بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(319)
الخروج التخصصي
الجواب الثالث: خروج أغلب الموارد التي تُوُهِّم كونها استثناءً وتخصيصاً للاضرر، تخصّصاً، بمعنى عدم دخولها فيه موضوعاً من البداية، وأما الباقي فهي موارد قليلة خرجت تخصيصاً.
وللخروج التخصصي تصويرات:
التصوير الأول: ما أشار إليه المحقق الشيخ التبريزي قدس حيث أوضح ان الخروج تخصصي في طوائف ثلاث:
التبريزي: الخروج التخصصي في ثلاث طوائف
الأولى: ما ورد مورد الضرر، أي ما كان أصل الحكم ضررياً، قال (قسم منها ما يكون أصل الحكم والتكليف المجعولين في الشريعة ضررياً، كما في تنجس المائعات بملاقاة النجاسة وكذا بعض الجامدات على ما تقدم، وكذا تعلق الزكاة بالمال الذي يعتبر في تعلقها به دوران الحول، وقاعدة نفي الضرر غير ناظرة إلى نفي هذه الأحكام لقيام الدليل على ثبوت الحكم والتكليف مع كونهما في أصلهما ضرريين)([1]).
وتوضيحه: ان الحكم قد يكون أصله ضررياً وذلك كما فيما مثّل له وقد يكون إطلاقه ضررياً دون أصله كالصوم والوضوء فانه ليس أصله ضررياً نعم بعض أفراده قد تكون ضررية كوضوء المريض بمرض يضر به الماء أو فيما لو توقف على شرائه غالياً، وما كان أصله ضررياً فان لا ضرر منصرف عنه قطعاً وإلا للزم التناقض في حكم المولى إذ يحكم مثلاً في نصٍ بتنجس المائع بالملاقات (وهو ضرريٌّ أصلهُ أي بكافة أفراده) ويحكم أيضاً بلا ضرر فانه إذا شمل هذا المورد يلزم الحكم بعدم تنجسه، وهو بديهي البطلان.
الثانية: ما كان الحكم الشرعي موجباً لتدارك الضرر، فان لا ضرر منصرف أيضاً عنه لأنه جُعِل لتدارك الضرر وإيصال النفع للمكلف فكيف يرفعه لا ضرر المنتج لإيصال الضرر إليه، فانه مقطوع العدم إضافة إلى انه خلاف الامتنان قال: (وقسم منها لا يرتبط أصلا بمدلول قاعدة نفي الضرر كالموارد التي قام الدليل فيها على تدارك الضرر والجناية، نظير ضمان المال المتلف في يده بإفراط أو تفريط، أو ضمان المال الذي أتلفه ودية الجناية التي ارتكبها، فإنّ هذه الموارد غير داخلة في عموم نفي الضرر فإن مفادها نفي الحكم والتكليف الموجب للضرر، لا نفي الحكم الموجب لتدارك الضرر، فإن شئت قلت نفي الضرر كنفي ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه للامتنان، ولا امتنان لنفي الضرر في موارد تدارك الضرر، فإن الحكم بعدم التدارك يفتح بابا لانتشار الضرر)([2]).
لا يقال: ان الحكم بالضمان أو الدية وإن كان يتدارك الضرر على المعتدى عليه أو المتلَف عليه لكنه ضرري بالنسبة للمعتدي، فليس متمحضاً في الأول، ولكن الأمر يدور بينهما (بان يحكم بالضمان وهو بضرر الضامن لكنه لصالح المضمون له، أو يحكم بعدمه وهو بالعكس) ولا شك انه عندما يدور الأمر بينهما، إذ لا يمكن شمول لا ضرر لهما للزوم التناقض، فان العرف يرى انصراف لا ضرر إلى لا ضرر المعتدى عليه.
الثالثة: ما كان الحكم الشرعي حكماً بعدم النفع، وإن لم يكن ضررياً، فانه خارج عن لا ضرر موضوعاً إذ هذا من مصاديق (لا نفع) لا (لا ضرر)، قال: (قاعدة نفي الضرر لا تشمل الموارد التي يكون الحكم والتكليف فيها موجبا لعدم نفع المكلف، كموارد تعلق الخمس بالمال حيث إن المكلف لا يملك من الربح مقدار الخمس)([3]) (نعم ثبوتهما في مورد كونهما ضررين كشراء ماء الوضوء ولو بثمن غال تخصيص، وهذه الموارد ليست بحيث يوجب خروجها عن قاعدة نفي الضرر الاستهجان في خطاب نفيه)([4]).
لا يقال: الخمس ضرر عرفاً؟
إذ يقال ذلك لأن العرف يتوهم انه مملوك للمالك ثم يخرجه الشارع من ملكه، ولو علموا ان الشارع لم يملّك الخمس أصلاً، للغانم، لعلموا انه عدم نفع لا ضرر.
الروحاني: الخروج التخصصي للأحكام الاجتماعية
التصوير الثاني: ما أشار إليه السيد الروحاني دام ظله إذ ذهب للخروج التخصصي بوجه كون هذه الأحكام (القصاص، الدية، الضمان، الزكاة.. الخ) من الأحكام الاجتماعية أو النوعية لا الأحكام الفردية أو الشخصية، وهي ضرر إن كان الملاحَظ حال الشخص لكنها نفع إن كان الملاحظ حال النوع ولذا قال تعالى ((وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ))([5]) فلاحظ قوله تعالى ((لَكُمْ)) لا للقاتل نفسه لأن في القصاص موتُه وإهلاكُه، عكس الصوم والصلاة فانها أحكام فردية وشخصية، قال: (الثالث: ان الحكم المبين بحديث لا ضرر، من الأحكام الاجتماعية الإسلامية، وتلك الأحكام إنما تكون بلحاظ نوع المسلمين وعامتهم، لا بلحاظ الأفراد، وعليه فأكثر الأحكام التي توهم كونها ضررية وخارجة عن تحت عموم الحديث لا تكون ضررية بحسب النوع، الذي هو الميزان في المقام، فلا إشكال في التمسك بعموم الحديث)([6]).
وسيأتي تعليق عليه فأنتظر.
الصدر: الخروج التخصصي بلحاظ شريعيّة الشريعة
التصوير الثالث: ما ذهب إليه الشهيد الصدر الأول بقوله: (الأمر الثاني: أنّ تخيّل ابتلاء حديث (لا ضرر) بكثرة التخصيصات نشأ من الجمود على الظهور الأوّلي للكلام بغض النظر عن مناسبات الحكم والموضوع، والارتكازات الاجتماعيّة. توضيح ذلك: أنّ من مقوّمات الشريعة بحسب المرتكز العقلائي اشتمالها على قواعد ونظم تحقيق العدالة الاجتماعيّة من قصاص، وضمان، وضرائب ماليّة ونحو ذلك، فحينما ينفى الضرر بالنسبة الى شريعة يجب أن تحفظ شريعيّة الشريعة، ثم يقال: إنّها ليست ضرريّة، فنفي تحقّق الإضرار من قبل الشريعة لا يشمل أمثال هذه الاُمور، وليس من قبيل نفي تحقّق الأضرار من قبل زيد مثلاً، فإنّ ضرريّة كلّ شيء بحسبه)([7]).
وقد يقال: ان هذا الوجه وسابقه وجه واحد لأن هذا يعود إليه، والعبارات شتى؟.
ولكن يمكن التفريق بينهما بان الوجه السابق إنما يلاحظ المكلَّفين ومتعلق الحكم (وانه المجتمع مثلاً وليست الزكاة ضررية بلحاظ المجتمع بل هي نفع لهم وإن كانت فرضاً ضرراً للشخص.. وهكذا) وأما هذا الوجه الأخير فانه لاحظ حال الشريعة أي الجاعل (وذلك لاحظ حال متعلق الجعل أي المكلف) وان الجاعل عدّ العدالة الاجتماعية من صميم شريعته فبلحاظ انه هكذا فان الزكاة والجهاد حيث انها تحقق العدالة الاجتماعية، فهي نفع لا ضرر. فتأمل وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((إِنَّ النَّاسَ آلُوا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إِلَى ثَلَاثَةٍ: آلُوا إِلَى عَالِمٍ عَلَى هُدًى مِنَ اللَّهِ قَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ بِمَا عَلِمَ عَنْ عِلْمِ غَيْرِهِ، وَجَاهِلٍ مُدَّعٍ لِلْعِلْمِ لَا عِلْمَ لَهُ مُعْجَبٍ بِمَا عِنْدَهُ قَدْ فَتَنَتْهُ الدُّنْيَا وَفَتَنَ غَيْرَهُ، وَمُتَعَلِّمٍ مِنْ عَالِمٍ عَلَى سَبِيلِ هُدًى مِنَ اللَّهِ وَنَجَاةٍ ثُمَّ هَلَكَ مَنِ ادَّعَى وَخَابَ مَنِ افْتَرَى))
(الكافي: ج1 ص33).
--------------------------------------------------
([1]) الشيخ ميرزا جواد التبريزي، دروس في مسائل علم الأصول، دار الصديقة الشهيدة سلام الله عليها ـ قم، ج5 ص104.
([2]) الشيخ ميرزا جواد التبريزي، دروس في مسائل علم الأصول، دار الصديقة الشهيدة سلام الله عليها ـ قم، ج5 ص104.
([3]) الشيخ ميرزا جواد التبريزي، دروس في مسائل علم الأصول، دار الصديقة الشهيدة سلام الله عليها ـ قم، ج5 ص105.
([4]) الشيخ ميرزا جواد التبريزي، دروس في مسائل علم الأصول، دار الصديقة الشهيدة سلام الله عليها ـ قم، ج5 ص105.
([5]) سورة البقرة: الآية 179.
([6]) السيد محمد صادق الروحاني، زبدة الأصول، الناشر: أنوار الهدى ـ قم، ج5 ص 237-238.
([7]) السيد كاظم الحسيني الحائري، مباحث الاُصول، القسم الثاني، الناشر: دار البشير ـ قم، ج4 ص558.
|