بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(254)
الحلي: (لا ضِرار) يفيد حق الطلاق للحاكم دون (لا ضرر)
تلخص مما مضى من كلام الشيخ الحلي عدم شمول (لا ضرر) للزوجة التي أضرّ بها زوجها بعدم الإنفاق عليها، وأنّ لا ضرر لا تثبت الحق للحاكم الشرعي في طلاقها([1])، بما مضى بيان وجهه مع مناقشته، ولكنه رأى شمول (لا ضِرار) لذلك بالبيان الآتي قال: (وعلى أي حال: فانّ التحقيق يقتضي لنا أن نقول: بإمكان الاستدلال بهذا الحديث الشريف لما نحن فيه من انفتاح باب الطلاق الاجباري أمام الحاكم الشرعي، حيث يتمسّك بنفي الضرر على ذلك. لأن الزوج لو لم يقم بحقوق زوجته، وأمره الحاكم الشرعي بالقيام بتلك الحقوق، فامتنع عن ذلك، ولم يتمكّن الحاكم الشرعي من إجباره؛ كان إصراره على ذلك من قبيل إصرار "سمرة" على الدخول لبيت "الانصاري"، وحينئذٍ يكون مضارّاً للزوجة، ويدخل تحت كبرى قوله صلى الله عليه واله وسلم: "لا ضِرار")([2]).
المناقشة: وِزانهما واحد
ولكن يرد عليه: بعد ان مقتضى ذلك التفصيل بين ما لو لم ينفق عناداً رغم قدرته، وما لو لم ينفق عجزاً فان العاجز لا يصدق عليه انه مضار عرفاً ولا دقةً لظهور الفعل مطلقاً في العمد والقصد بل ان ظهور (مضارّ) وهو من باب المفاعلة كما اختاره الميرزا النائيني، وقيل غيره مما سيأتي، في العمد والقصد أقوى من ظهور مطلق الفعل في ذلك، إضافة إلى ان من الواضح ان العامد القاصد القادر يكون كسمرة مضاراً دون الحاجز، أنه([3]) لا فرق، لدى التحقيق، بين (لا ضرر) و(لا ضِرار) في شمول المقام وعدمه فان شمله الثاني شمله الأول وإن لم يشمله الأول لم يشمله الثاني، إلا بتكلّفِ سَوْقهما بعصيين وارتكاب التأويل في الأول دون الثاني، مع انه لا وجه له فاما ان يؤوّلا معاً فلا يشمل أي منهما المقام واما ان لا يؤوّلا فيشمل كل منهما المقام. بيانه:
ان (لا ضرر) أوّلها بـ(لا حكم ضررياً) وأبقى (لا ضرار) على ظاهرها أو أوّلها بـ(لا فعل ضرارياً)، مع انه ينبغي إما ان يُبقي كليهما على ظاهره، فلا ضرر ولا ضِرار كلاهما متعلق بنفس الضرر والضرار من غير تقدير حكم، أو يقدر في كليهما الفعل: (لا فعل ضررياً ولا فعل ضرارياً) أو يقدر في كليهما الحكم: لا حكم ضَررياً ولا حكم ضِرارياً أي لا حكم يكون مضراً من طرف واحد ولا حكم يكون مضراً من الطرفين أي لا حكم موجِباً ـ توليدياً، وبالواسطة كما قال، لأٍضرار شخص بآخر، ولا حكم موجباً لمضارّة أحدهما للآخر.
وعلى أي فقد فسر لا ضرر بلا حكم ضررياً ولا ضِرار بلا فعل ضرارياً، ولو عكس بان فسر لا ضرر بلا فعل ضررياً ولا ضرار بلا حكم ضِرارياً لانعكس الأمر.
ويوضحه جلياً ان ما قاله في (لا ضرر) ينطبق على (لا ضِرار) تماماً، مع إحلال جملة لا ضِرار محل جملة لا ضرر، قال: (ان حديث نفي الضرر إنما يجري في نفي الحكم الذي يكون بقاؤه مولِّداً للضرر، بحيث كان الضرر مسبَّباً توليديّاً للحكم، أمّا مع فرض كون الضرر آتياً من عدم قيام الزوج بحقوقها، فلا يكون مسبباً إلا عن الزوج، لا من الحكم الشرعي)([4]) وأنت ترى انه لو أبدل قوله (الضرر) في (أمّا مع فرض كون الضرر آتياً...) إلى (الضِّرار) لكان الأمر كذلك ولما تغير من الجملة شيء أبداً وظهر لك ان وِزانهما من حيث إشكاله بعدم الشمول، واحد، وكذا قوله: (وهذا بخلاف ما نحن فيه مما لا يكون الحكم الشرعي فيه إلا محض عدم وجوب الطلاق عليه كي يكون الإضرار بالزوجة امتثالاً له، ليكون هو سبباً توليدياً للإضرار بها)([5]) فضع مكان (الإضرار بالزوجة) (المضارة بها) تجد وِزانهما واحداً بوضوح.
الاستدلال بروايات الشفعة وفضل الماء على شمول لا ضرر للعدميات
ولنعُدْ إلى سائر كلمات الميرزا النائيني في عدم شمول لا ضرر للعدميات.
قال: (ولا يقال: انّ ورودها([6]) في مورد "الشفعة"، وفي مورد "منع فضل الماء"، بل في قضية "سمرة"، كاشف من حكومتها على الأحكام العدمية؛ فانّ مفادها في هذه الموارد نفي عدم ثبوت حقّ للشريك، ونفي عدم ثبوت حقّ لصاحب المواشي، ونفي عدم ثبوت حقّ للانصاري، وعدم تسلطه على قلع العذق)([7]).
وحاصل الإشكال هو انه: استدل بعض الأعلام على شمول لا ضرر للعدميات بروايات الشفعة وفضل الماء؛ إذ ان النبي صلى الله عليه واله وسلم نفى عدم ثبوت حق للشريك بالأخذ بالشفعة، ببركة لا ضرر، فاثبتها به وهكذا نفى عدم حق لصاحب المواشي في فضل ماء بئر صاحبه، ببركة لا ضرر فاثبت الحق به أي رفع عدم الحق بلا ضرر، ونفيُ النفي إثبات.
ولكي يتضح هذا الاستدلال ثم جواب الميرزا عنه، ثم مناقشتنا للميرزا، لا بد من نقل نص الروايتين:
عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مَشَارِبِ النَّخْلِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ نَفْعُ الشَّيْءِ، وَقَضَى صلى الله عليه واله وسلم بَيْنَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ مَاءٍ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ كَلَإٍ، وَقَالَ: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ))([8]) وعن محمد بن عبد الله بن هلال عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم بِالشُّفْعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْأَرَضِينَ وَالْمَسَاكِنِ، وَقَالَ: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ، وَقَالَ: إِذَا رُفَّتِ الْأُرَفُ وَحُدَّتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ))([9]).
وظاهر رواية فضل الماء وإطلاقها انه لو حفر بئراً أو استنبط نبعاً أو شق جدولاً إلى بستانه، فزاد ماؤها عن حاجته، فانه لا يجوز له ان يمنع فضل مائه عن جاره، وقد اختلف العلماء في هذا الحكم، فالتزم بعضهم بظاهر الروايات وحكم بحرمة منع فضل الماء ولكن هؤلاء اختلفوا إلى قولين:
الأول: انه مع حرمة منع مائه عن جاره فانه ليس له ان يأخذ مالاً مقابل بذل المال له (فالحكمان التكليفي والوضعي متطابقان)
الثاني: انه يحرم عليه منعه ولكن له أخذ ثمنه منه مقابل ذلك؛ إذ الوضعي ينفك عن التكليفي، وذلك كما لو اضطر غني إلى أكل طعام جاره وإلا مات فان جاره يجب عليه إعطاؤه له ولكن يجوز له أخذ ثمنه منه.
وذهب بعض آخر إلى حمل الروايات على النهي التنزيهي وعلى كراهة ذلك، ولعله المشهور.
وفي جامع الشرائع لابن سعيد قال: (ويستحب بذله للمحتاج بلا عوض، وقيل: يجب بذله بلا عوض، وقيل: بالعوض)([10]).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه محمد بن الحنفية: ((يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالِاتِّكَالَ عَلَى الْأَمَانِيِّ فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى([11]) وَتَثْبِيطٌ عَنِ الْآخِرَةِ)) (من لا يحضره الفقيه: ج4 ص384).
-------------------------------------------------
([1]) إن لم يمكنه إجباره.
([2]) تعليقة الشيخ حسين الحلي، قاعدة لا ضرر، تقريرات الخوانساري للاضرر الميرزا النائيني: ص187.
([3]) جواب يرد عليه.
([4]) تعليقة الشيخ حسين الحلي، قاعدة لا ضرر، تقريرات الخوانساري للاضرر الميرزا النائيني: ص186.
([5]) تعليقة الشيخ حسين الحلي، قاعدة لا ضرر، تقريرات الخوانساري للاضرر الميرزا النائيني: ص187.
([6]) لا ضرر.
([7]) قاعدة لا ضرر، تقريرات الخوانساري للاضرر الميرزا النائيني: ص182.
([8]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج5 ص293.
([9]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج5 ص280.
([10]) يحيى بن سعيد الحلي، الجامع للشرائع، مؤسسة سيد الشهداء عليه السلام: ج1 ص376ـ 377.
([11]) النوكى: الحمقى.
|