• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التزاحم (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 283- الشيخ: تقديم حق المالك على الإضرار بالجار ، والمناقشات .

283- الشيخ: تقديم حق المالك على الإضرار بالجار ، والمناقشات

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(283)

 

الشيخ: حق المالك([1]) مقدَّم وإن تضرر الجار

وقد ذهب الشيخ في (القواعد الفقهية – قاعدة لا ضرر) إلى التفصيل فبعد ان نقل إطلاق القوم جواز تصرف المالك في ملكه وإن تضرر جاره([2]) قال: (أقول: تصرّف المالك في ملكه إمّا أن يكون لدفع ضرر يتوجّه إليه، وإمّا أن يكون لجلب منفعةٍ، وإمّا أن يكون لغواً غير معتدٍّ به عند العقلاء.

فإن كان لدفع الضرر فلا إشكال، بل لا خلاف في جوازه؛ لأنّ إلزامه بتحمّل الضرر، وحبسه عن ملكه لئلّا يتضرّر الغير، حكم ضرريّ منفيّ. مضافا إلى عموم: ((إِنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِم‏))([3]))([4]).

 

مناقشات مع الشيخ

أقول: قد يناقش كلامه بوجوه:

 

1- المسألة خلافية

الأول: ان الخلاف موجود، حتى من عدد من أعاظم الفقهاء ويكفي ان ننقل ما نقله هو بعد صفحة من هذا الكلام إذ قال: (وهو الذي يظهر من جماعة كالعلّامة في التذكرة والشهيد في الدروس، حيث قيّدا التصرّف في كلامهما بما جرت به العادة، والمحقق الثاني حيث قيّد الجواز مع ظنّ تضرّر الغير بصورة دعاء الحاجة، بل العلّامة في التذكرة حيث استدلّ على الجواز- في كلامه المتقدّم- بأنّ منعه عن عموم التصرّف ضرر منفيّ، إذ لا شكّ أنّ منعه عن هذا التصرّف ليس ضررا وقد قطع الأصحاب بضمان من أجّج ناراً زائداً على مقدار الحاجة مع ظنّ التعدّي)([5]) فان الظاهر من كلام العلامة وغيره التقييد مطلقاً (سواءً أكان تصرفه لغواً محضاً وهو الذي أدرج الشيخ كلماتهم فيه، أم كان عدم تصرفه ضرراً عليه) نعم ينبغي مراجعة كامل كلماتهم([6])، وعلى أي فان كلامهم (بإطلاقه) بتقييد التصرف (حتى ما كان لدفع الضرر) بما جرت به العادة على القاعدة، كما سيظهر أكثر عند نقل كلام السيد الوالد بعد قليل.

ولا يخفى الفرق بين ما قيّد به العلامة وما قيّد به المحقق الثاني إذ النسبة بين (ما جرت به العادة) و(صورة دعاء الحاجة) هي العموم من وجه؛ إذ قد تجري العادة بتصرف معين في الدار لكن لا تكون للمالك به حاجة([7]) وقد تكون له حاجة إلى تصرف معيّن ولكن لم تكن العادة به جارية([8]).

كما لا يخفى ان التقييد بما جرت به العادة أو بصورة دعاء الحاجة، تفصيلٌ يخالف إطلاق جواز مطلق التصرفات للمالك وإن أضّر بالجيران.

 

2- القاعدة التفصيل بين التصرفات المعتادة وغيرها

الثاني: ان مقتضى القاعدة، على ما أشرنا إليه، التفصيل بين التصرفات التي اعتاد الناس على القيام بها في منازلهم فانها جائزة وإن كانت عادةً مضرة بالجيران بالقدر المعهود من الضرر، وبين المضرة التي لم تجر العادة بالقيام بها فانها غير جائزة.

 

من الأدلة على ملاكية المتعارف

وذلك ما ذهب إليه السيد الوالد إذ قال: (لو استلزم تصرف المالك تضرر الجار، فان تعارف كما في الجيران جاز لدليل السلطة وإن كان عمله عبثاً أو بقصده؛ لأنه يوجب انصراف دليله([9]) عنه([10])، وإن لم يكن([11]) لم يجز لدليله([12]) وهو([13]) حاكم عليها([14]).

لكن الشيخ قدس سره  فصّل بين ما كان لجلب المنفعة ودفع المضرة فيجوز دون ما كان عبثاً لدليله، بعد عدم الضرر على المالك في منعه منه.

وفيه: ان إطلاقهما([15]) بدون المتعارف والمنع في الثالث([16]) معه([17])، غير ظاهر الوجه)([18]).

أقول: قوله قدس سره  (جاز لدليل السلطنة) مبني على ضميمة ان (لا ضرر) منصرف عن التصرفات المتعارفة (وإلا لكان حاكماً على دليل السلطنة) وللسيرة المتصلة بزمن المعصوم عليه السلام على التصرفات المتعارفة الضارة بالجيران من غير نكير ولبناء العقلاء على ذلك، عكس الضار بالجيران غير المتعارف؛ إذ لا سيرة متصلة ولا بناء للعقلاء ولا إنصراف للا ضرر عنه.

نعم، تعميمه الجواز حتى إذا كان عبثاً أو كان بقصد الإضرار فيما لو كان متعارفاً، مشكل إذ ليس بناء العقلاء عليه ويكفي ان لا يعلم، وإنصراف لا ضرر عنه بدوي، نعم ما ثبت جريان السيرة عليه متصلةً بزمان المعصوم عليه السلام فهو جائز كما قال، فهذا التفصيل هو مقتضى القاعدة.

 

3- كما أنّ منعه ضرري منفي، فإضراره بالغير منفي

الثالث: ان قوله (لأنّ إلزامه بتحمّل الضرر، وحبسه عن ملكه لئلّا يتضرّر الغير، حكم ضرريّ منفيّ) يرد عليه: انه إغفال أو غفلة عن ضرر الطرف الآخر (الجار) فكما ان حبسه عن ملكه وإلزامه بتحمل الضرر ضرر منفي بلا ضرر، كذلك إضراره بالجار ضرر منفي بـ(لا ضِرار) خاصة انه مورد حكم النبي صلى الله عليه واله وسلم في قضية سمرة، بل انه منفي أيضاً بـ(لا ضرر) نفسه لأنه حكم شرعي عام شامل لكل المكلفين أو فقل انه كلي طبيعي ينطبق على زيد وعلى جاره أيضاً، فكان الأولى ان يقول الشيخ انه (لا ضرر المالك) يتعارض مع (لا ضرر الجار) (أو يتزاحم حسبما نرى) فيتساقطان ويرجع إلى الأصل وهو ((إِنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِم‏)) وسيأتي كلام حول ذلك.

ومنه يظهر ان تعبيره قدس سره  في الرسائل خالٍ عن الإشكال الذي أوردناه عليه ههنا إذ قال في الرسائل (ومثله: إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر جاره وتركه موجبا لتضرر نفسه، فإنه يرجع إلى عموم: ((إِنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِم‏)))([19]) فانه لم يقل المرجع (لا ضرر المالك)([20]) بل قال المرجع دليل السلطنة ولم يذكر وجه مرجعيته فانه مقدمة مطوية وهي ما ذكرناه من تعارض الضررين.

 

الحق: تزاحم الضررين، فالأشد منفي

ولكن الحق: ان الضررين متزاحمان، وليسا متعارضين، إذ هما من الملاكات العقلائية الفطرية المعروفة، وعليه: فالمدار درجة الضررين وأشدية أحدهما من الآخر أو أضعفيته أو مساواته، فان تساوى الضرران أو تقاربا فيرجع إلى دليل السلطنة، كما قاله قدس سره ، وإن كان أحدهما أشد بدرجة بالغة عرفاً كان حقه المقدم سواء أكان صاحب الدار أم الجار، نعم ينبغي ضم السلطنة إلى الضرر وملاحظة مجموعهما منسوباً إلى ضرر الجار، ولعله يأتي مزيد توضيح له.

 

تطبيق المبحث على فقه الدولة

ثم ان كل ما ذُكر وما سيذكر من الأقوال والأدلة كما يجري في الفقه الفردي فانه يجري في الفقه النوعي وفقه المجتمع، بحذافيره أو ببعض التصرف، ففي المثال السابق حول تزاحم حق تركيا أو إيران، في أنهار دجلة والفرات وكارون([21]) والكرخة وغيرها، مع حق العراق (وكذا حق مصر والسودان واثيوبيا وغيرها في النيل([22]) وهكذا) فالمرجع حسب مقتضى أدلة الشيخ ومختاره في المالك، هو من بيده السلطنة على النهر بان وقع منبعه في بلاده وان حقه مقدم إذا كان يتضرر بعدم وضع السدود فيتقدم علينا وإن كنا نتضرر بوضع السدود.

لكن المختار، كما ظهر مما مضى، هو اندراج الأمر في باب التزاحم وان أشدّ الضررين هو المقدم إن لم يمكن إعمال قاعدة العدل والإنصاف وإلا فهي المرجع، وعليه فان لم يمكن التفكيك فاشد الضررين يشمله لا ضرر دون قسيمه لانصرافه عنه، فقد يكون ضرر تركيا مثلاً إذا لم تنصب السدود عطش مليون تركي مثلاً ويكون ضرر العراق بنصبها السدود عطش خمسة ملايين فحق العراق مقدم حينئذٍ، أو العكس فالعكس.

وكذا لو كانت زراعتهم تتضرر بعدم نصب السد وزراعتنا تتضرر بوجوده، ولا مجال للقول بالقرعة مع تزاحم ملاكين أحدهما أقوى بنظر العقلاء وبحكم العقل، نعم كما سبق الواجب التقسيم حسب قاعدة العدل والإنصاف لكن الكلام فيما لا يقبل التنصيف ودار الأمر فيجب الأخذ بأخف الضررين (سواء أكان ضرر الدولة التي بيدها مجاري النهر أم ضرر جارها) هذا. وعلى أي فانه يحتمل احتمالان: مراعاة حق المجموع كمجموعة واحدة أو كفرد واحد، ومراعاة حقهم كفردين أو مجموعتين، وسيأتي بإذن الله تعالى.

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

 

عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((قُلْتُ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)) (الكافي: ج2 ص158).

 

 

 

-----------------------------------------------------

([1]) إن كان يتضرر بالعدم.

([2]) الشيخ مرتضى الانصاري، رسائل فقهية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص126.

([3]) عوالي اللآلئ: ج1 ص222.

([4]) الشيخ مرتضى الانصاري، رسائل فقهية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص128.

([5]) الشيخ مرتضى الانصاري، رسائل فقهية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص130.

([6]) فلعلها في خصوص ما لو كان التصرف لغواً محضاً.

([7]) كفتح المذياع عالياً أو طبخ الطعام بالثوم الكثير مما يزعج الجيران، إذا كانت عادتهم ذلك، لكنه لم يكن محتاجاً لأي منهما.

([8]) كما لو احتاج إلى تحويل داره إلى مدبغة (مما يضر بالجيران) مما لم تكن عادتهم جارية على ذلك في ذلك البلد، أو احتاج إلى نشر روائح قوية جداً (لمرضه) مما لم تجرِ عادتهم به حتى عند المرض.

([9]) دليل الضرر.

([10]) عن المتعارف.

([11]) متعارفاً.

([12]) الضرر.

([13]) الضرر.

([14]) دليل السلطنة.

([15]) جلب المنفعة ودفع المضرة.

([16]) العبث.

([17]) مع كونه متعارفاً.

([18]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الأصول، ص256-257.

([19]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج2 ص467.

([20]) (لأن إلزامه بتحمل الضرر وحبسه عن ملكه لئلا يتضرر الغير حكم ضرري منفي) كما قال هناك.

([21]) كارون يقع في خوزستان بإيران، وينبع من جبال زاغروس ويصب في شط العرب ثم الخليج العربي.

([22]) يمر نهر النيل (الأبيض والأزرق) بالدول التالية: ارتيريا / الكونغو/ بوروندي/ رواندا/ تنزانيا/ كينيا / أوغندا/ اثيوبيا/ جنوب السودان/ السودان/ مصر.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3761
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاثنين 10 جمادي الاولى 1441هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15