بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(2)
سبق ان الشيخ طرح إشكالاً على لا ضرر بان مخصَّصاته أكثر من الباقي تحت العموم فهو موهون، ولكن كلام الشيخ بحاجة إلى تطوير، وقد سبق تطويرنا له بان مخصصات لا ضرر اما هي كثيرة أو هي أكثر.. الخ
وهنالك تطويرات أخرى وإن لم يطرحها أصحابها بعنوان تطوير لكلام الشيخ إلا انهم في تقريرهم للإشكال طرحوه بالصيغة المطورة.
تطوير التبريزي لكلام الشيخ (قدس سرهما)
فمنها: تطوير الميرزا جواد التبريزي للإشكال بقوله: (ولا يمكن تخصيص القاعدة بخروج هذه الموارد بمخصص منفصل، لاستهجان تخصيص العام بحيث لا يبقى تحته إلّا القليل، فيعلم أن نفي الضرر كان مقترناً بقيد غير واصل إلينا فيكون خطاب نفيه مجملاً لا يمكن التمسك به إلّا مع إحراز أن نفي الضرر مع القيد المزبور يعمّ المورد، كما إذا عمل المشهور فيه بالقاعدة، والقيد المنكشف لا يتعين بكونه من قبيل القرينة اللفظية، بل يمكن كونه من قبيل قرينة الحال)(1).
وملخصه ببيان آخر: ان المخصصات التي فرضت أكثر لا يمكن ان تكون منفصلة لاستهجان ذلك عرفاً، فهي متصلة لكنها خفيت علينا فتكون لا ضرر مجملة حيث انعقد ضيقاً ولا نعلم ما هو، ولكن (وهذا توضيح لكلامه) تلك المخصصات(2) ليست مقالية وإلا لما خفيت علينا إذ لو فرضنا المخصِّص متصلاً فان الراوي يجب عليه نقل العام مع مخصِّصه، إذ عدم نقل مخصِّصه مخالف لسيرة العقلاء مخلٌّ بالغرض فانه أمين ينقل الرواية لـيُعمل بها وليحيط المروي إليه بكلام الإمام عليه السلام ويفهم مراده الجدي، ومادام المخصص متصلاً فيستبعد جداً ان لا ينقله لغفلة أو شبهها وإن أمكن، وعلى أي فانه خلاف الأصل، وأما المخصصات المنفصلة فمن الممكن ان لا تصل إلينا إذ كثيراً ما يكون الراوي للمنفصل راوياً آخر، وربما عن معصوم آخر عليه السلام، ولم يسمع منه الراوي كما سمع من الراوي الأول الراوي للعام، وقد لا يكون الراوي الأول قد سمع المنفصل، كما انه قد يكون الراوي للمنفصل هو الراوي للعام ولكن لم يسمع منه الرواة لنقله له في مجلس آخر.
ولذلك كله التجأ الشيخ التبريزي إلى فرض كون المخصصات المتصلة بنحو القرينة الحالية، والقرائن الحالية لا ينقلها الرواة عادة (وذلك كالعرف الجاري في ذلك الزمن والذي قد يسبب الانصراف، وكمختلف الارتكازات العرفية كوجود مَن يُتقى منه في المجلس أو من لا يتحمل مع جهل الراوي بذلك أو عدم علمه بأهمية نقله ولو لتوهمه عدم الحاجة، وكالمكان والزمان الخاصين، وكحالة الإمام ومقامه(3) أو حالة الرواة وغير ذلك) بل جرت سيرة العقلاء على عدم نقلها، إلا القليل ممن التفت إلى احتمال تغيّر الأعراف والارتكازات وخفاء القرينة على الأجيال الآتية.
ثم انه يمكن لنا ان نطرح كلام التبريزي بصيغة أخرى أوضح وهي: ان نجعل شقّي المنفصلة الحقيقية في العرض بدل جعله لهما في الطول، فنقول: إن المخصصات الكثيرة للاضرر والتي خفيت علينا، إما منفصلة وإما متصلة فإن كانت منفصلة ورد إشكال الاستهجان وإن كانت متصلة ورد إشكال الإجمال.
مناقشات مع المحقق التبريزي
يمكن ان نناقش كلامه بأربعة وجوه:
الاستهجان والإجمال يعمّان كلا شقّي المنفصلة
الأول: ان إشكال الاستهجان غير خاصٍ بما لو افترضنا المخصصات منفصلة ولا إشكال الإجمال خاص بما لو كانت متصلة، بل يلزم كِلا الإشكالين على كِلا الفرضين:
فان تخصيص الأكثر بمخصصات متصلة أيضاً(4) مستهجن في الجملة (على فرضه، وسيأتي الكلام عن الاستهجان وعدمه أو التفصيل) كما ان تخصيصه بمنفصلات مستهجن في الجملة كذلك وفي نفس الصور؛ ألا ترى ان قوله أكرم العلماء مع استثنائه تسعة وتسعين منهم وهم مائة مثلاً، قبيح سواء أكان استثناؤه بمنفصل أم بمتصل؟
ومن جهة أخرى فان تخصيص الأكثر بمخصصات منفصلة، موجب للإجمال إضافة إلى كونه مستهجناً، إذ ان ذلك يكشف عن عدم تعلق إرادته الجدية بالعام.
وذلك كله مع فرض عدم انعقاد ظهور للعام في عنوان أضيق أي عنوان جامع للأفراد التي لم تخرج منه، في كلتا الصورتين(5) وإلا لما كان مجملاً فيها كذلك.
الإجمال لا يلزم مقدم الشرطية
ثانياً: ان الملازمة التي ذكرها قدس في قوله (فيعلم أن نفي الضرر كان مقترناً بقيد غير واصل إلينا فيكون خطاب نفيه مجملاً) غير تامة؛ فان اللازم أعم من كون خطاب نفيه مجملاً.
توضيحه: انّ عِلمنا بوجود مخصصات متصلة كثيرة لم تصل إلينا، يستلزم أحد أمرين على سبيل البدل: اما إجمال العام (كما ذكره قدس ) واما انعقاد ظهور له في بعض العناوين التي تندرج تحته؛ فانه قد يستظهر الفقيه، كما استظهر بالفعل جمع منهم، ان لا ضرر يراد به لا ضرر غير متدارك، ولو لأنه رأى خروج أكثر الأفراد لو لم يقيد بهذا القيد فرآه مع هذه القرينة ظاهراً فيه، وأما عدم استظهار بعض آخر، كالتبريزي فرضاً، لذلك أو لأي وجه آخر، ككون لا ضرر نهياً لا نفياً، كما استظهره صاحب الجواهر وشيخ الشريعة والكمباني الاصفهاني، فلا يكون لا ضرر مجملاً حينئذٍ لأن المتوهَّم كونها تخصيصات تكون تخصّصات حينئذٍ، فانه لا يصحح إطلاق كبرى كلية وانه (... فيكون خطاب نفيه مجملاً) لأن البحث عن القاعدة الأصولية الكبروية لا عما استظهره هو بنفسه في هذا المورد أو ذاك، والقاعدة الأصولية هي ان اللازم بلحاظ ذات المقدم، أعم من التالي الذي ذكره.
وبعبارة مبسطة: قد يكون للعام المخصص بالأكثر، ظهور عرفي في الباقي أو في احد العناوين الضيقة، سواء أقلنا بتحقق ذلك صغرىً في لا ضرر أم لا.
فرق بين المشهور وسيرة الفريقين
ثالثاً: ان قوله: (كما إذا عمل المشهور...) يرد عليه ان عمل المشهور وفهمهم ليس حجة علينا، كما أشكل به السيد الروحاني في زبدة الأصول أيضاً، ولقد كان تعبير الشيخ دقيقاً حيث عبّر بـ(فقد استقرت سيرة الفريقين على الاستدلال بها "لا ضرر")(6) ولم يقل (والمشهور على الاستدلال بها)؛ والفرق كبير؛ إذ فهم المشهور ليس حجة علينا ولكن قد يقال، بل ينبغي ان يقال، ان إطباق الفريقين على أمر حجة علينا! وأين المشهور من إطباق الفريقين على أمر؟ وذلك لأن المشهور قد لا يكون حجة في بناء العقلاء، كما انه قد يقال بان الإجماع (المدركي أو محتمله أو مطلقاً) ليس حجة إذ لا يحصل منه حدس قطعي، ولكن يصعب جداً رفض حجية إجماع أو سيرة كِلا الفريقين، فان إجماعهم رغم ما بينهم من الاختلاف يحصل منه حدس قطعي بانه مراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، نعم في اللطف لا فرق بين إجماع الشيعة وإجماع الفريقين على انه قد يقال بانه يتأكد بتعاضد الإجماعين.
فهم وعمل مشهور معاصري المعصوم عليه السلام حجة
رابعاً: ان عمل المشهور الجابر للوهن فيما لو كانت القرينة متصلة وقد خفيت علينا، لا بد ان يخصص بمشهور معاصري المعصومين (عليهم السلام) إذ انهم هم الذين يحتمل ان يكونوا أحاطوا بقرائن حالية لم تصل إلينا، اما من بعدهم، كمشهور معاصري الشيخ الطوسي، فلا إذ انهم لم يشهدوا القرينة الحالية، فلا بد انها كانت مقالية ولو كانت مقالية لأوصلوها إلينا قطعاً إذ إهمالها خلاف الأمانة إذ النقل، كما سبق، إنما هو للعمل أو لفهم المراد الجدي للإمام عليه السلام، فعدم وصولها إلينا دليل العدم.
نعم قد يقال، بان معاصري الطوسي كانت لا تزال القرائن الحالية في زمنهم بحالها، ثم تبدلت، لكنه بعيد وهو قول بلا دليل ومما لو كان لبان. فتأمل وللبحث صلة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الكاظم عليه السلام: ((لِكُلِّ شَيْءٍ دَلِيلٌ وَدَلِيلُ الْعَاقِلِ التَّفَكُّرُ وَدَلِيلُ التَّفَكُّرِ الصَّمْتُ))
(تحف العقول: ص383).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الميرزا جواد التبريزي، دروس في مسائل علم الأصول، دار الصديقة الشهيدة سلام الله عليها ـ قم، ج5 ص103.
(2) المتصلّة.
(3) ككونه في مقام الإجمال أو التفصيل أو التورية أو مقام (انا خالفت بينهم)، أو كونه في مقام التعليم أو الفتوى.
(4) أي ليس موجباً للإجمال في العام فقط.
(5) (المتصل والمنفصل)
(6) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ـ مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ط1، ج2 ص465.
|