بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(317)
مناقشة مع الشيخ في مرجوحية إرادة العموم
سبق قول الشيخ (واستدلال العلماء لا يصلح معِّينا، خصوصا لهذا المعنى المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة)([1]) وقد سبقت مناقشة استدلاله بمنافاة إرادة العموم رغم تخصيص الأكثر، لمقام الامتنان وضرب القاعدة وبقيت مناقشة استدلاله بالمرجوحية، بناء على ان عطفهما عليها ليس بيانياً، فنقول:
ليست إرادة العموم مع كثرة تخصيصاته مرجوحة مطلقاً، بل قد تكون راجحة إذا كانت لحكمةٍ ما، ووجوه الحكمة المتصورة متعددة:
فمنها: ان يكون المتكلم أراد بيان كون هذا العنوان (الذي انصب عليه الحكم والمخصَّص أكثرُه) مقتضياً لثبوت الحكم له وانه وجه الحِكمة في إثبات الحكم له، فمثلاً لو قال أكرم العالم، رغم انه سيستثني أكثر أفراده كالفاسقين مع فرض كونهم أكثر، فان وجه قوله (أكرم العالم) وعدم عدوله إلى عنوان آخر أخص لا يندرج الفساق تحته قد يكون ما سيأتي وقد يكون لأنه أراد بيان ان وجه الحكم بلزوم إكرامه هو كونه عالماً فقد أفادنا الحكم والحِكمة في وقت واحد، وقد ورد ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَطْلُبُ فِيهِ عِلْماً سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِهِ))([2]) فلو فرض كون فساقهم أكثر لـَمَا أضر بصحة التعبير بالمطلق ثم تخصيص أكثره وهم الفساق، وكذا لو قال اغنِ العدول واستثنى أكثر الأفراد لكونهم فرضاً ممن يبطرهم الغنى..
ومنها: انه اختار العام، دون عنوان أخص جامع للأفراد الباقية، لأنه لم يجد عنواناً واضحاً غيرَه يجمع الأفراد الباقية وانه لو عدل عنه للزم بيان مراده في جمل عديدة كثيرة يخص كل منها فرداً أو نوعاً من الأنواع الباقية أو لزم العدول إلى عنوان أخص غير متعارف([3]) ففي المثال السابق لو كان الباقي تحت العام هو مهندس وطبيب وفقيه وفلكي وعالم كيمياء وفيزياء و... الخ فانه لو لم يقل أكرم العلماء لوجب ان يطيل بقوله أكرم الطبيب والمهندس... الخ مع ان الأكثر بلاغة من ذلك واختصاراً ان يقول أكرم العلماء ثم يستثني فساقهم مع كونهم أكثر.
مناقشة اليزدي للشيخ (قدهما): لا وجه للترديد
كما سبق قول الشيخ: (غاية الأمر تردد الأمر بين العموم وإرادة ذلك المعنى).
ولكن المحقق اليزدي أشكل عليه بقوله: (لا نفهم وجهاً لهذا التردد، لأنّه لا يخلو إما أنّ التخصيص الأكثر الذي ذكره معلوم له أو مشكوك، وعلى الأول لا وجه للحمل على العموم، وعلى الثاني لا وجه للعدول عن العموم ولم يثبت ما ينافيه)([4]).
مناقشة المناقشة، ووجه الحمل على العموم
أقول: الظاهر عدم تمامية الإشكال على كلاَ الشقين:
أما الشقّ الأول، فان للحمل على العموم وجوهاً:
منها: انه يصح الإشكال([5]) لو كان استثناء الأكثر بلا قرينة، ولا يصح لو كان مع القرينة، وتوضيحه انه قد يقال: ان تخصيص كل مورد مع إقامة القرينة عليه دليل على كون العام هو المعنى الحقيقي وإلا لما احتاج إلى نصب قرينة، فمثلاً: الحاجة إلى ذكر يرمي وأشباهه بعد رأيت أسداً، دليل على ان غير هذا هو الموضوع له وهو الحيوان المفترس.
وفي المقام فان أي عام خُصِّص أكثرُه بقرينةٍ في كافة موارد تخصيصه فان نفس إقامة القرينة في كل مورد مورد دليل على ان المتكلم يرى ان الموضوع له هو العموم ولذا احتاج إلى قرينة التخصيص ولو لم يكن يرى العموم هو الموضوع له، بل معنى أخص، لما احتاج إلى قرينة التخصيص، ولربما يناقش في هذا الوجه بما سيأتي، ولكن الشاهد انه يكفي انتصاراً للشيخ ورداً لإشكال اليزدي عليه ذكر ان له وجهاً كهذا وإن لم يقبله المستشكل. فتأمل.
ومنها: القول، كبرى، بان تخصيص الأكثر غير مستهجن، كما صار إليه الشيخ بالوجه الذي سيأتي ذكره([6])، فانه إذا قلنا تخصيص الأكثر مستهجن فانه مع كونه معلوماً للشيخ فلا وجه حينئذٍ للحمل على العموم، واما مع القول بانه غير مستهجن فان وجه الحمل على العموم هو كونه هو الموضوع له من غير مانع، إلا ان يقال ان مناقشة اليزدي إنما هي مع قطع النظر عن جواب الاستهجان، ومع فرض تسليمه. فتأمل
وأما الشق الثاني (لا وجه للعدول عن العموم ولم يثبت ما ينافيه) فانه يرد عليه: ان وجه العدول هو وَهْن العموم حتى مع احتمال([7]) أكثرية مخصصاته أي انه وإن لم يثبت ما ينافيه لكن احتمال أكثرية التخصيص تضعف مقتضيه، وبعبارة أخرى: انه لا يعلم ان العقلاء يرون مثل هذا العام المحتمل تخصيصُ أكثرُه ظاهراً في العموم أو فقل لا يرون جريان أصالة تطابق الإرادة الجدية مع الاستعمالية. فتأمل([8]) وتدبر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام: ((مِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، إِشْبَاعُ جَوْعَتِهِ أَوْ تَنْفِيسُ كُرْبَتِهِ أَوْ قَضَاءُ دَيْنِهِ)) (الكافي: ج2 ص192).
--------------------------------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الناشر: مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ط1 1419هـ، ج2 ص465.
([2]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص34.
([3]) كـ(لا ضرر غير متدارك) على رأي.
([4]) السيد محمد إبراهيم اليزدي النجفي، حاشية فرائد الأصول – تقريرات، الناشر: دار الهدى ـ قم، ج2 ص579.
([5]) وهو انه لا وجه للحمل على العموم.
([6]) أو بوجوه أخرى، ستأتي.
([7]) لفرض كونه مشكوكاً فيه.
([8]) سيأتي بإذن الله تعالى وجهه.
|