• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الظن (1442-1443هـ) .
              • الموضوع : 037-ترجيح أحد المتعارضين بالظن المطلق .

037-ترجيح أحد المتعارضين بالظن المطلق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(37)

إشكال: الإرجاع إلى الـحَكَمين أو الشاهد، يدخل الظن في الخاص

لا يقال: ان مثل أرش الجنايات مما لم يرد فيه تحديد من الشارع، بل أوكل تحديده إلى حكمين عادلين يحكمان به أو أوكله إلى أهل الخبرة، وكذلك مثل تحديد كفارة الصيد مما لم ترد فيه كفارة محددة حيث صريح الكتاب هو: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ)([1]) حيث أرجع تعالى الأمر إلى حكومة ذوي عدل، فيندرج ذلك في الظنون الخاصة لا المطلقة، فلا تصلح كثمرة لبحث حجية الظن المطلق ولا كشاهد أو دليل.

الجواب: الـحَكَم والشاهد في الحدسيات، يستند للظن المطلق

إذ يقال: بل تصلح رغم ذلك، وذلك: لأن الشارع كلما حدّد الشاهدين كمرجع وحجة فانه في غير الأمر الحسي الذي تلزم فيه الشهادة عن علم وحس قطعي إذ ورد ((عَلَى مِثْلِهَا([2]) فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ))([3]) أي في خصوص الأمر الحدسي فان إرجاعه إلى الـحَكَم والشاهد من غير تقييده بحكمه عن ظن خاص، هو الشاهد والدليل على المدعى إذ يقال: ان الشارع لم يحدد لهذا الـحَكَم أو الشاهد مرجعية من الظنون الخاصة فتكون الظنون المطلقة حجة مادام يصدق عليه عرفاً انه قد (تفقّه) و(حَكَم).

توضيحه: ان الشاهد في الأمر الحدسي (كقِيَم المتلفات وأرش الجنايات وتقدير النفقات) كالمجتهد، كلاهما حجة نوعية لكن هذا على مقلده وذاك على المشهود عنده عليه أو له، وإنما الكلام في ان الشارع هل جعل لنفس المجتهد أو الشاهد في الحدسيات، مرجعية خاصة ونوعية أم أطلق فتكفي الظنون المطلقة فقال المشهور بان المجتهد لا بد ان يرجع إلى الظنون الخاصة وقال قليل من الفقهاء بانه يكفي الرجوع إلى الظنون المطلقة، فالكلام ليس عن كون الاجتهاد والشهادة حجة نوعية على الغير دلّ عليها الدليل الخاص، فإن ذلك مسلّم بل عن المجتهد نفسه والشاهد نفسه: انه هل يكفي اعتماده في اجتهاده أو شهادته الاستناد إلى الظن المطلق أم لا بد من اعتماده على الظنون الخاصة؟ استدللنا سابقاً بصدق (لِيَتَفَقَّهُوا) و((عَلَيْكُمُ التَّفْرِيعُ)) على كلا النوعين وببناء العقلاء وغير ذلك فراجع.

والحاصل: ان من ثمرات القول بحجية الظن المطلق، القول بحجية ظنون المجتهد المطلقة، كما ان من الأدلة على حجية ظنونه المطلقة بناء العقلاء ومن طرق استكشاف بنائهم العام بناؤهم الخاص على حجية ظنون الشاهد في الحدسيات، المطلقة وأمثال ذلك بعد استكشاف الجامع بالرجوع إلى مرتكزات العقلاء. فتأمل.

بل حتى على القول بان تقدير أرش الجنايات يكون بفرض الحرّ عبداً ثم تقدير قيمتيه سالماً ومعيباً ثم يقدر الأرش بنسبة ذلك إلى دية الحرّ، فان تقدير ذلك موكول إما إلى الشاهدين أو إلى أهل الخبرة الواحد أو حتى لو فرض الأكثر، ولكن لم يحدد الشارع مرجعية خاصة لهذا الخبير في تحديد ما يحدسه، فالمرجع حدسه المطلق من أي طريق حصل (من الظن الخاص أو النوعي.

كلام الجواهر (قدس سره)

قال في الجواهر: ("في الجناية على الأطراف" "والمقاصد ثلاثة: الأول: في ديات الأعضاء"

"و" قد تقدم في كتاب القصاص أنّ "كل ما لا تقدير فيه ففيه الأرش" المسمّى بالحكومة، وفيه يكون العبد أصلاً للحرّ، كما هو أصل له فيما فيه مقدّر، بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه)([4]).

لا يقال: توجد نصوص خاصة في المقام فقول الخبير أو الـحَكَمين في تقدير الأرش مندرج في الظن الخاص؟، قال في الجواهر: (مضافاً إلى إمكان استفادته من النصوص بالخصوص، فضلاً عن استفادة عدم بطلان الجناية وكونها هدراً - حتى أرش الخدش - من الكتاب والسنة، فليس مع عدم التقدير إلّا الحكومة، وإلّا كانت جناية لا استيفاء لها لا قصاصاً ولا ديةً، وهو منافٍ لما يمكن القطع به من الأدلة كتاباً وسنّةً وإجماعا‌ً.

قال الصادق عليه السلام) في خبر أبي بصير: ((... إنّ عندنا الجامعة، قلت: وما الجامعة؟ قال: الجامعة صحيفة فيها كلّ حلال وكلّ حرام وكل ما يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش، وضرب بيده إليَّ فقال: تأذن يا أبا محمد! فقلت: جعلت فداك، إنّما أنا لك فاصنع ما شئت، فغمزني بيده وقال: حتى أرش هذا([5])...))([6]).

والنص لم يدل على أكثر من ثبوت الأرش

أقول: النص لم يدل على اكثر من ان في كل شيء الأرش، ولكن الكلام في أرش ما لم تحدد ديته عمّن هو المرجع فيه؟ لم يحدد لنا النص ذلك فكون المرجع هو الحكمين أو أهل الخبرة الواحدة هو قول الفقهاء، ولنفرضه إجماعاً، على انه لو فرض ورود النص بان المرجع هو الـحَكَمان أو أهل الخبرة فحيث ان الفرض هو ان ما يحكمان به أمر حدسي فلو كان عليهما الرجوع في حدسهما إلى ظن خاص لوجب الإلفات إليه، وعليه: يكون المرجع حدسهما من أي طريق حصل، ولذا، أي لأنه لا يوجد دليل خاص نجده في الجواهر ممزوجاً بالشرائع يقول: ("و" حينئذ فـ"ـالأشبه" بأصول المذهب "فيه وفي شعر الرأس الأرش إن نبت" وفاقاً للشيخ في النهاية([7]) وبني حمزة([8]) وإدريس([9]) وسعيد([10]) والفاضل([11]) والشهيدين([12]) وغيرهم([13]) في شعر الرأس، بل عليه عامة المتأخرين، وللفاضل ومن تأخر عنه في شعر اللحية؛ لأنّه الأصل في كل ما لا مقدّر له. نعم، عن النهاية والوسيلة: أنّه على ما يراه الإمام.

وفي محكيّ السرائر: "يقوّم لو كان عبداً كم كانت قيمته قبل أن يذهب‌ شعره، وكم تكون قيمته بعد ذهاب شعره، ويؤخذ من ذلك بحساب دية الحرّ")([14]).

فهو (أشبه بأصول المذهب) لا أن به نصاً خاصاً فتدبر.

حجية الظن المطلق في ترجيح أحد المتعارضين

ومن الثمرات: حجية الظن المطلق في الترجيح بين المتعارضين، وهي مسألة وثمرة أصولية بل هي من أهم البحوث في علم الأصول التي يترتب عليها تنقيح حال الكثير من الروايات والكثير جداً من المسائل المتفرعة عنها، ويكفي ان نقول هنا ان الشيخ رغم ذهابه إلى عدم حجية الظن المطلق كمرجع ولا كمرجّح وإلى انه كما ان حجيته مردوع عنها بالآيات والروايات كذلك مرجحيته، إلا انه (قدس سره) مع ذلك أقرّ بان مشهور الأصوليين ذهبوا إلى الترجيح بالظن المطلق.

كلام الشيخ (قدس سره)

قال: (أمّا الكلام في الأول فملخصه:

أنّه لا ريب في أنّ مقتضى الأصل عدم الترجيح كما أنّ الأصل عدم الحجية، لأن العمل بالخبر الموافق لذلك الظن إن كان على وجه التديّن والالتزام بتعيّن العمل به من جانب الشارع وأنّ الحكم الشرعي الواقعي هو مضمونه - لا مضمون الآخر - من غير دليل قطعي يدلّ على ذلك، فهو تشريعٌ محرّمٌ بالأدلّة الأربعة. والعمل به لا على هذا الوجه محرّمٌ إذا استلزم مخالفة القاعدة أو الأصل الذي يرجع إليه على تقدير فَقْدِ هذا الظن.

فالوجه المقتضي لتحريم العمل بالظن مستقلاً - من التشريع أو مخالفة الأصول القطعية الموجودة في المسألة - جارٍ بعينه في الترجيح بالظن، والآيات والأخبار الناهية عن القول بغير علم كلّها متساوية النسبة إلى الحجية وإلى المرجّحية، وقد عرفت في الترجيح بالقياس أنّ المرجِّح يُحدث حكماً شرعياً لم يكن مع عدمه، وهو وجوب العمل بموافقة عيناً مع كون الحكم لا معه هو التخيير أو الرجوع إلى الأصل الموافق للآخر)([15]).

لكنه مع ذلك صرح بعد هذا فوراً بـ(هذا، ولكن الذي يظهر من كلمات معظم الأصوليين هو الترجيح بمطلق الظن)([16]).

بيان مخالفة الظن المطلق للقاعدة أو الأصل

ولكلامه تتمة ولنا تعليقات وإيضاحات ستأتي، ونقتصر الآن على إيضاح واحد وهو ان قوله: (والعمل به لا على هذا الوجه محرّمٌ إذا استلزم مخالفة القاعدة أو الأصل الذي يرجع إليه على تقدير فقد هذا الظن) وجهه: ان دليل ((وَلَا يَنْقُضُ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ وَلَكِنْ يَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَرَ))([17]) مثلاً يدل على حرمة الإقدام على فعلِ حرامٍ أو تركِ واجبٍ لمجرد الظن بارتفاع حرمته أو الظن بعدم وجوبه في لاحق الأيام، لضررٍ يحتمل مانعيته عن وجوبه مثلاً أو لاحتمال زوال شرط أو حتى لاحتمال نسخه.. ألا ترى انه لو وجب عليه قضاء صلوات فائتة، فظن، ظناً مطلقاً، بقضائها فلم يقضها كان مخالفاً لـ((وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فَلْيَقْضِهَا كَمَا فَاتَتْهُ))([18]) أو مخالفاً لـ((وَلَا يَنْقُضُ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ))؟ وكذا لو ظن ان زوجته ناشزة فانه لو لم ينفق عليها كان مخالفاً لدليل وجوب الإنفاق عليها أو لدليل الاستصحاب؟ وللبحث تتمة وصلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

قال أمير المؤمنين عليه السلام): ((مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ‏‏)) (نهج البلاغة: الحكمة 147).


------------
([1]) سورة المائدة: الآية 95.

([2]) أي الشمس.

([3]) ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء (عليه السلام) ـ قم، ج3 ص528.

([4]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج44 ص292.

([5]) الكافي ج ١ ص ٢٣٩ والحديث طويل اختصره المؤلف.

([6]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج44 ص292-293.

([7]) النهاية: الديات / في الأعضاء ج3 ص428-429.

([8]) الوسيلة: أحكام القتل / الشجاج والجراح ص444.

([9]) السرائر: الديات / في الأعضاء ج3 ص377.

([10]) الجامع للشرائع: الديات / في الأعضاء ص590.

([11]) قواعد الأحكام: الديات / في الأطراف (الشعر) ج3 ص670، تحرير الأحكام: الديات / ما دون النفس ج5 ص580.

([12]) الشهيد الأول في اللمعة: الديات / الفصل الثاني ص302، والشهيد الثاني في الروضة: الديات / الفصل الثاني ج10 ص199، والمسالك: الديات / في الأعضاء (الشعر) ج15 ص399.

([13]) كالمقداد في التنقيح: الديات / في الأعضاء ج4 ص493، والأردبيلي في مجمع البرهان: الديات / دية الأطراف ج14 ص358.

([14]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج44 ص297-298.

([15]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ج1 ص604-605.

([16]) المصدر: ص605.

([17]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص8.

([18]) المصدر: ج3 ص164.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3985
  • تاريخ إضافة الموضوع : الأربعاء 3 جمادى الأولى 1443هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15