• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التزاحم (1442-1443هـ) .
              • الموضوع : 001- أكثرية تخصيصات قاعدة لا ضرر، ونماذج كثيرة لذلك .

001- أكثرية تخصيصات قاعدة لا ضرر، ونماذج كثيرة لذلك

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(1)


أكثرية تخصيصات لا ضرر
سبق ان قاعدة لا ضرر تعدّ من أهم القواعد الفقهية التي استند إليها عامة الفقهاء في شتى أبواب الفقه، في موارد كثيرة جداً، والمستند الأساس هو روايات لا ضرر التي ارتأى بعض الأعلام كونها متواترة.
ولكن الشيخ استعرض إشكالاً على الاستناد إلى روايات لا ضرر حتى بعد الإذعان بتمامية سندها ودلالتها، والإشكال يقع في مرحلة المانع بعد تمامية المقتضي، قال قدس: (ثم إنك قد عرفت بما ذكرنا: أنه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها، سندا ودلالة، إلا أن الذي يوهن فيها هي: كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي، كما لا يخفى على المتتبع، خصوصا على تفسير الضرر بإدخال المكروه كما تقدم، بل لو بني على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد)(1) وقبل التطرق للأجوبة على هذا الإشكال والتي تجاوزت بحسب تتبعنا عشرة أجوبة مع ما أضفناه إليها، لا بد من إيضاح كلام الشيخ مع تطوير له وإضافات في ضمن الأمور التالية:
تخصيصات لا ضرر إما كثيرة أو أكثر
الأول: ان تخصيصات قاعدة لا ضرر يدور أمرها بين كونها كثيرة فقط وبين كونها أكثر من الباقي في دائرتها، وقد طرح الشيخ هنا الأكثرية، وأضفنا للإشكال شقاً آخر يورد على تقدير الكثرة أيضاً:
الإشكال فيما إذا كانت التخصيصات كثيرة
فانه إذا كانت التخصيصات كثيرة فان العام وهو (لا ضرر) سيكون موهوناً بكثرة التخصيص، وتظهر نتيجة الوهن في مواضع:
منها: تعارض هذا العام مع عام آخر لم يُبتلَ بكثرة التخصيصات، فان الأخير سيتقدم عليه حينئذٍ.
ومنها: ان الدليل الحاكم، كالعناوين الثانوية ومنها لا ضرر، إذا صار موهوناً ظهورُه بكثرة التخصيص، فانه يسقط عن الحكومة والحاكمية على الأدلة الأولية (أي التي لم يُبتلَ منها بكثرة التخصيص) على مبنى ان السرّ في تقدم الحاكم على المحكوم هو اظهريته منه، كما ذكره المحقق العراقي، دون المبنى الذي يذهب إلى ان النكتة هي انه ناظر إليه ومفسر وشارح، فانه لا يُخلُّ بحكومته ضعفُ ظهوِره كما قالوا، وكذا بناءً على ان لسان الحاكم هو لسان المسالمة، وقد فصّلنا الكلام عن ذلك في مباحث الحكومة والورود(2).
الإشكال فيما إذا كانت أكثر
وأما إذا كانت التخصيصات أكثر من الباقي، فان العام سيكون مجملاً، إذ لا يصح ان تتعلق الإرادة الجدية للشارع بالعموم مع أكثرية الخارج عنه؛ فانه مستهجن عرفاً وقد ورد ((وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ))(3)، فلا بد انه أراد به معنى آخر أخص (بحيث تكون المستثنيات غير داخلة فيه، وعليه: لا يكون الخارج أكثر) فان أمكننا استظهاره بوجهٍ ما فهو، وإلا كان العام (لا ضرر) مجملاً فلا يتمسك به إلا في القدر المتيقن، واما ذلك المعنى الأخص فقد يكون مثلاً (لا ضرر مشروعاً أو جائزاً) إذ يراد به إضرار بعض الناس ببعض، والخارج منه قليل، إذ أكثر الخارج عن مفاد القاعدة هو من دائرة العبادات كالحج والجهاد والخمس والزكاة وسائر ما شرّعه الشارع مباشرة وتوجَّهَ الضرر منه إلى المكلف كنجاسة الملاقي، أو من دائرة مسؤولية الحاكم كالحدود والتعزيرات والقضاء والتي قررها الشارع له فأدّت إليه فلا يشمله (لا ضرر مشروعاً)(4) وكذا لو أريد بلا ضرر (لا ضرر غير متدارك) أو أريد به النهي، وهناك تتمة لتقرير الإشكال وتطويره فانتظر.
إضافة إلى ذلك فان استثناء الأكثر يتأكد على تفسير المصباح للضرر بقوله (ضَرَّهُ يَضُرُّهُ: مِنْ بَابِ قَتَلَ إِذَا فَعَلَ بِهِ مَكْرُوهاً)(5) أي المكروه الذي يكرهه شخصياً فان هذا المعنى أعم كما قاله الشيخ إذ يشمل كثيراً من العبادات بالنسبة لكثير من الناس الذين قد يكرهونها، لا سمح الله، لإضرارها ببعض مصالحهم، فقد يكرهون تقييدهم بالصوم أو الصلاة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الجهاد أو الحج (وهذه بين ما ورد مورد الضرر، وقسيمه).
فروع كثيرة مستثناة من لا ضرر
الثاني: ان التخصيصات الكثيرة أو التخصيصات التي هي أضعاف الباقي حسب تصريح الشيخ، هي كثيرة بالفعل كما انها منتشرة في كافة الأبواب:
ففي أبواب العبادات: الخمس والزكاة والحج والجهاد مثلاً.
وفي أبواب الأحكام: الحدود والتعزيرات والديات والقضاء مثلاً.
وفي أبواب المعاملات بالمعنى الأعم الأمثلة كثيرة جداً:
ومنها: الضمان في صور كثيرة رغم كونه ضررياً، وكذا عدم الضمان في صور متعددة رغم كونه ضررياً.
أما الضمان، فكضمان ما أتلفه سهواً (أما في صورة العمد فانه أقدم على الضرر ولا ضرر منصرف عنه) فالحكم الشارعي الضرري ههنا ثابت على المتلِف ولم ترفعه لا ضرر، وكذا ضمان البائع للمبيع قبل القبض رغم كونه ملكاً للمشتري (التلف قبل القبض من مال البائع) وكون يد البائع أمانيّة، وفي زمن الخيار رغم كونه ملكاً للمشتري، وضمان اللقطة بعد التصدّق بها وغير ذلك
وأما عدم الضمان: فكما فصّلناه في مباحث سابقة، حيث ذهب المشهور إلى عدم ضمان منافع الحرّ إذا حبسه عن الذهاب لمتجره أو عن الخياطة أو الحدادة أو البقالة أو غير ذلك، فانه، أي الحرّ المحبوس عن عمله، يتضرر ويخسر لكن حابسه غير ضامن على المشهور وإنما يضمن منافع العبد لو حبسه عن عمله لأن منافعه مملوكه لمولاه عكس منافع الحر فانها ليست مملوكة لأحد فلا تُضمن بالتفويت(6).
وكذا لو خدعه فباعه أو غيره متاعاً أو اشترى فتضرر فانه ليس بضامن، ومثاله: ما لو لم يكن عمرو مثلاً يريد شراء هذه الأسهم لاستظهاره انخفاض قيمتها، وكان زيد مستظهراً ذلك أيضاً، لكنه أراد الإضرار به من غير ان يكذب فأخبره ان الخبير الفلاني يستظهر صعودها، وكان عمرو يثق بذلك الخبير، وكان النقل صادقاً، فاشترى وخسر فان زيداً ليس بضامن.
تنبيه: إدخال أمثلة عدم الضمان في المقام إنما هو على مبنى كون لا ضرر منشئاً للحكم، وأما على مبنى نفيه للحكم فقط، فان هذه الأمثلة خارجة موضوعاً عن لا ضرر.
ومنها: وجوب أداء الدين ولو توقف على مقدمات تُكلّفة الكثير وتضرّ به.
ومنها: ثبوت الدية على العاقلة لدى الخطأ.
ومنها: وجوب شراء المصحف أو العبد المسلم لو كان تحت يد الكافر، حتى لو أضرّ ذلك به وبالكافر.
ومنها: وجوب شراء الماء للوضوء ولو بأضعاف قيمته، كما عليه النص والفتوى، بل ومطلق مقدمات الواجب المطلق فانه يجب عليه تعلم أحكام الصلاة (وغيرها) ولو ببذل مالٍ يضر به وكذا يجب عليه تحصيل جهة القبلة والوقت والساتر وتطهير اللباس وشبه ذلك، على ما افتى به عدد من العلماء.
ومنها: وجوب بذل المال لاستنقاذ النفس المحترمة أو لدفع الضرر الكبير الذي يُعلم من الشرع كراهة وقوعه، كما لو تعرضت مدينة لحريق كبير وكان بإمكانه إخماده بمال خطير يملكه، فانه يجب عليه ذلك، حسب البعض، وإن أضرّ به، وقد يقال بتعويضه من بيت المال.
ومنها: انعتاق العمودين عليه قهراً بشرائهما وبمثل العمى والاقعاد والتنكيل.
ومنها: نجاسة الملاقي للنجاسة مما قد يسقطه عن قيمته أو يقلل منها والأول كالمرق الملاقي للنجاسة والثاني كالفرو الملاقي لها الذي تنخفض قيمته بذلك أو بغسله(7)، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.


وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((لَا تَجْعَلُوا عِلْمَكُمْ جَهْلًا وَيَقِينَكُمْ شَكّاً، إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا وَإِذَا تَيَقَّنْتُمْ فَأَقْدِمُوا)) (نهج البلاغة: الحكمة 274).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الناشر: مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ط1 1419هـ، ج2 ص465.
(2) استعرضنا هنالك أقوالاً ومباني سبعة في النكتة في تقدم الدليل الحاكم.
(3) سورة إبراهيم: الآية 4.
(4) لكن يشمل الأخير مع تعميم لا ضرر للحكّام.
(5) أحمد بن محمد بن علي القيومي المقري، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، المكتبة العلمية ـ بيروت، ج2 ص360.
(6) تراجع مناقشتنا لذلك في مباحث (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل).
(7) وقد أشار إلى العديد من الموارد السابقة، العديد من المعلقين على الرسائل أو شارحيها، لكن المحقق اليزدي صاحب العروة كان أكثر من استقرأ مواردها في حاشيته على الفرائد.

 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3874
  • تاريخ إضافة الموضوع : الأربعاء 5 ذو القعدة 1442هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15