بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(411)
سبق: (المطلب الأول: ان هناك وجهين لبطلان المعاملة المحلَّلة ذاتاً التي أفتى الفقيه بحرمتها أو حكم بها:
الأول: انها تدخل، بفتواه، في دائرة الباطل فتشملها الآية الشريفة (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).
الثاني: ان سلطنة المكلف على أمواله، بإجراء المعاملات عليها ونقلها و...، مقيدة بعدم ردع الولي عنها ومخالفته لها بناء على القول بولاية الفقيه المطلقة وشمولها لمثل ذلك، وعلى عدم نهي من تعاهدوا معه بناء على شمول العهد لمثل ذلك، والشمول خاص بما لو كان الشأن شأناً عاماً اللهم إلا لو نصّ على شموله لغيره أيضاً)([1]). كما سبق:
(المطلب الثاني: انه إن لم نقل بثبوت ولاية للفقيه ولا قلنا بوجود عهد بين الطرفين (المرجع والمقلِّد) ولو بالوضع التعيّني، فان فتاواه بل أحكامه لا تكون حينئذٍ ملزماً مولوياً للمقلِّد بل يكون حاله كحال أي مرشدٍ ومعلّم آخر. والمرجع وجوه فتواه دون الفتوى نفسها)([2])
فتوى الفقيه بحرمة معاملة لا تستلزم بطلانها
المطلب الثالث: انه إن لم نقل بولايةٍ للفقيه (وغيره) على المكلف في معاملاته، ولا قلنا بعهدٍ بينهما يشمل المعاملات، فان فتوى الفقيه بحرمة معاملةٍ لا يستلزم بطلانها بناءً على المشهور من عدم التلازم بين الحكمين الوضعي والتكليفي؛ فانه لا دليل عليه وتدل على عدمه الأدلة العديدة، وقد التزم المشهور بحرمة البيع وقت النداء دون بطلانه، رغم ان مستند الحرمة قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)([3]). فتأمل وقد مضى بعض الكلام في ذلك.
الفتوى إخبار عن الحكم وليست إنشاء
المطلب الرابع: ان الفقيه بناء على الولاية مُنشِئ للحكم بالمنع والحرمة وكذا على العهد، لكنه على الفتوى مُخبِر فقط، وتوضيحه: ان فتوى الفقيه ليست إنشاء بل هي مجرد إخبار عن الحكم الشرعي حسبما استنبطه من الأدلة، ويرشد إلى ذلك العقل والنقل:
اما النقل؛ فلأن الفتوى ليست إلا بيان الحكم كما صرح به اللغويون قال في مجمع البحرين (وأَفْتَانِي في المسألة: بيّن حكمها) وقال: (فَاسْتَفْتِهِمْ) سلهم واستخبرهم من استفتيته سألته ان يفتي)([4]) فهو طلب إخبار لا طلب إنشاء.
وقال في معجم مقاييس اللغة: (فَتَى: الْفَاءُ وَالتَّاءُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى طَرَاوَةٍ وَجِدَّةٍ، وَالْآخَرُ عَلَى تَبْيِينِ حُكْمٍ.
الْفَتِيُّ: الطَّرِيُّ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْفَتَى مِنَ النَّاسِ: وَاحِدُ الْفِتْيَانِ. وَالْفَتَاءُ: الشَّبَابُ، يُقَالُ فَتًى بَيِّنُ الْفَتَاءِ. قَالَ (الربيع بن ضبع الفزاري):
إِذَا عَاشَ الْفَتَى مِائَتَيْنِ عَامًا ... فَقَدْ ذَهَبَ الْبَشَاشَةُ وَالْفَتَاءُ
وَالْأَصْلُ الْآخَرُ الْفُتْيَا. يُقَالُ: أَفْتَى الْفَقِيهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، إِذَا بَيَّنَ حُكْمَهَا. وَاسْتَفْتَيْتُ، إِذَا سَأَلْتَ عَنِ الْحُكْمِ، قَالَ اللَّهُ تعالى (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ)([5]) وَيُقَالُ مِنْهُ فَتْوَى وَفُتْيَا)([6]).
وعليه: فقوله عليه السلام ((اجْلِسْ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَأَفْتِ النَّاسَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي شِيعَتِي مِثْلُكَ))([7]) لا يفيد أكثر من الأمر ببيان الأحكام للناس، نعم مستند هذا البيان قد يكون الاستنباط والاجتهاد.
واما العقل؛ فلأن الفتوى عبارة عن حس وحدس، أما الحس فهو ما رآه وقرأه أو سمعه من الآية أو الرواية، وأما الحدس فهو ما أعمله من القوة في فهم الحاكم والمحكوم والوارد والمورود عليه والعام والخاص والراجح من المرجوح وهكذا، وبذلك يظهر فرقه عن الراوي فان الراوي مجرد مخبِر عن حس اما المجتهد فتتركب فتواه أو تتولّد من مزيج حسٍ وحدسٍ.
ولا مولوية للمفتي بما هو مفتي
وعليه: فاجتهاد الفقيه وفتواه هي كاجتهاد الطبيب وفتواه (والفارق في المتعلَّق فقط) وكما لا مولوية لأمر الطبيب بالعلاج اللازم لهذا المرض ولا فوقية له فكذلك لا مولوية لفتوى الفقيه إنما هي صِرف الطريقية والإرشاد.
ويؤكّده: ان أدلة حجية الفتوى([8]) لا تدل على أكثر من لزوم إتباع المؤدى، ولا تفيد ان لفتواه جهة المولوية ولا جنبة الفوقية من حيث كونه صادرةً عنه الفتوى؛ ألا ترى ان قوله تعالى: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)([9]) لا تفيد إلا لزوم إنذار الفقيه قومه، بما سمعه من الأحاديث أو فهمه واستنبطه منها، وان عليهم الحذر حيث رأوا بمرآة الفقيه الحكمَ والواقعَ، لا ان لشخصه مدخليةً وجهةَ مولويةٍ في لزوم الانقياد، فالانقياد إنما هو لما رأوه بكلامه، لا له بما هو مولى.
والأمر أوضح بناء على استفادة حجية الفتوى من بناء العقلاء، كما عليه جمع من العلماء، لا من الدليل النقلي؛ فان الفقيه يكون حينئذٍ كأيّ أهل خبرة آخر ولا يرى العقلاء لقول أهل الخبرة إلا جهة الإرشاد دون المولوية، فهذا بعض الكلام عن الكبرى (وان فتوى الفقيه بالحرمة مستلزمه للحكم الوضعي بالبطلان أو لا؟ واما الصغرى فقد سبق الاستدلال على ان العلاقة بين الفقيه والمقلدين قد يقال بانها علاقة معاهدة طَرَفَينية، وسبق ان وجوب إطاعتهم له يقابله وجوب جمعه لأمرهم، كما دلت عليه رواية سليم بن قيس المعتبرة، وتدل على ذلك أيضاً روايات أخرى:
الاستدلال بكلام الأمير عليه السلام على تقابل الحقوق
فمنها: قوله عليه السلام في نهج البلاغة: ((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ وَالنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ وَالْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ))([10]).
والتقابل في الرواية صريح بين حقوقهم عليه عليه السلام وحقوقه عليه السلام عليهم وان (فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ...) تقابلها (وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ وَالنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ وَالْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ).
ولكن الاستدلال بذلك موقوف على أمور:
فقه قوله عليه السلام ((لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً))
الأول: فقه قوله عليه السلام (لِي عَلَيْكُمْ) فان تعدية هذا الحكم والتقابل، منه عليه السلام إلى سائر الفقهاء لا بد فيه من دليل، وهو موقوف على تحليل وجه قوله عليه السلام (إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ) والمحتمل فيه أحد أمور أربعة:
1- أنّ له بما هو إمام، هذا الحق.
2- أنّ له بما هو وليّ، هذا الحق.
3- أنّ له بما انهم بايعوه، هذا الحق.
4- أنّ هذه الحقوق لهم عليه بما هي واجبات كفائية.
أما على الأول: فثبوت تلك الحقوق على الفقيه بالأولوية القطعية المسلّمة فانه إذا وجب عليه عليه السلام النصيحة لهم وتوفير فيئهم... وفي مقابله وجبت إطاعتهم له، فكيف تجب على الناس إطاعة الفقيه من دون ان يجب عليه النصيحة لهم وتوفير فيئهم و...؟ بل لو لم يفعل سقط على العدالة فلا تجب إطاعته البتة.
وأما على الثاني: فلأنه لو كان له عليه السلام الحق عليهم بالإطاعة بما هو ولّي، لشمل الفقيه (على فرض القول بشمول الولي له) فكانت الحقوق فيه متقابلة استناداً إلى عموم المراد من (لي) وانه كان من باب المصداق لا الخصوصية (إذ هذا هو مبنى الوجه الثاني). وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((مَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوهَ الْآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَإِ)) (تحف العقول: ص88).
------------------------------------------------------------------------------------------------
([1]) الدرس (410).
([2]) الدرس (410).
([3]) سورة الجمعة: آية 9.
([4]) الشيخ فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، انتشارات مرتضوي: ج1 ص326.
([5]) سورة النساء: آية 176
([6]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، الناشر: دار الفكر: ج4 ص473-474.
([7]) أحمد بن علي النجاشي، رجال النجاشي، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ص10.
([8]) والكلام عنها وليس عن أدلة ولاية الفقيه أو أدلة إلزامية العهد، فانها أمر آخر.
([9]) سورة التوبة: آية 122.
([10]) نهج البلاغة: خطبة 34.
|