بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(452)
تحقيق عن (العقود تتبع القصود)
وقد استند الشيخ الكبير كاشف الغطاء إلى قاعدة (العقود تتبع القصود) في مقام إستبعاد القول بالإباحة المجرّدة وانه (مع فرض قصد المتعاطيين التمليك والبيع، مستلزم لتأسيس قواعد جديدة: منها: أنّ العقود وما قام مقامها لا تتبع القصود)([1]) وأجاب الشيخ بقوله: (أمّا حكاية تبعيّة العقود و ما قام مقامها للقصود، ففيها:
أوّلًا: أنّ المعاطاة ليست عند القائل بالإباحة المجرّدة من العقود، ولا من القائم مقامها شرعاً؛ فإنّ تبعية العقد للقصد وعدم انفكاكه عنه إنّما هو لأجل دليل صحّة ذلك العقد، بمعنى ترتّب الأثر المقصود عليه، فلا يعقل حينئذٍ الحكم بالصحّة مع عدم ترتّب الأثر المقصود عليه...)([2])
وتحقيق المقام يتوقف على تمهيد مقدمة هامة عامة عن القاعدة فنقول:
ان (العقود تتبع القصود) ليس رواية كما ليس بآية كما هو واضح، فلا حجية فيها بما هي هي إلا بلحاظ مدركها، فقد يكون التسالم وقد يكون قوله عليه السلام ((وَلَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ))([3])و((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))([4]) وقد يكون لأن العقود كلها إنشائيات ولا إنشاء بدون قصد، وليس ههنا موضع تحقيق ذلك إذ المقصود الآن الكلام عن المراد بمفردات القاعدة ومحتملاتها:
المراد بالعقود
اما (العقود) فالمراد بها الأعم من الإيقاعات لا القسيم لها، ولكن هل يراد بها خصوص العقود الصحيحة أو الأعم منها ومن المصححة شرعاً أو الأعم منها ومن الفاسدة؟ ذهب الشيخ إلى ان المراد بها الصحيحة والمصححة شرعاً.
المراد بالقصود
واما (القصود) فالمراد قصد اللفظ وقصد المعنى، فإذا كان غالطاً لم يقصد اللفظ كما لو أراد ان يقول بعت فقال وهبت أو العكس فانه لا يقع العقد الذي لم يقصده فلا تترتب آثاره، وكذا إذا كان سكراناً غير ملتفت لما يقول أو تكلم في نومه أو شبه ذلك، وإذا كان هازلاً لم يقصد المعنى فانه لا يقع إذ العقود تتبع القصود، وكذا حال المتلفظ بصيغة العقد تمريناً (لنفسه) أو تدريباً (لغيره) أو امتحاناً لا بقصد الجدّ والمعنى، بل وكذا لو لم يفهم المعنى فان العقود تتبع القصود بل عن الشيخ انه لا يصدق عليه العقد حينئذٍ، وذلك تام إن لم يقصده بوجهٍ ولو إجمالاً وإلا ففيه تفصيل.
المراد بالتبعية
واما (تتبع) فهل المراد التبعية العِلّية أو الاقتضائية؟ أي هل ان العقود تتبع القصود تبعية المعلول للعلة أم تبعية المقتضَى للمقتضِي؟ الظاهر الثاني، وعلى تحليل ذلك يترتب دفع بعض الشبهات وقد يأتي بعضها.
المحتملات العشر في العقود تتبع القصود
ثم ان المحتملات في (العقود تتبع القصود) عشرة ولا مانعة جمع بين عدد منها بعد رفض بعضها لبطلانه، وهذا التقسيم بلحاظ (التبعية) وانه في أية جهة تتبع العقود القصود؟ والاحتمالات هي:
1- ان العقود تتبع القصود أي في الماهية أي في ماهيتها وحقيقتها. وقد يعبّر عن هذا بالتبعية في المفهوم إذ مفهوم العقد لا يتحقق بلا قصد والفرق بين الماهية والمفهوم ان الأولى بلحاظ الخارج وان الثاني بلحاظ الذهن، لكنهما أمران كما سيظهر من مثالنا الآتي.
2- ان المقصود تبعيتها لها في الوجود، فإذا لم يوجد القصد لم يوجد العقد.
3- ان المقصود تبعيتها لها في الصحة أو الفساد.
4-6- ان المقصود تبعيتها لها في أركانها، أو في أجزائها، أو في شرائطها أو فيها جميعاً.
7-8- ان تبعيتها لها في لوازمها، واللوازم اما ذاتية أو عرضية عرفية.
9- ان تبعيتها لها في أحكامها.
10- ان تبعيتها لها في أمر خارجي.
التبعية في الماهية
اما الأول: فكما لو كان اللفظ الـمُنشَأ صالحاً لماهيتين أو أكثر، فإنّ تعيُّن أحداهما يكون بالقصد كما لو قال: (هذا لك بهذا) أو (خذ هذا بهذا) فانه صالح لأن يراد به البيع أو الصلح أو الهبة المعوضة أو العقد المستأنف فما قصده وقع (اقتضاءً – كما أشرنا إليه في معنى التبعية)([5]).
التبعية في الوجود
واما الثاني: فكما ظهر من مثال الغالط والهازل والنائم والمتمرن وشبههم فانه لا يوجد العقد بلفظِ هازلٍ أو نائمٍ أو شبههما.
واما الثالث فسيأتي.
التبعية في الأركان
واما الرابع: وهو التبعية في الأركان، فتوضيحه: ان ركني البيع (والمعاملات عموماً) هما العوض والمعوض (الثمن والمثمن) (كما ان ركني النكاح هما الزوج والزوجة، لا المهر ولذا إذا نسيه أو ابهمه مثلاً لم يبطل النكاح عكس ما إذا ابهمت الزوجة وأجملت مثلاً).
ومن أمثلة تبعية العقد في أركانه للقصد: ما لو باعه كيلواً من عشر كيلوات فانه قد يقصد الكلي في المعين وقد يقصد المشاع (والمثمن ركن، فإن قلنا ان الإشاعة مقوّم كان مما ذكر وإلا كان شرطاً) ولكل منهما آثار تترتب على القصد فانه إن كان من المشاع فتَلِفَ بعضُه توزّع عليهما بالنسبة([6]) وإن كان من الكلي في المعين فكلما تلف كيلو كان من البائع حتى يبقى الكيلو الأخير فإن تلف تعيّن ان يبدله البائع بغيره.
التبعية في الأجزاء
واما الخامس: وهو التبعية في الأجزاء، فكما لو باعه داره، فان دخول الأجهزة([7]) أو الأثاث، في المبيع، تابع للقصد (اقتضاءً، وسيأتي أهمية هذا القيد) فان قصدا شمول البيع له (مع مبرزٍ أو مطلقاً) شمل وإلا فلا، وكذلك الحال في شمول بيع الدار لحديقتها وموقف سياراتها فإن كان هناك عرفٌ دارج بُني العقد عليه إذ كان القصد منصباً عليه، وإلا فحسب قصدهما إن عدّ شرطاً ضمنياً، ولو اختلفا في القصد ففرع آخر لعله يأتي.
التبعية في الشروط
واما السادس: فكشرط كونه سليماً غير معيب، من الشروط الارتكازية، أو كأي شرط آخر مما يتواطئان عليه.
التبعية في اللوازم الذاتية
واما السابع: فاللوازم الذاتية، كنقل الملكية في البيع فانه لازم ذاتي للبيع إن لم نقل بانه هو هو، ومن هنا لزم الإشكال في المعاطاة على رأي مشهور القدماء الذين ذهبوا إلى انها لا تفيد الملك وتفيد مجرد إباحة التصرفات، إذ كيف يتخلف لازم العقد الذاتي عنه مع ان ذلك من أبرز مصاديق العقود تتبع القصود؟.
التبعية في اللوازم العرفية
واما الثامن: فان اللوازم العرضية العرفية كنقل المنفعة بنقل العين، فانه إذا باع العين انتقلت منافعها إلى المشتري كذلك، لكنه لازم عرفي وليس بالذاتي إذ يمكن ان يبيعه الشيء مستثنىً منه منافعُهُ لمدة سنة مثلاً كما لو كان قد أجّره لغيره فيبيعه مسلوب المنفعة. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((مَا أهْدى الْمُسلم لِأَخِيهِ هَدِيَّة أفضل من كلمة حِكْمَة تزِيدهُ هُدى أَو تردهُ عَن ردى)) (إرشاد القلوب: ج1 ص13).
--------------------------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، ط / تراث الشيخ الأعظم ج3 ص44.
([2]) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، ط / تراث الشيخ الأعظم ج3 ص46.
([3]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص70.
([4]) الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص83.
([5]) وقد يتوقف على تحقق شرط أو نفي مانع، ولعله يأتي.
([6]) هذا إن كانت يدهما عليه أي بعد القبض، وإلا فان التلف قبل القبض من مال بائعه. لكن لا حاجة إلى هذا القيد إذ انه بتلفه قبل القبض ينتقل للعوض بالنسبة.
([7]) كالمكيف والثلاجة مثلاً.
|