بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(253)
مناشئ الضرر الخمسة
وبعبارة أخرى: الضرر اما ان ينشأ من الحكم الوضعي واما ان ينشأ من الحكم التكليفي، واما ان ينشأ من فعل المكلف وإرادته وسوء اختياره مع رجوعه إلى الحكم الشرعي المجعول فعلاً([1]) أو بدون رجوعه إليه، فالصور أربعة([2]):
ان يكون الحكم الوضعي منشأً للضرر
أما الأولى: فكما مضى.
ان يكون الحكم التكليفي منشأً له
وأما الثانية: كما لو كان الحكم ببينونتها منه لانكشاف كونها مرتضعةً معه احدى عشرة رضعة مثلاً بناء على محرِّميتها، ضررياً عليها، لوضوح ان نفس الحكم ضرري عليها أشد الضرر، وليس كونه ضررياً معلقاً على امتثالها وفعلها الخارجي وعدمه، غاية الأمر ان ذلك قد يزيدها ضرراً على ضرر، وكذلك الحكم بحرمتها عليه إذ نسي طواف النساء مثلاً، فان نفس هذا الحكم منشأ الضرر النفسي والاجتماعي والعائلي الشديد جداً، عليها.
ان يكون الحكم الشرعي منشَأَ منشأِ الضرر
وأما الثالثة: فكما في الوضوء الضرري والصوم الضرري وهكذا، فان منشأ الضرر الوضوء نفسه لكن منشأ فعل المكلف له وقيامه الوجوب وهو واضح جداً قال المحقق الشيخ الحلي: (ويجاب عن هذا الاعتراض: بأن هذا الاختيار من المكلّف – أعني إرادته الوضوء أو الصوم – لما كان ناشئاً عن ذلك الوجوب كان الضرر مستنداً إلى الوجوب، فكان هو الموقع للمكلّف في الضّرر، فكان الوجوب سبباً توليدياً للضرر، وكان الضرر مسبَّباً توليدياً عن ذلك الوجوب. فكان حينئذٍ يصحّ ان يقال: أنّ ذلك الوجوب مضّر بالمكلّف، وبذلك يكون مرتفعاً)([3]) ولا كلام في ذلك، إنما الكلام كل الكلام في الصورة الآتية:
ان لا يكون الحكم الشرعي منشأً للضرر، حتى طولياً
وأما الرابعة: فالمعروف، وكما مضى، ان فعل المكلّف إذا كان ضررياً، وقد صدر منه بسوء اختياره أو بجهل أو نسيان أو غفلة أو في حالة نومٍ أو شبه ذلك، فانه إذا لم يكن مسبّباً توليدياً عن حكم الشارع، بان لم يكن الباعث له على اختياره الفعلَ هو الشارع، فان لا ضرر لا يرفعه؛ لأن لا ضرر حكم شارعي والشارع يرفع ما ينتسب إليه من الضرر ولو بواسطة ولا يرفع مطلق الضرر حتى غير المنتسب إليه بوجهٍ؛ ألا ترى انه لا يصح القول بان الزوجة تجب عليها نفقة الزوج إذا كان فقيراً محتاجاً وكان عدم إنفاقها عليه ضررياً عليها استناداً إلى لا ضرر ولا ضرار في الإسلام؟ وألاترى انه لا يصح القول بان عدم إنفاق الغني على الفقير حيث انه ضرري عليه – على الفقير – لحاجته إلى إجراء عملية جراحية أو إلى شراء دار أو شبه ذلك، ولا ضرر ولا ضرار، فيجب على الأغنياء سدّ حاجات كل الفقراء زائداً على ما وجب عليهم بالنص من خمس وزكاة، فيجب عليهم الأكثر من ذلك ببركة لا ضرر كلما كان عدم إنفاقهم عليهم ضررياً عليهم؟
والوجه في ذلك ما مضى من ان (لا ضرر...) الصادر من المشرِّع ينفي صدور أي ضرر منه، ولا ينفي الأضرار الصادر من الناس بسوء اختيارهم، فان (الفقير) إنما افتقر وتضرر اما لتقاعسه عن الدراسة أو لكسله عن العمل، أو لفشله في التجارة بسوء تدبيره، أو لسرقة سارقٍ لمالِه أو لغصبِ غاصب، أو لمنع الحكومات الجائرة له عن حيازة المباحات أو لأخذها الضرائب منه أو لعدم تقسيم بيت المال على الفقراء مع انه لهم، أو لشبه ذلك، وكل هذه الاسباب ليست من الشارع (بل انه شرّع كل ما ينبغي) فليس عليه إيجاب فوق الخمس والزكاة على الأغنياء ليرتفع ضرر الفقراء([4]). هذا
التحقيق: التفصيل بين صورتين
ولكن التحقيق يقود إلى التفصيل وان هنالك صورتين:
لا ضرر لا تشمل ما نشأ من عدمِ حكمٍ لم يكن شأن الشارع تشريعه
الأولى: لا تشملها لا ضرر لما مضى من انه كان بسوء اختيار المكلّف ولم يكن يعود ذلك إلى، طولياً، إلى حكم الشارع.
وتشمل ما نشأ من عدمِ حكمٍ كان شأن الشارع تشريعه
الثانية: ما كان بسوء اختياره ولكنه عاد إلى الشارع لا فعلاً بل شأناً وهذه هي الصورة الخامسة وهي غير ما سبق من تولّد الضرر من إرادته الناشئ من الحكم الشرعي الفعلي بالوجوب مثلاً في مثال الوضوء الضرري وقد مضت الإشارة منّا إلى هذه الصورة الخامسة: (وفيه تأمل يندفع بقيد (ممن مِن شأنه عرفاً أو شرعاً ذلك الفعل أو عدمه) لئلا ينقض بعدم وجوب إنفاقها عليه وبعدم وجوب بذل الغني أمواله للفقراء، زائداً على الزكاة وشبهها، وإن كان عدم الإنفاق والبذل ضررياً عليهم)([5]).
وتوضيحه: ان الضرر قد ينشأ، ولو طولياً، لا من حكم فعلي للشارع (وجودي أو عدمي) بل مما كان ينبغي عرفاً أو شرعاً([6])، على الشارع الحكم به ولم يحكم، فانه يصح إسناد الضرر، طولياً، إليه؛ ألا ترى انه ينبغي عرفاً ان يحكم الشارع بوجوب النفقة على الزوج فإذا لم يحكم فلم ينفق عليها، استند الضرر إليه وإن كان معلولاً توليدياً مباشرة لعدم إرادة الزوج الإنفاق عليها، لكنه مآلاً استند إلى عدم حكم الشارع بما كان ينبغي عليه الحكم به، وهذا بخلاف مثال الغني والفقير ومثال نفقة الزوجة على الزوج السابقين، والفارق الانبغاء والاقتضاء شأناً وعدمه.
وبعبارة أدق: (ان عدم حكم الشارع) إن كان مما ينبغي عليه ان يحكم به، فانه يستند الضرر إليه إن لم يحكم (وهذه الصورة الخامسة) وإن لم يكن ينبغي عليه الحكم به، فانه لا يستند الضرر إليه من عدم حكمه به (وهذه الصورة الرابعة).
والحاصل: انه لا يصح إطلاق القول بان سوء إرادة العبد لو كانت هي المنشأ للضرر لما وجب على الشارع ان يشرع ما يرفع به ضرر المتضرر (والمقصود بالرفع رفعه الاقتضائي في عالم التشريع) بل ذلك خاص بما لم يكن من شأنه إنشاء حكم فيه، وإلا للزم القول بان كسر زجاج الغير، غير موجب لحكم الشارع بالضمان، لأن الضرر على الجار من كسر زجاجه نشأ من سوء إرادة الكاسر ولم ينشأ من عدم الحكم الشرعي بالضمان، وجوابه ان عدم تحريم الشارع لكسر زجاج الغير، ينشأ منه الضرر الاقتضائي في عالم التشريع وإن كان منشأ الضرر المباشر هو إرادة الكاسر، وذلك([7]) لكونه من شأنه ان يحرّمه.
مناقشة مع المحقق الحلي
وبذلك يظهر وجه الإشكال على ما ذكره المحقق الشيخ حسين الحلي من: (وهذا بخلاف ما نحن فيه مما لا يكون الحكم الشرعي فيه إلّا محض عدم وجوب الطلاق عليه كي يكون الإضرار بالزوجة امتثالاً له، ليكون هو سبباً توليدياً للإضرار بها)([8]) إذ يرد عليه: إضافة إلى ان عدم وجوب الطلاق عليه شرعاً حتى لو لم ينفق عليها، قد يكون هو العلة المعدّة والسبب المجرِّئ له لكي يمتنع عن الإنفاق عليها بحيث لو علم انه لو لم ينفق عليها لوجب عليه شرعاً طلاقها، فانه كان سينفق عليها([9])، ان الضرر وإن لم ينشأ ـ فرضاً ـ من محض عدم وجوب الطلاق عليه، كما قاله، لكنه نشأ من حكم آخر للشرع وهو حكمه باستمرار الزوجية حتى مع عناد الزوج بعدم الإنفاق أو من حكمه بعدم صحة ان يطلق الحاكم الشرعي حينئذٍ، فان الـمُضِرّ بها حينئذٍ ليس صِرف عدم إنفاق الزوج عليها إذ لو لم ينفق عليها ولكن أجاز الشرع للحاكم طلاقها لتخلصت من الضرر بالطلاق وبالزواج من غيره ممن ينفق عليها مثلاً، بل المضر بها مجموع عدم إنفاق الزوج عليها وعدم تجويز الشارع للحاكم طلاقها، فعدم حكم الشارع بجواز طلاق الحاكم الشرعي، مما كان من شأنه عرفاً الحكم به، ضرري عليها فترفعه لا ضرر أي ترفع عدم جواز طلاق الحاكم لها فتفيد الجواز كما سبق من شمول لا ضرر للعدميات، أو يقال: ان عدم إنفاقه عليها واسطة في ثبوت الضرر لاستمرار الزوجية، كما فصّلناه سابقاً.
مناقشة أخرى: (الطلاق بيد من أخذ بالساق) يفيد السلطنة على العدم
هذا إضافة إلى الإشكال على اصل مبناه الذي صار إليه، وبنى عليه هذا الكلام (وهو: مما لا يكون الحكم الشرعي فيه إلا محض عدم وجوب الطلاق عليه) والمبنى هو قوله (والجواب عنه: بأن المستفاد من قوله عليه السلام ((الطَّلَاقُ بِيَدِ مَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ))([10]) ليس جعل السلطنة للزوج على كل من الوجود والعدم، بل لا يتعدّى ذلك عن كون إيجاد الطلاق من حقوق الزوج الخاصة، وأنّه لو أوجده لكان ولا مانع له فيه، حتى لو تضررت الزوجة بطلاقها منه بواسطة بعض الطوارئ، وأما عدم الطلاق فليس هو إلا أنه ليس بواجب عليه، فتدخل المسألة...)([11]) وهو غير تام لوضوح ان المستفاد عرفاً من ((الطَّلَاقُ بِيَدِ مَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ)) السلطنة على الطلاق وعدمه فهذا المستفاد عرفاً قطعاً والعجيب منه إنكاره، على انه لو كان مفاده السلطنة على الفعل (فانه معنى انه حقه)، لأفاد السلطنة على الترك قهراً لأن السلطنة والقدرة لا تعقل إلا بالسلطنة على الطرفين، فتدبر جيداً.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((إِنَّ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَفَقَّهُوا، وَمِنَ الْفِقْهِ أَنْ لَا تَغْتَرُّوا، وَإِنَّ أَنْصَحَكُمْ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُكُمْ لِرَبِّهِ، وَأَغَشَّكُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاكُمْ لِرَبِّهِ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ يَأْمَنْ وَيَسْتَبْشِرْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ يَخِبْ وَيَنْدَمْ))
(الكافي: ج1 ص45).
----------------------------------------------
([1]) أو غير المجعول فعلاً مع عدم كونه من شأنه ان يجعله الشارع.
([2]) وسيأتي لها خامس وهو (... مع رجوعه إلى الحكم الشرعي غير المجعول فعلاً مع كون شأنه جعله).
([3]) تعليقة الشيخ حسين الحلي، قاعدة لا ضرر، تقريرات الخوانساري للاضرر الميرزا النائيني: ص187.
([4]) قال بعض الأفاضل: ان لا ضرر الفقير (بعدم إنفاق الغني عليه) معارَض بلا ضرر الغني (بإنفاقه عليه)، فهذا وجه عدم إيجاب الشارع على الأغنياء الأكثر من الخمس والزكاة (وهو سابق رتبةً على جوابكم بانه لم يكن مما ينبغي من الشارع تشريع الأكثر من الخمس والزكاة، فلا يسند إليه الضرر من عدم تشريعه والحال هذه) وقد يجاب أولاً: بان العرف لا يعد الإنفاق ضرراً وإن كان دقةً كذلك خاصة مع تفسيره بالنقص، والمدار العرف في الموضوعات. ثانياً: سلّمنا لكنه لا إطلاق له إذ ضرر الفقير بعدم الإنفاق عليه لحاجاته اللازمة أشدّ جداً من ضرر الغني بإنفاقه من فضل ماله، فلا يعارض هذا ذاك كمطلق دوران الأمر بين الأهم والمهم في باب التزاحم (فانه منه لا من التعارض).
([5]) الدرس (252).
([6]) بما علم من رحمته وحكمته مثلاً.
([7]) تعليل لـ(ينشأ منه).
([8]) تعليقة الشيخ حسين الحلي، قاعدة لا ضرر، تقريرات الخوانساري للاضرر الميرزا النائيني: ص187.
([9]) فتأمل.
([10]) ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء عليه السلام ـ قم: ج1 ص234.
([11]) تعليقة الشيخ حسين الحلي، قاعدة لا ضرر، تقريرات الخوانساري للاضرر الميرزا النائيني: ص186.
|