بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(320)
تتمات: لا ضرر حكم اجتماعي - فردي
سبق ان السيد الروحاني ذهب إلى الخروج التخصصي للأحكام الاجتماعية عن لا ضرر وقال: (الثالث: ان الحكم المبين بحديث لا ضرر، من الأحكام الاجتماعية الإسلامية، وتلك الأحكام إنما تكون بلحاظ نوع المسلمين وعامتهم، لا بلحاظ الأفراد)([1]).
أقول: الجواب بنفسه وإن كان صحيحاً إلا ان حصر لا ضرر ونظائره بكونه من الأحكام التي تكون بلحاظ نوع المسلمين وعامتهم لا بلحاظ الأفراد، غير تام؛ فان لا ضرر أعم إذ يشمل كلا النوعين، توضيحه: ان بعض الأحكام فردية فقط وبعضها اجتماعية فقط وبعضها فردية – اجتماعية أي تشمل أنواعاً من الأحكام تتعلق بالأفراد وأنواعاً أخرى تتعلق بالنوع والمجتمع، فَمِن الأول: الصوم والصلاة، ومن الثاني: القصاص والجهاد، ومن الثالث لا ضرر ولا حرج فانهما يشملان الأحكام الفردية كالوضوء والصوم إذ يرتفع وجوبها إذا صارا ضررين وينتقل إلى التيمم والقضاء، كما يشملان الأحكام الاجتماعية (أي ما وضعت لصالح المجتمع وإن كانت بضرر الفرد) كالضمان والقصاص والدية وغيرها.
هل لا ضرر لا يشمل الضمانات أصلاً أو ينصرف للمعتدى عليه؟
كما سبق (ولا شك انه عندما يدور الأمر بينهما، إذ لا يمكن شمول لا ضرر لهما للزوم التناقض، فان العرف يرى انصراف لا ضرر إلى لا ضرر المعتدى عليه)([2]).
ولكن السيد الخوئي ذهب إلى ان لا ضرر لا يشمل أصلاً الضمانات وشبهها إذ قال: (أما باب الضمانات فليس مشمولاً لحديث لا ضرر من أول الأمر؛ لكونه وارداً في مقام الامتنان، والحكم بعدم الضمان موجب للضرر على المالك، والحكم بالضمان موجب للضرر على المتلف، فكلاهما منافيان للامتنان خارجان عن مدلول الحديث بلا حاجة إلى التخصيص، والحكم بالضمان مستند إلى عموم أدلة الضمان من قاعدة الإتلاف أو اليد أو غيرهما مما هو مذكور في محله)([3]).
أقول: المحتملات في شمول لا ضرر للضمان وعدمه ثلاثة: عدم الشمول أصلاً، وهذا مختاره قدس سره، والشمول لهما مع التخيير بينهما([4])، والشمول([5]) للراجح منهما أي لما هو أكثر امتناناً وهذا هو المختار، والسبب في ذلك ان الباب باب التزاحم إذ الملاك هو الامتنان برفع الضرر الوارد على كلا الطرفين: المتلِف والمتلَف عليه، ولا شك في ان الامتنان على المتلف عليه أولى من الامتنان على المتلِف أما في العمد فبديهي إذ لا يفكر أحد بان الامتنان يقتضي رفع الضمان عن المجرم المعتدي عن عمد فان فيه تشجيعاً عليه وهدماً لحرمة أموال المسلمين، وهو خلاف بداهة ان أحكامه تعالى معللة بالأغراض وتبعية الأحكام لمصالح ومفاسد في المتعلقات، وأما في السهو فان المتلَف عليه أولى بان يراعى جانبه ويمتن عليه، لأنه الذي خسر ولأن كسر زجاج داره كان بفعل الغير فينبغي الامتنان عليه بتضمين الكاسر للخسارة، أما الكاسر فانه وإن كان امتناناً عليه عدم تضمينه ولكن أين الامتنان عليه بعدم تضمينه وهو الذي كسر زجاج الغير ولم يتضرر بوجه، من الامتنان على المتلَف عليه وهو الذي تضرر بفعل الغير؟ والحاصل ان لا ضرر بلحاظ كونه امتناناً ينصرف إلى مَن الامتنان عليه أقوى وأولى عرفاً.
والأمر كذلك في باب التعارض، وقد ذهب السيد الخوئي فيه أيضاً إلى ان أدلة الحجية لا تشمل المتعارضين، بل تتساقط، وقد ناقشنا هذا المبنى مفصلاً في آخر كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) وقلنا ان بناء العقلاء فيما إذا كان أحدهما أرجح على تعينه أو ترجيحه ومع التساوي فالتخيير، وأما أدلة التقليد، فاما الآيات والروايات فان المتفاهم العرفي منها الشمول والتخيير بين رأيي الطبيبين أو المجتهدين لو تساويا، لا التساقط لأن التعارض نشأ من حدهما([6]) لا من أصل حجيتهما كما يستفيدون ترجيح رأي الأعلم، تعييناً أو ترجيحاً، وأما بناء العقلاء فهو على ترجيح رأي الأرجح (كالأعلم) وليس التساقط أبداً بل انه على التخيير حتى لدى التساوي كما فصّلناه وناقشنا الردود المتعددة عليه في كتاب (تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول).
الوالد: الخروج تخصصاً لغلبة منافع تلك الأحكام فليست ضرراً
التصوير الرابع: للخروج التخصصي ما أضافه السيد الوالد، مما نعبّر عنه بعبارة أخرى، بان كثيراً من الموارد الخارجة من لا ضرر خارجة تخصصاً لكونها مندرجة في باب التزاحم واشتمالها على منافع وكونها بعد الكسر والانكسار أرجح من الإضرار، فيكون الحكم نفعياً لا ضررياً.
وذلك جارٍ في الأحكام الفردية، وهو ما أضافه قدس سره، كما هو جارٍ في الأحكام الاجتماعية وهو الذي سبق نقله عن عدد من الأعلام، ومثاله: نجاسة ملاقي النجاسة كالمرق مثلاً، فانه لو لوحظت خسارة هذا المال، كان ضرراً لكن الشرع إنما حرم شربه وأكله (مما يسقطه عن المالية أو يخفضها كثيراً) لإضراره بصحة الإنسان مما كشف عن بعضها الطب الحديث، وحيث ان الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات كان لا بد من كون ضرر الملاقي على صحة الإنسان وعلى روحه أكثر من ضرر خسارته المالية، لذا حرّمه الشارع، فالحكم بنجاسته ليس ضررياً بل هو نفعي، وكذلك الحكم بنجاسة وحرمة الميتة غير نجسة العين، كالشاة والدجاجة، فانه لإضراره فتحريمه نفع للإنسان، من العالم المحيط بالجهات، وليس ضرراً.
قال السيد الوالد (أقول: لكن الظاهر: ان هذا الإشكال غير وارد، فإن مثل الخمس والزكاة والحج والضمانات لا يسمى ضرراً عرفاً، لأن الأمور الموضوعة لمصلحة الفرد أو لمصلحة الاجتماع من مقوّمات الحياة لا من الاضرار، فالخمس والزكاة ـ مثلاً ـ للتكافل الاجتماعي، والحج لمنافع لهم كما في الآية المباركة من الاجتماع والتعارف، وتحريك الأسواق، وانعاش الاقتصاد، وغير ذلك، والضمانات لجبر الخسائر، وهكذا.
ومن المعلوم: انّ مثل هذا لا يسمى ضرراً، وإلّا لصح ان يقال للمشتري الذي يعطي المال في قبال البضاعة أو ما يحتاج إليه: انه متضرر، ومن أجل ذلك لا يسمى صرف المال في المسكن والمأكل والمشرب والمنكح والمركب ونحوها ضرراً.
وعليه: فاعتبار مثل هذه الأمور ضرراً وتخصيصاً في دليل لا ضرر، محل منع قطعي)([7]).
وللحج منافع بنص الآية الكريمة (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) ولا شك انها ترجح على مشقته أو مضرته التي هي بالقدر اللازم لماهيته، ومن المنافع إضافة إلى ما ذكره قدس سره: تجلية الروح وتطهير الأنفس، ومن المنافع الصحة حيث ان جهاز المناعة لدى الإنسان يقوى بتعريضه للصدمات وتقلبات الأجواء والحرمان من الاستقرار والراحة لفترة معتنى بها، وهي نفس فلسفة اللقاحات، حيث ان تعريض البدن لجرعة ضعيفة من الجراثيم كتعريضه لجرعة من المصاعب والأضرار، يريّض الجهاز المناعي على المقاومة ويزيد من كفاءته وقدرته على مقاومة الجراثيم الأقوى أو الصدمات الأخطر. كما ان الزكاة كذلك، فان نفعها للشخص نفسه أكثر من ضررها عليه، قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)([8])
العم: التخصص لأنها ليست ضرراً عرفاً
التصوير الخامس: ان يقال ان أغلب الموارد ليست بضرر عرفاً، بمعنى ان نلجأ إلى العرف الذي نجده يقرر ان أمثال الزكاة والضمانات والديات ليست ضرراً، ولذلك أكثر من بيان ومنها ما ذكره السيد العم دام ظله قال: (ثانيها: بما أن الضرر عنوان عرفي، فالعرف بملاحظة المصالح العامة لا يرون كثيراً من الأمثلة المذكورة ضررية: كالخمس، والزكاة والضمانات، والحدود، والديات ونحوها، لالتزام العقلاء نظائرها في حكوماتهم، ولو قيل لأحدهم: انه ضرر عليك فلماذا تخضع له؟ يراه كلاماً غير عقلائي – وإن كان بالنظرة الخاصة ضررياً –)([9]).
وتتمميه بان يقال بان الموارد التي توهم كونها تخصيصاً للاضرر، هي في الواقع ليست ضرراً عرفاً كما انها ليست ضرراً دقة وعقلاً، ويظهر ذلك بلحاظ ما ذكرناه قبل قليل وانه من باب التزاحم.. وهنا تعليق ومناقشة ستأتي غداً بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((التَّفَكُّرُ حَيَاةُ قَلْبِ الْبَصِيرِ كَمَا يَمْشِي الْمَاشِي فِي الظُّلُمَاتِ بِالنُّورِ بِحُسْنِ التَّخَلُّصِ وَقِلَّةِ التَّرَبُّصِ)) (الكافي: ج1 ص28).
-------------------------------------------------
([1]) السيد محمد صادق الروحاني، زبدة الأصول، الناشر: أنوار الهدى ـ قم، ج5 ص 237-238.
([2]) الدرس السابق 16 ذو القعدة يوم الأحد ص2.
([3]) السيد محمد الواعظ الحسيني، تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول، مكتبة الداوري ـ قم، ج2 ص538-539.
([4]) تخيير الحاكم كي لا يحدث نزاع، أو حسمه بالقرعة أو غير ذلك.
([5]) أي الانصراف.
([6]) حجيته بشرط لا عن حجية الآخر.
([7]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الوصائل الى الرسائل، مؤسسة عاشوراء ـ قم، ج11 ص10-11.
([8]) سورة التوبة: الآية 103.
([9]) السيد صادق الحسيني الشيرازي، بيان الأصول، دار الأنصار ـ قم، ج5 ص82.
|