بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(292)
الفرق بين عدم جعل الحكم اقتضاءً أو للمانع أو جعله نوعاً ورفعه شخصاً
وإجمال فرق الوجوه الأربع: ان الوجهين الأولين يتعلقان بمرحلة الجعل وان الوجهين الأخيرين يرتبطان بمرحلة المجعول.
وأنّه في الوجهين الأولين لم يجعل الحكم نوعاً، وفي الأخيرين قد لا يكون مجعولاً شخصاً وإن كان مجعولاً نوعاً بمعنى انه على الوجهين الأولين لم يجعل الحكم للكلي الطبيعي، اما على الأخيرين فقد جعل الحكم عليه ولكنه يخرج عنه في بعض الأفراد بالدليل، كدليل لا ضرر حيث ان لا ضرر يدور مدار الأفراد فيخرج منه الضرر الفردي بعد ثبوت الحكم للعنوان الكلي، كما ان الوجه الأول والثاني لا يختلفان من حيث المآل ولكنهما يختلفان من حيث المبدأ والمنطلق، فكم فرق بين عدم احتراق الورقة لعدم وجود النار وبين عدم احتراقها لوجود المانع (ككونها مطلية بمادة كيماوية عازلة) رغم وجود النار والشرط (كالمحاذاة).
كما ان الوجه الثاني يمكن تصويره بنحوين كما سبق:
(الوجه الثاني: ان يقال بالشمول اقتضاءً وبعدم الشمول للتعارض أي في مرحلة المانع، إذ المقتضي موجود ولكن المانع حائل، والمانع هو التعارض نفسه أو التزاحم([1]) ولكنه في مرحلة الجعل، حيث لاحظ التعارض، لم يجعل أصلاً، فهو ملحق بالصورة الأولى، أو جعله ولكنه يكون غير فعلي أو غير منجّز، فهو الصورة الثانية. فتأمل)([2]).
فاما الإلحاق بالصورة الأولى فواضح واما الصورة الثانية ففيها كلام وإجماله أنه قد يجعل الحكم التكليفي أو الوضعي بنحو القضية الحقيقية على الكلي المنطبق على كليهما (كلا المتعارضين) ولكن حيث تعذر جعل حكمين متضادين، فاللازم([3]) اما القول بالتساقط أو رفع اليد عن التعيّن أو عن الفعلية والتنجز.
إجمال القول في عدم شمول أدلة الحجية للمتعارضين
وذلك كله كما فصّلناه في بحث شمول أدلة الحجية للمتعارضين (كفتويي المجتهدين) وعدمه، وإجماله: انه قد يقال بعدم شمول أدلة الحجية لهما اقتضاءً وقد يقال بعدم شمول أدلة الحجية لهما للمانع وهو التعارض، ولكن الصحيح هو شمول أدلة الحجية لهما اقتضاءً؛ لفرض وجود المقتضي فيهما لكونهما مجتهدين جامعي الشرائط ولكون أدلة الحجية غير قاصرة في حد ذاتها عن شمول كل منهما، واما المانع فانه لا يزيد على رفع تعيّن الأخذ بكل منهما فان التعارض إنما هو بلحاظ الحدّ لا الأصل إذ الإلزام بالأخذ بكل منهما تعييناً مضادّ للإلزام بالأخذ بالآخر، والتعارض إنما نشأ من قيد التعيينية وبرفع اليد عنه يرتفع التعارض ويكون المؤدى التخيير بينهما ويكون مفاد أدلة الحجية حينئذٍ المنجّزية للمصيب والمعذّرية للمخطئ.
وقد حققنا تفصيل ذلك في آخر (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية - دراسة فقهية اصولية) فراجع.
أمثلة الوجوه الأربع في حريم القرية وغيرها
وتطبيقه على المقام في مسألة الحريم في المدن وغيرها:
مثال عدم المقتضي للحريم
اما عدم المقتضي بنظر المشرع في مسألة الحريم فتصويره يظهر بالتدبر فيما ذكره الفقهاء للقرية من حريم قال في الدروس: (وحريم القرية مطرح القمامة والتراب والرمل ومناخ الإبل ومرتكض الخيل والنادي وملعب الصبيان ومسيل المياه ومرعى الماشية ومحتطب أهلها بما جرت العادة بوصولهم إليه)([4]) فذلك كله مما فيه المقتضي لجعل الحريم، ولكنه لا مقتضي لجعل الحريم لما لا يضر بهم مشاركة غيرهم فيه كما لو كان المرعى أو المحتطب أو الغابة التي يعتشاون على ثمارها وطرائدها، كافية وافية بحوائج القرى المحيطة كافة إضافة إلى حوائجهم فانه لا مقتضي لجعل ذلك المرعى كله حريماً لهم وإن سبقوا إليه إذ الفرض وفائه بحاجاتهم وحاجات غيرهم جميعاً، ولذلك قال في الدروس في تتمة الكلام السابق: (وليس لهم المنع مما بعد من المرعى والمحتطب بحيث لا يطرقونه إلّا نادراً، ولا المنع مما لا يضرّ بهم مما يطرقونه)([5]) فانه لا مقتضي للحريم في الصورتين اما الأولى فلما سبق واما الثانية فلأن ما لا يطرقونه إلا نادراً منزّل منزلة العدم عرفاً فلا مقتضي فيه لجعل الحريم.
مثال وجود المانع له
واما وجود المانع: فكما لو كان المقتضي لجعل الحريم ثابتاً ولكن المشرّع رأى انه إن جعله أورث النزاع الشديد مما ضرره أكثر من نفعه، أو مما لو كان ضرره على المجموع أكثر من نفعه على الآحاد؛ ولعله لذا أجاز الشارع، وكل حكيم مشرّع، تصرف الآخرين بالعبور والمرور من أمام دور الناس وإن كانت حريماً لهم، ومرجع هذا إلى انه ليس حريماً من هذه الجهة وإن كان حريماً من جهة أخرى كعدم جواز إيقاف سياراتهم امام دور الناس، وذلك كعكسه فان الشارع أجاز تصرف الملاك في حريم أملاكهم، بالقدر المتعارف، كإيقاف الدابة أو السيارة أمام الدار وإن أضر، إلى حد ما، بالمارة، لكنه لاحظ ان ضرر المنع أكبر أو ان فوائد الإباحة أكبر، ومثال هذا في غير الحريم سيأتي بإذن الله تعالى.
أمثلة الوجوه الأربع في حق الطبع والاختراع
واما تطبيق الوجوه الأربع على حق الاختراع أو الطبع:
عدم المقتضي لجعل حق الاختراع والطبع
فاما عدم وجود المقتضي، فكما لو رأى المشرّع ان جعل الحق للاختراع أو غيره، مما لا ينفع بان كان مما لا ينتفع به هو أو النوع بوجه.
مثال وجود المانع
واما وجود المانع، فكما لو رأى ان جعل هذا الحق – مطلقاً أو في الجملة – مما يُضرّ بتقدم البلاد وهي في طور النمو والنهوض، أو رأى فيه ظلماً لهم وضرراً أكبر، كما لو تفشى مرض خطير، فصنع بعضهم مصلاً مضاداً وكان حصر الحق به (مما هو عبارة أخرى عن احتكاره لصنعه)، مما يضر بالألوف أو الملايين، فان للحكومة الشرعية أو المنتخبة إسقاط هذا الحق، وذلك كله إن عدّ حقاً عرفاً وإلا فلا وجه للمنع.
نعم قد يكون اعتبار جهةٍ ما، كالحكومة المنتخبة من الناس، جاعلاً للحق عرفاً وعكسه عكسه، كما لا يبعد في بعض الأعراف لبعض الملل وبعض العشائر حيث يكون اعتبار كبيرهم وعدم اعتباره لأمرٍ مّا، منشأ لصدق الحق عرفاً وسلبه (أي لتحققه موضوعاً)، ومثاله الواضح اعتبار الأوراق النقدية فانه، عرفاً، تابع لاعتبار السلطان او الحاكم. فتأمل
ويؤيد ذلك ان عقلاء العالم جعلوا للحقوق حداً، فمثلاً جعلوا لحق بعض المخترعات وبعض الأدوية (أي لحصر صنعه والانتفاع ببيعه) سبعة عشر سنة، وبعدها يسقط حقه ويكون لمن شاء ان يصنعه، ويبيعه كما جعلوا لحق التأليف مدة وهكذا، وبذلك يعرف انه حق قابل للجعل والرفع أيضاً كما كان قابلاً للتحديد والتمديد. والله العالم
مثال التباني على تساقط الحقوق
واما التباني، فقد يكون بين دولتين أو شعبين أو جهتين أو مؤلّفين وهكذا، بان يسقط هذا الشعب كافة حقوقه في إختراعاته وإكتشافاته مقابل إسقاط ذلك الشعب كافة حقوقه في إختراعاته وإكتشافاته، فيكون لكل من أفراد الشعبين استنساخ اختراع ذلك الشعب الآخر، وإنما يقومون بذلك لو رأوا ان ذلك مما يكون لصالح الشعبين مؤثراً في ازدهار بلدهم أو فيما إذا توحد الشعبان في حكومة واحدة، أو فيما لو ورث المطبعتين أو المؤلفين شخص واحد. فتدبر وتأمل والله العالم.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الباقر عليه السلام: ((وَلَا مُصِيبَةَ كَاسْتِهَانَتِكَ بِالذَّنْبِ وَرِضَاكَ بِالْحَالَةِ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا)) (تحف العقول: ص286).
--------------------------
([1]) حسب المبنى.
([2]) الدرس (291).
([3]) في مرحلة الانطباق والتمصدق.
([4]) الشهيد الأول، الدروس الشرعية في فقه الإمامية، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ـ قم المشرفة: ج3 ص59.
([5]) الشهيد الأول، الدروس الشرعية في فقه الإمامية، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ـ قم المشرفة: ج3 ص59.
|