بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(399)
إشكال نقضي: (عمل العامي([1]) باطل) تخطئة مطلقة
تتمة: سبق: (وقد يدعي القائلون بتعدّد القراءات انها نظير تعدد الاجتهادات فكيف جوّزتم الأخير ولا تجوّزون ما نقول؟)([2]) و(وعلى أي فان فرق تعدّد القراءات بهذا المعنى عن تعدّد الاجتهادات واضح؛ إذ لا نقول بصحة جميع الاجتهادات بل نقول بان احدها المصيب (إن طابق) وغيره خاطئُ وإنما هو معذِّر أي انه لا يستحق العقاب بمخالفته الواقع مادام قاصراً، لا انه مصيب أيضاً ونقيضه مصيب أيضاً!)([3]).
ولكن قد يعترض على ذلك بوجه آخر وهو: أنّ الإشكال وارد عليكم في (التقليد) وإن لم يَرِد عليكم في (الاجتهاد) وهو أنّه كما أوردتم على القائلين بتعدد القراءات المدّعين لصحتها جميعاً ثبوتاً بانه تصويب غير معقول فانه يَرِد على ما التزمه الفقهاء من (عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل)([4]) أنها تخطئة غير معقولة، إذ كما لا يعقل إصابة جميع المتضادات والمتناقضات، لا يعقل خطأها جميعاً؟
الجواب: المراد انه باطل واقعاً إذا خالف الواقع، أو ظاهراً في مقام الامتثال
والجواب هو أن المراد من (باطل) أحد أمور ثلاثة:
الأول: انه باطل إذا خالف الواقع، ولا يراد انه باطل مطلقاً وإن طابقه.
الثاني: انه باطل إن لم يتمشَّ منه قصد القربة في العبادات أو قصد الإنشاء في المعاملات.
الثالث: انه باطل ظاهراً أي انه لا يُكتفى به – عقلاً – في مقام الامتثال، وانه لو طابق الواقع فهو صحيح ثبوتاً، ولا يكون منه حينئذٍ إلا التجري([5])، ولكنه، في حكم العقل وبناء العقلاء لا يصح له الاكتفاء في إطاعة أمر المولى بفعل ما يجهل انه هل يمتثل به أمره أم لا؛ لأن الفرض انه ليس بمجتهد ولا محتاط وانه لم يقلِّد فهو على هذا لا يعلم حقيقة أمر المولى وشروطه وقيوده أي لا يعلم ما الذي أمر به حقيقة فكيف يمتثل؟ فإذا فعل شيئاً باحتمال انه هو مراده لم يكفه عقلاً.
والحاصل: ان قوله (باطل) لا يراد به انه باطل مطلقاً، بل إنّه إما ان يراد به أنّه باطل ثبوتاً فيكون المراد إن خالف الواقع، أو باطل إثباتاً فيكون المراد انه لا يصح له الاكتفاء به في مقام الامتثال.
وقد صرح محشوا العروة الوثقى والمعلقون عليها من الأعلام، اما بالوجه الأول أو به وبالثاني أو صرحوا بالوجه الثالث، أي إنهم بين من حمله على الباطل الواقعي ومن حمله على الباطل الظاهري.
قال الميرزا النائيني والكلبايكاني: (إذا خالف الواقع، أو كان عبادةً ولم يتمكن من قصد القربة لتزلزله وجهله. النائيني، جمال الدين الكلبايكاني)([6]) فقد فسر الباطل بالواقعي، وقد أضفنا قصد الإنشاء في المعاملات لأن وزانه وزان قصد القربة في العبادات من حيث إمكانه وعدمه مع تزلزله.
وقال السيد المرعشي: (ظاهراً بنظر العقل في مقام الامتثال، فلا يجوز الاكتفاء به والاقتصار عليه في الاطمئنان بالبراءة والأمن من العقوبة ما لم تنكشف صحة العمل، وأمّا لو انكشفت مطابقة عمله مع الواقع أو مع فتوى من يجوز تقليده فلا ريب في الصحة. المرعشي)([7]).
وقال السيد الخوئي: (بمعنى انه لا يجوز الاقتصار عليه في مقام الامتثال ما لم تنكشف صحته. الخوئي)([8]).
وقال السيد الحكيم: (بمعنى انه أنّه لا يجتزئ به حتى يعلم أنّه صحيح بنظر المجتهد الذي يقلِّده بعد العمل. الحكيم).([9])
وقال السيد العم: (إلا مع مطابقته لفتوى من يجوز له تقليده فعلاً على الأحوط بل أو حين العمل).
وقد وسع السيد الجدّ ففسره بالمعنيين وعليهما قال: (ما لم ينكشف مطابَقته لتكليفه واقعاً أو ظاهراً بالاجتهاد أو التقليد. مهدي الشيرازي)([10]).
وحاصله: انه إذا انكشفت مطابقته لتكليفه الواقعي، فهو صحيح واقعاً، وإذا انكشفت مطابقته لتكليفه الظاهري فهو صحيح ظاهراً، أي انه مبرئ للذمة ويكتفى به في مقام الامتثال، واما واقعاً فان لم يكن مطابقاً واقعاً فهو باطل واقعاً لكنه لا أثر له حيث لم يعلم به وحيث عمل على طبق الحجة الشرعية وهي الاجتهاد والتقليد، وقريب منه ما التزمه الميرزا عبد الهادي الشيرازي من (إن لم يطابق الواقع، أو فتوى من يجب عليه تقليده. عبد الهادي الشيرازي)([11]).
وقد وسّع السيد الوالد الدائرة أكثر بقوله: (عقلاً إلا إذا طابق الواقع، أو فتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حين العمل، أو المجتهد الذي يجب عليه تقليده في الحال. محمد الشيرازي)([12]).
وقال السيد السيستاني: (بمعنى أنّه ليس له ترتيب الأثر المرغوب فيه المترتّب عليه على فرض كونه صحيحاً ما لم تقم حجة على صحته، سواء كان مما يؤتى به بداعي تفريغ الذمة، أو كان مما يتسبب به إلى الحكم الشرعي، كالمعاملات وأسباب الطهارة الحدثيّة والخبثيّة والذبح، لا بمعنى انه باطل واقعاً أو تنزيلاً بلحاظ جميع الآثار، فإنّه ليس له ترتيب الأثر الترخيصي الثابت على تقدير كونه فاسداً، مثلاً إذا باع شيئاً مع الشك في صحة البيع لم يجز له التصرف في المثمن، كما ليس له التصرف في الثمن، فعليه الاحتياط إن أمكن، أو تعلّم فتوى من يكون قوله حجّة في حقّه حين النظر في العمل المفروض، وعلى أساسه يبني على صحته أو فساده. السيستاني)([13]).
الفرق بين تغير المفهوم وتغير المصداق
ثم ان الحق هو ان الأحكام تعمّ المصاديق المتجدّدة ولا تعم المفاهيم المتجددة، وقد سبق إيضاحه وسيأتي مزيد بإذن الله تعالى، ولنمثل له بمثال لطيف وهو:
حرمة تشغيل الطفل إذا كان مضيعة لحقه
ان تشغيل الأطفال في معمل أو مزرعة أو غيرها يُعَدّ حالياً حسب بعض الأعراف وحسب قوانين عدد من الدول، باطلاً ممنوعاً عنه؛ إذ يرون فيه حرمانه من فرص التعلم والتطور إذ بتشغيله يبقى أمياً أو يحرم من الدراسة المتطورة التي بها يمكنه ان يكون طبيباً أو مهندساً أو شبه ذلك، فقد تطوّر إذاً تشغيل الأطفال من كونه صحيحاً وحقاً للوالدين إلى كونه باطلاً ممنوعاً عنه، وعليه: فيشمل التعاقد معه أو مع أبيه قوله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)([14]) فيكون باطلاً، ولو عَمِل له كانت عليه أجرة المثل دون المسمى.
والجواب: ان الموضوع قد يتغير أحياناً وبتبعه يتغير المصداق، وقد يتغير المصداق من دون تغير في الموضوعات، وقد يتغير المفهوم، والمقام من الأول، والمراد به ان يدخل أمر في موضوع بعد ان كان من دائرة موضوع آخر نظير دخول المكلف في عنوان المسافر بعد ان كان حاضراً فتشمله أحكامه حينئذٍ، من غير تغير في المفهوم ولا في المصداق نفسه، بل دخول المصداق في دائرة موضوع آخر.
وفي المقام فان المدار هو (الحق العرفي) فإن عدّ تعليم الطفل حقاً عرفاً في بلدٍ حَرُم تشغيله ووجب تعليمه مع تدافعهما لشمول أدلة الحق له مثل ((لِئَلَّا يَتْوَى حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِم))([15]) وإن لم يعد حقّاً عرفاً([16]) فلا.
والحاصل: ان مفهوم الباطل والحق لم يتطوِّر بل انهما بقيا على ما هما عليه من المفهوم([17]) إلا ان كون هذا حقاً أو باطلاً تغير أي ان المصداق تغير بانتقاله من موضوع إلى موضوع آخر – وسيأتي مزيد كلام حول تشغيل الطفل بإذن الله تعالى.
ونظيره ما أشكل به بعض على العلماء الذين حرموا التلفاز والمذياع ثم أجازوه إذ أشكل بان دين الله لا يتغير و((حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ حَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ...))([18]) فكيف غيّرتم الحكم؟
والجواب: ان التحريم كان لعنوان ثانوي فلما ارتفع ارتفع، وسيأتي توضيحه مع إضافة فأنتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((الدَّهْرُ يُخْلِقُ الْأَبْدَانَ وَيُجَدِّدُ الْآمَالَ وَيُقَرِّبُ الْمَنِيَّةَ وَيُبَاعِدُ الْأُمْنِيَّةَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ نَصِبَ وَمَنْ فَاتَهُ تَعِبَ)) (نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين: 71).
---------------------------------------
([1]) أي بلا اجتهاد ولا احتياط.
([2]) الدرس (397).
([3]) الدرس (397).
([4]) العروة الوثقى باب الاجتهاد والتقليد، مسالة 7.
([5]) فتأمل، والمراد التجري بمخالفة الطرق العقلائية لا بمخالفة المؤدى لفرض انه قد أصابه.
([6]) السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، العروة الوثقى والتعليقات عليها، مؤسسة السبطين العالمية: ج1 ص330.
([7]) المصدر نفسه: ج1 ص332.
([8]) المصدر نفسه: ج1 ص333.
([9]) المصدر نفسه: ج1 ص331.
([10]) المصدر نفسه.
([11]) المصدر نفسه.
([12]) المصدر نفسه: ج1 ص333.
([13]) المصدر نفسه: ج1 ص333-334.
([14]) سورة النساء: آية 29.
([15]) الشيخ الطوسي، الغيبة، مؤسسة المعارف الإسلامية – قم، 1411هـ، ص408.
([16]) ولا كان به مضراً.
([17]) ككون الباطل انتهاك حق الآخرين، ولم يتغير هذا المفهوم بل الذي تغير المصداق وان هذا لم يكن انتهاكاً لحقه – لأسباب – فصار انتهاكاً لأسباب أخرى (سيأتي توضيحها بإذن الله تعالى).
([18]) الكافي: ج1 ص58.
|