، إلا ان يستدل عليه ببرهان الانسداد مثلاً، لكنه اعتبره، حسب ظاهر عبارته دليلاً آخر إذ قال: (وأيضاً...).
الإشكال بتخالف كلاميه، والجواب
ثالثاً: يرد على قوله: (وأيضاً بقاء التكليف إلى يوم القيامة يقينيّ، وسدّ باب العلم معلوم كما عرفت)([8]) ان هذا الكلام صريح في انه يرى انسداد باب العلم مع ان الوحيد يصرح في موضع آخر بعدم انسداده قال: (ولا شكّ في فساد المناقشة؛ لاقتضائها سدّ باب إثبات الفقه بالمرّة؛ إذ لا شبهة في أنّ عشر معشار الفقه لم يرد فيه حديث صحيح، والقدر الّذي ورد فيه الصّحيح لا يخلو ذلك الصّحيح من اختلالات كثيرة بحسب السّند، وبحسب المتن، وبحسب الدّلالة، ومن جهة التعارض بينه وبين الصّحيح الآخر، أو القرآن، أو الإجماع، أو غيرهما - كما أشرنا إليه في الفوائد وظهر لك من التأمّل فيها، وفي الملحقات أيضاً إلى هنا- وبدون العلاج كيف يجوز الاحتجاج به؟! وكذا إذا لم يكن العلاج حجّة...)([9]).
والحاصل: انه حسب عبارته هنا يرى مسلمية فتح باب الفقه ويعتبره محذوراً كافياً لإبطال أية دعوى تستلزم القول بانسداده كدعوى: (وإن كان في بعض المواضع يناقش: بأنّ العدالة شرط في حجّية الخبر الواحد، والمشروط عدم عند عدم شرطه)([10]) فاشكل عليه بـ:(ولا شك في فساد...) وذلك على عكس صريح عبارته الآنفة والتي نقلها عنه صاحب المفاتيح أيضاً من (وسد باب العلم أيضاً معلوم).
ويمكن الجواب عن ذلك بالفرق بين الانسدادين لأنه يرى انسداد باب العلم دون العلمي وانسداد باب الخبر الصحيح دون المعتبر. فتدبر.
دليل الانسداد، وجوابه
رابعاً: ويرد على قوله: (ومن استفرغ وسعه في جميع ما له دخل في الوثوق والمتانة، وحصل ما هو أقرب لا يُكلّفه اللّه أزيد من ذلك يقيناً)([11]) أمران:
الأول: ان هذا المقدار من مقدمات الانسداد الذي بنى عليه لا ينتج حجية الظن المطلق إذ انه (قدس سره) ذكر ثلاث مقدمات: 1- بقاء التكاليف يقيناً. 2- انسداد باب العلم بها. 3- لزوم إتباع الأقرب وهو ما افاد الظن، إذ اننا حتى لو ضممنا إليه مقدمة رابعة وهي ان البراءة مستلزمة للخروج عن الدين، فانه لا يجدي لتصحيح الاعتماد على الظن بل لا بد من مقدمات أخرى، ومنها: ان الرجوع إلى القواعد العامة المسلّمة (من ظواهر الكتاب ونصوصه، ومن ظواهر الروايات الصحيحة والمحتفة بالقرينة القطعية أو المتواترة) ثم الاستصحاب، مما يعلم بعدم انحلال العلم الإجمالي به، وبقائه بحاله وإن كان حينئذٍ أضيق دائرة.. كما لا بد من ضميمة مقدمات أخرى كما سيأتي.
الثاني: ان دليل الحرج الذي استند إليه، لا يكفي برهاناً على الحجية، وسيأتي بيانه، كما سيأتي التطرق لدليله الرابع والخامس، ثم نستعرض أدلة الوحيد في كتاب (الفوائد الحائرية)([12]) ثم بعض ما ذكرناه في الدرس الأسبق([13]).
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((إِنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ زَلَّتْ مَوْعِظَتُهُ عَنِ الْقُلُوبِ كَمَا يَزِلُّ الْمَطَرُ عَنِ الصَّفَا)) (الكافي: ج1 ص44)
------------
([1]) أي الحجية على غيره، أما الحجية لنفسه فالمشهور ان القاطع قطعه ذاتي الحجية وقد ناقشنا في ذلك مفصلاً في كتاب (الحجة معانيها ومصاديقها) و(فقه التعاون على البر والتقوى) وغيرهما.
([2]) الدرس (32) بإضافة.
([3]) السيد محمد صاحب المجاهد، مفاتيح الأصول: ص491 والفوائد الحائرية ص136.
([4]) حجية الضعيف المعتضد بالشهرة.
([5]) عوائد الأيام: ص357.
([6]) الدرس (32).
([7]) محمد باقر الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص136.
([8]) المصدر.
([9]) المصدر: ص488.
([10]) المصدر.
([11]) المصدر: ص136-137.
([12]) ص488.
([13]) الدرس 32 و33.
|