بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(318)
اليزدي: ظهور اللفظ معيّن للعموم
كما أشكل المحقق اليزدي (قدس) على الشيخ (قدس) في قوله (غاية الأمر تردد الأمر بين العموم وإرادة ذلك المعنى) بقوله: (سلّمنا، تردد الأمر بين الأمرين إلّا أنّ استدلال العلماء يصلح أن يكون معيّناً للعموم مع كونه ظاهراً في نفسه بحسب مدلول اللفظ)[1].
وبعبارة أخرى: لإِرادة العموم مرجِّحٌ ينفرد به فان استدلال العلماء به، وإن كان بمجرده أعم من فهمهم العموم من لا ضرر ومن فهمهم معنى أخص، إلا ان مرجح العموم وانه المراد، هو وضع اللفظ فان النكرة في سياق النفي (لا ضرر) ظاهرة في العموم فهذا مرجح لكون عمل الفريقين إنما هو للعموم؛ لأنه موضوع له، لا لأنهم فهموا إرادة الأخص وقد وجدوا انطباقه على موارد لا ضرر الباقية وخروج الخارجة منه بالتخصص.
تحقيق وتنقيح
أقول تحقيق كلامه وبرهنته ببيان آخر في ضمن بيان أمرين:
الأول: ان العام أ- قد يستعمل في الخاص مجازاً وذلك إذا أريد به بعض مدلوله بنحو بشرط لا، لأنه موضوع له بشرط شيء[2] وهنا نجد ان الإرادة الاستعمالية قد انفكت عن الوضع، ب- وقد يستعمل في العموم نفسه ثمّ يستثنى منه بدالٍّ آخر بعض أفراده، من باب تعدد الدال والمدلول (عكس الأول حيث الدال واحد واللفظ دالّ على العموم، والثاني (المنفصل) كاشف عن مراده حينذاك وليس دالاً على معيّن مستقل) وهنا نجد ان الإرادة الجدية قد انفكت عن الوضع وعن الإرادة الاستعمالية اما الاستعمالية فانها في الموضوع له.
وثمرة التفكيك انه على الأول فانه لا يتمسك بالعام في مواطن الشك، لأنه استعمل في الأخص، وعلى الثاني فيتمسك لأنه استعمل في العموم والخارج إنما هو ما دل عليه دال منفصل وليس في موارد الشك موجوداً.
الثاني: انه توجد في كل كلمة وجملة، ثلاثة أمور: الوضع والإرادة الاستعمالية، والإرادة الجدية.
وتعلق الإرادة الجدية بالموارد الباقية تحت العام، كما هو مقتضى عمل الفريقين، أعم من استعماله في العموم إذ لعلّه استعمله في الخصوص وأراد إخراج الموارد المشكوكة، وكذلك الوضع للأعم فانه أعم من كل من استعماله في الأعم ومن إرادة الأعم[3] منه، وإنما نصير إليهما ببركة أصلين: أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الوضع، ثم أصالة تطابق الإرادة الجدية مع الاستعمالية، ببركة الوضع وضميمة هذين الأصلين، وإسناد عمل الفقهاء، نكشف ان اللفظ الموضوع للعموم قد استعمل فيه وقد أريد منه جدّا، ولم يستعمل في الخصوص، ولا انه استعمل في العموم ثم أريد به جدّا غيره فتدبر جيداً.
الجواب الثاني: الخارج أقل (أفراد عنوان واحد فقط)
الجواب الثاني: ما أجاب به السيد الوالد صغرى من ان الخارج من لا ضرر ليس بأكثر بل هو أقل بكثير واستدل بـ: (ويرد على الصغرى ما تقدم: من انه يشمل ثلاثة والخارج[4] من الأول فقط)[5] وأوضحه في الحاشية بـ: إضرار الله بالناس، وإضرار بعضهم لبعض، والضرر المستمر غير المتدارك) أقول: المقصود من إضرار الله بالناس، إضرار أحكامه بالناس أي تشريعاً، فان إضراره تعالى تكويناً بالناس، في مثل الزلزلةٍ والسيل وغيرهما، مسلّم (لكنه لحِكمةٍ كما قرر في محله)، إنما الكلام في جعل الأحكام الضررية، وقد جعل جل اسمه كثيراً منها، كالجهاد والخمس وغير ذلك مما سبق، والاستثناء إنما هو من هذه الدائرة حيث لا يكون لا ضرر حاكماً عليها، وإن حكم على بعض آخر كالصوم، وأما الدائرة الثانية وهي إضرار بعضهم ببعض أي عمداً فهو محرم مطلقاً ولا يوجد فيه استثناء أي لا ترفع لا ضرر أيّ ضرر من أفراد ضمان المتلِف عمداً ولا غيره[6]، وأما الدائرة الثالثة فالمقصود بها إضرار بعضهم ببعض سهواً وغفلة فان الضمان لازم ولا ترفعه لا ضرر وإن كان الضمان مضراً به.
ولكن، وكما يلاحظ، فانه (قدس) نقل الكلام للعناوين لا الأفراد، حيث عدها ثلاثة والخارج من لا ضرر إنما خرج من الدائرة الأولى (فيكون فيها جعل الحكم الضرري) عكس الدائرتين الأخيرتين.
اليزدي: مجرد عدم إحراز خروج الأكثر
لكنه (قدس) أضاف: ان الأفراد الخارجة من لا ضرر أقل كثيراً من الداخلة، لكن المحقق اليزدي تردد وذهب إلى عدم العلم إذ قال: (وجه المنع أنّ العلم بالتخصيص الأكثر فيما نحن فيه موقوف على تتبّع زائد على المتعارف و تعداد موارد الخارج و الداخل في جميع أبواب الفقه و معرفة النسبة بينهما، و ذلك أمر صعب جدا كما لا يخفى على الخبير البصير)[7] فان ظاهر الشيخ وصريح الوالد منع خروج الأكثر، لكن اليزدي يقول: لا نعلم ذلك ولا نحرزه إلا بعد تتبع عشرات الألوف من المسائل وذلك غير متيسر عادة.
المناقشة
أقول: ونضيف: انه إذا صرفنا النظر إلى عناوين أبواب الفقه، غير العناوين الجامعة الثلاثة التي ذكرها نجد ان أكثرها باق تحت لا ضرر وان الخارج في باب العبادات أربع أبواب فقط (الجهاد والخمس الزكاة والحج) والباقي تحت لا ضرر الستة الباقية ولذا إذا صار الصوم أو النهي عن المنكر ضررياً سقط عن الوجوب لشموله لا ضرر له، وأما باب المعاملات فان عامتها مشمول للاضرر؛ ألا ترى ان البيع الضرري ليس بمحرم ولا بباطل، كما لو باع بخسارة كبيرة حتى لو كانت المعاملة سفهائية فان معاملة السفيه باطلة لا المعاملة السفهائية، نعم خرجت بعض الأبواب كخيار الفسخ عند ظهور العَفَل أو القَرَن أو الجنون والجذام وهكذا ولا يرفعه لا ضرر المرأة (لهو من التزاحم مع ضرر الزوج)، ولكن الذي يؤيد كلام اليزدي من الاحتياج إلى تتبع زائد ان الصور متشابكة ومختلفة وتحتاج بالفعل إلى فحص أكثر، ولعل مثل الشيخ والوالد فحصوا لكنه ليس حجة على الفقيه الآخر، ويكفي التمثيل له بان للشفعة شروطاً ككونهما شريكين لا أكثر وكون الأرض (أو الأعم منها) مشاعاً، والقدرة على دفع المال والعلم بالثمن حين العزم على الأخذ بالشفعة وهكذا.. وأنت تجد ان الشفعة ثابتة للشريكين (مع اجتماع سائر الشروط) سواء أكانت ضررية أم لا، كما انها غير ثابتة مع فقد الشروط سواء أكانت ضررية أم لا.. وكذا خيار المجلس والحيوان والشرط و... فانها ثابتة مع شروطها ضررية كانت أم لا (فلا ضرر لا يرفعها) وغير ثابتة مع فقد الشروط (فلا ضرر يحكم عليها) فتدبر وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الباقر (عليه السلام): ))مَنْ عَلَّمَ بَابَ هُدًى فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهِ وَلَا يُنْقَصُ أُولَئِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ عَلَّمَ بَابَ ضَلَالٍ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهِ وَلَا يُنْقَصُ أُولَئِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئاً)) (الكافي: ج1 ص35).
--------------------------------------------------
[1] السيد محمد إبراهيم اليزدي النجفي، حاشية فرائد الأصول – تقريرات، الناشر: دار الهدى ـ قم، ج2 ص579.
[2] وقيل بنحو لا بشرط. وتحقيقه في محله.
[3] أو الأخص.
[4] أي والخارج يخرج من الأول فقط.
[5] السيد محمد الحسيني الشيرازي، الأصول ـ مباحث الحجج والأصول العملية، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت، ص246.
[6] إلا النادر كصورة تترّس الكفار بالمسلمين، على رأي، إذ صار السيد الوالد صناعياً إلى ان المسلم القاتل للـمُتترَّسِ به ليس ضامناً، بل الضمان على بيت المال.
[7] السيد محمد إبراهيم اليزدي النجفي، حاشية فرائد الأصول – تقريرات، الناشر: دار الهدى ـ قم، ج2 ص579.
|