بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(315)
جواب الأوثق عن العلم الإجمالي
وقد أجاب صاحب الأوثق عن إشكال العلم الإجمالي بوجود مخصصات كثيرة والإجمال، مِن ثَمّ، في لا ضرر، والذي طرحه (إمّا من جهة أنّه مع ورود مخصّصات كثيرة على عامّ وعدم معرفة جميعها بأعيانها، يحصل العلم إجمالاً بورود بعض المخصّصات عليه، ومع الشكّ في مورد في بقائه تحت العامّ أو خروجه ببعض المخصّصات الّتي لا نعرفها تفصيلاً، يعود العامّ مجملاً لا يجوز التمسّك به في مورد الشك)([1]) بقوله: (ويدفع الأوّل أنّه إنّما يتمّ في موارد العمل بالعام من دون ضميمة عمل العلماء لا معها، لا بمعنى ارتفاع العلم الإجمالي بعملهم حتّى يمنع، بل بمعنى كشف عملهم عن خروج مورد عملهم من أطراف العلم الإجمالي. وبعبارة أخرى: أن مورد الشكّ([2]) لـمّا كان محتمل الدّخول في أطراف العلم الإجمالي، فعملهم يكشف عن خروجه منها من أوّل الأمر)([3]).
وحاصله: ان العلم الإجمالي بوجود مخصصات، لا يرتفع بعمل العلماء بلا ضرر في مجموعة من الموارد وإن كانت كثيرة؛ لأنه لا يزال وجداناً موجوداً غير منحلٍّ، بل خصوص موارد عملهم يُحرَز كونُها خارجة عن أطراف العلم الإجمالي، ببركة استقرار عملهم كلهم.
أقول: لكن هذا لا ينفع لإثبات حجية لا ضرر في الأفراد المشكوكة إلا بوجهٍ آتٍ، والظاهر ان كلمة (الشك) في قوله (وبعبارة أخرى: أن مورد الشكّ...) خطأ من الناسخ أو غفلة، والصحيح هو (مورد عملهم...) فعملهم ليس مخرجاً بل كاشف عن الخروج من قبل أي ليس انه كان داخلاً فخرج بقاءً بل كان خارجاً حدوثاً.
التحقيق: التفصيل: إما منحلّ أو غير منجز
لكن مقتضى التحقيق هو ان قول: ان سيرة الفريقين على العمل بلا ضرر في الموارد الكثيرة المعلومة لنا، اما انه ينحل بها العمل الإجمالي أو انه لا يكون منجزاً.. توضيحه:
انه قد يقال بانحلال العلم الإجمالي بإحراز موارد عملهم، بمعنى: انه من البداية لا يعلم وجود علم إجمالي كبير جداً بحيث يبقى رغم خروج ما خرج بعملهم، إذ لعله كان كبيراً([4]) مستوعباً لما خرج لا أكثر، فحيث اننا لا نعلم نوعه (العلم الإجمالي) لا نحرز انعقاده كبيراً جداً بحيث يبقى حتى بعد خروج ما خرج.
فمثلاً لو كنا نعلم بان الموارد الخارجة هي سبعين والداخلة، أي في لا ضرر، ثلاثين، والمشكوكة ثلاثين فرضاً، فإن علمنا بان الخارج واقعاً أكثر وانها ثمانون مثلاً، فبعد خروج السبعين يبقى العلم الإجمالي وإن كان أضيق إذ تتردد العشرة بين الثلاثين المشكوكة، لكننا منذ البداية نعلم بمجرد أكثرية التخصيصات ولكن لا نعلم انها ثمانون أو سبعون فإن كانت سبعين فالعلم الإجمالي منحل بعد العثور على تخصيصات الفريقين التي بلغت سبعين([5]) دون ما إذا كانت ثمانين، وعليه: لا يعلم من البداية إلا خروج سبعين إجمالاً، فبعد عملهم بالثلاثين وخروج السبعين بأدلتها، لا يوجد علم إجمالي بخارجٍ بين الثلاثين المشكوكة.
سلّمنا، لكن يقال حينئذٍ بانه غير منجز، وذلك لعدم إحراز ان الباقي بعد الخارج من قبيل شبهة الكثير في الكثير ليكون منجزاً بل لعله من قبيل شبهة القليل في الكثير غير المنجز ففي المثال لو فرضنا الأمر دائراً بين كون الخارج سبعين أو اثنين وسبعين، فعلى الفرض الثاني فان الاثنين بالنسبة للثلاثين المشكوكة من القليل في الكثير غير المنجز، ولا مناقشة في المثال إذ يمكن فرضه اثنين في مأة أو أكثر لكون المشكوكات مأة([6]) أو أكثر.
الأجوبة عن إشكال أكثرية مخصصات لا ضرر
ثم انه بعد الفراغ عن تطويرات الأعلام لإشكال الشيخ، لا بد من التعرض للأجوبة التي طرحها الإعلام أو التي أضفناها، والتي تتجاوز العشرة.
أولاً: الشيخ: عمل الفريقين يجبر وهن لا ضرر
الجواب الأول: ما أجاب به الشيخ قدس سره بقوله: (ومع ذلك، فقد استقرت سيرة الفريقين على الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام، وعدم رفع اليد عنها إلا بمخصص قوي في غاية الاعتبار، بحيث يعلم منهم انحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة. ولعل هذا كاف في جبر الوهن المذكور)([7]).
مؤيد آخر لكلامه قدس سره
أقول: ويؤكد كلامه ان العلماء استندوا إلى لا ضرر لرفع أقوى الأحكام الثابتة بالنص والدلالة القطعيين بل استندوا إليها لرفع بعض فروع الدين في صورة الضرر، فان لا ضرر يرفع وجوب الصوم والحج لمن يتضرر بهما رغم كونهما من أركان الدين، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا صارا ضرريين([8])، كما يرفع الحكم إذا زاد الضرر عن الضرر العرفي المعهود لمثل ذلك الموضوع، وإذا زاد ضرر الجهاد مثلاً عن اضراره الطبيعية اللازمة لطبيعته فان لا ضرر ترفعه وذلك كما لو علم ان زوجته ستختطف ويعتدى عليها لو ذهب للجهاد، وكان كفائياً يوجد من به الكفاية، وكان الاختطاف والاعتداء على غير طبيعة الحروب في تلك المنطقة أو ذلك الزمن، وأما لو كان الجهاد عينياً بعدم وجود من به الكفاية فيدخل الأمر في باب التزاحم بين هتك عرضه وبين الضرر الذي يلحق بالمسلمين من انتصار العدو، إذ لعله يكون قليلاً كما لو كان غرضهم غصب منزل أو ماشية فقط.
وقوله (بحيث يعلم...) لأن بعض موارد رفع لا ضرر للحكم الأولي، قد وردت به آية أو رواية، كرفع وجوب الغسل أو الوضوء بالمرض أو الضرر، فقد يقال ان المستند هو الرواية وليس لا ضرر، إذ يجاب انه ليس كل الموارد كذلك، ثم انه يقطع بان لا ضرر كان مستنداً لهم في بعض الموارد بل وحتى مورد وجود الرواية ولو أحرزوا عدم وجودها. فتأمل
توضيح لكلام الشيخ وتتميم
ولكن يجب ان يسأل عن مراد الشيخ وانه قدس سره هل أراد من تقوية عملهم (أي الفريقين) للاضرر تقويته لها في موارد عملهم (أي التي علمنا عملهم بلا ضرر ونفيهم الحكم الأولي به) أو مراده تقوية عملهم للاضرر حتى في الموارد المشكوكة؟ فإن أراد الأول كان له وجه إذ انهم استندوا في عملهم ونفي الحكم الأولي المسلّم إلى لا ضرر، فدل على قوة ظهور لا ضرر، لكنه إن أراد الثاني فقد يورد انه كيف يتقوّى غير مورد عملهم (الموارد المشكوكة) بموارد عملهم؟ أي ان موارد عملهم وإن جبرت وهن ظهور لا ضرر بالنسبة لها (أي موارد العمل) لكن كيف تقوّي ظهور لا ضرر في الموارد المشكوكة التي لم يعملوا بلا ضرر فيها؟
ويمكن الجواب: بان عملهم في موارد عملهم حيث عُلِم ان مستنده الأساس هو لا ضرر، رغم أكثرية المخصصات، عُلِم منه ان ظهور لا ضرر تام قوي عندهم (وانه لم يخلّ به أكثرية الخارج منه) فإذا كان تاماً قوياً شمل الموارد المشكوكة.
ولكن هذا الجواب وإن حلّ معضلة ظهور لا ضرر (بان جعله قوياً) لكنه لا يحل مشكلة العلم الإجمالي الشامل للموارد المشكوكة إلا على الوجهين السابقين في التحقيق. فتدبر جيداً، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام: ((لَا يَصْلُحُ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ إِلَّا بِثَلَاثٍ: التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالتَّقْدِيرِ فِي الْمَعِيشَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى النَّائِبَةِ))
(من لا يحضره الفقيه: ج3 ص166).
-----------------------------------------------------------
([1]) الميرزا موسى التبريزي، أوثق الوسائل في شرح الرسائل، الناشر: كتبي نجفي ـ قم، ج1 ص419.
([2]) الظاهر انه خطأ كما سيأتي في المتن، والصحيح: مورد عملهم.
([3]) الميرزا موسى التبريزي، أوثق الوسائل في شرح الرسائل، الناشر: كتبي نجفي ـ قم، ج1 ص419.
([4]) لا كبيراً جداً.
([5]) مع استظهار انها هي تلك.
([6]) لا ثلاثين.
([7]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الناشر: مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ط1 1419هـ، ج2 ص465.
([8]) إلا إذا تزاحم مع الأهم كحفظ الدين.
|