بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(218)
الاستدلال بـ(لا ضرر) على أبواب ثلاثة
الكلام تارة يقع عن مرجحات باب التزاحم ثبوتاً وأخرى يقع عن الأدلة على ذلك أي عن المرجحات إثباتاً، وقد سبق بعض الكلام عن المرجحات الثبوتية وقد فصّلنا الكلام عن بعضها وأوجزنا الكلام عن بعضها الآخر، وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيل ما بقي، كما أشرنا إلى احدى الأدلة على بعض المرجحات وهي السيرة العقلائية وتكلمنا عن بعض الأدلة على حجيتها بشكل مطلق أو على حجية أقسام خاصة منها.
وسيقع الكلام خلال هذا الشهر عن (لا ضرر) باعتباره من أدلة الترجيح في باب التزاحم، ولكي يكون البحث أعم فائدة نقول: ان قوله صلى الله عليه واله وسلم ((لَا ضَرَرَ وَ لَا ضِرَار))([1]) الوارد في رواية صحيحة الإسناد أو معتبرة الإسناد لدى البعض، كما سيأتي، يمكن الاستدلال به على أبواب ثلاثة أولها معهود لدى الفقهاء، وثالثها لم يتطرق إليه أحد فيما نعلم رغم أهميته، وأوسطها بينهما:
الاستدلال بلا ضرر على مختلف مسائل الفقه
الباب الأول: الاستناد إلى لا ضرر في مختلف أبواب الفقه كدليل على رفع الحكم الشرعي (أو إثباته وجعله أيضاً – على مبنى) وذلك مثل الاستناد إليه لعدم وجوب الصوم الضرري وعدم وجوب القيام أو الركوع الضرريين وانتقالهما إلى البدل الاضطراري وهو الجلوس والإيماء.. وكالاستناد إليه في جعل الفسخ بيدها أو الطلاق بيد الحاكم الشرعي، إذا لم ينفق عليها متعنتّاً أو حتى عاجزاً، وأشباه ذلك ونضيف: ان هناك مسائل فقهية هامة يمكن أيضاً، ولو على بعض المباني في لا ضرر، الاستناد فيها إليه، ومنها المعاطاة([2]) إذ قد يستدل بلا ضرر على إفادة المعاطاة الملك اللازم بدعوى ان عدم جعل الشارع لناقلية المعاطاة للملك نقلاً لازماً، ضرريٌّ ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام، بعبارة أخرى: إفادتها الإباحة أو الملك المتزلزل ضرري فلم يجعلهما الشارع بل جعل سببية المعاطاة للملك اللازم، وهذا مبني على ان لا ضرر منشئ للحكم وليس نافياً له فقط، وبوجه آخر: إلزام الناس باللفظ عند إرادة نقل الملك، ضرري عليهم أو هو موجب للعسر والحرج. وسيأتي بحث ذلك أخذاً ورداً في المعاطاة بإذن الله تعالى.
الاستدلال به على مرجحات باب التزاحم
الباب الثاني: الاستناد إلى (لا ضرر) في باب التزاحم – وهو محل الكلام – بان يستند إلى (لا ضرر) لإثبات مرجحية بعض المرجحات باعتبار ان عدم اعتباره مرجحاً ضرري، وذلك مثل (الترجيح بمحتمل الأهمية، والترجيح بقوة الاحتمال رغم ضعف المحتمل، وترجيح ما لا بدل له على ما له البدل لأن في عكسه الضرر إذ يفوّت بهما ما لا بدل له عَكْسَ ما لو عَكَسَ، وكذا ترجيح الأسبق فرضاً من الصلاتين أو النهيين عن المنكر استناداً إلى أنّ التأخير فيه آفات وأنّ فيه الضرر؛ إذ لو خيّرنا المكلف بين النهي عن المنكر اليوم أو غداً فاختار ثانيها فكثيراً ما يفوته الأمران: اما اليوم فلفرض ان له تأجيله وان المكلف كثيراً ما يؤجل، واما الغد فانه ما أكثر الذين يموتون قبله وما أكثر الذين يتهاونون ويخدعهم الشيطان لاحقاً، فمادام الآن مستعداً لامتثال التكليف فليكن عليه معيّناً إذ لو خُيّر فاختار الغد فان الشيطان يجد متسعاً من الوقت لتثبيطه، وقد ورد ما مضمونه (ان ضجيج أكثر أهل المحشر من التسويف) و((اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سُقْمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، يَا أَبَا ذَرٍّ، إِيَّاكَ وَالتَّسْوِيفَ بِأَمَلِكَ، فَإِنَّكَ بِيَوْمِكَ وَلَسْتَ بِمَا بَعْدَهُ))([3]).
الاستدلال به على مطلق الحجج
الباب الثالث: الاستناد إلى (لا ضرر) في مطلق الحجج، في الإثبات والنفي، كالقول بان جعل حجية خبر الفاسق ضرري و((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ))([4]) بل وفوق ذلك القول بان عدم جعل حجية الظواهر ضرري ولا ضرر ولا ضرار، فيستفاد من لا ضرر، بناء على انه منشئ للحكم، إنشاء الحجية، وكذا القول بان عدم جعل حجية خبر الثقة، أو عدم جعل حجية مطلق الظن على الانسداد، أو عدم جعل التخيير لدى التعارض أو عدم جعل حجية قول المفضول و... أمور ضررية، وانه لا ضرر ولا ضرار، بل يمكن الاستدلال بلا ضرر على كلا طرفي جعل حجية قول المفضول وعدم جعل حجيته اما الأول فلتفويته مصلحة أقربية رأي الأعلم للواقع وإيقاعه في المفسدة بنفس القدر من إتباع المفضول، واما الثاني فلإيقاعه في الحرج بل في الضرر على ما بيناه في (تقليد الأعلم وحجية قول المفضول).
ثم ان الاستدلال بلا ضرر على الباب الثالث موقوف على بحث أمرين:
الأمر الأول: شمول لا ضرر للعدميات.
الأمر الثاني: شموله للأحكام الوضعية.
وقد بحثهما العديد ممن تطرق من الفقهاء لـ(لا ضرر) لذلك فسنستعين بما ذكروه هنالك لبحث الباب الثالث مع تطويره أو تغييره بما يناسبه:
هل يعمّ (لا ضرر) الأحكام العدمية وينشئ الوجودية؟
الأمر الأول: هل يشمل لا ضرر العدميات؟
وكما سبق فان عدداً من الفقهاء بحثوا ذلك في ضمن بعض المسائل:
فقد طرح العلامة المامقاني في بشرى الوصول والمحقق النائيني المسائل التالية: لو حبس حرّاً فأبق عبده أو تلفت أمواله (لعدم قدرة المحبوس على حفظها وهو في المحبس) فهل يضمن الحابس استناداً إلى ان عدم ضمانه ضرري ولا ضرر ولا ضرار؟ فتكون لا ضرر منشئه للحكم وهي الضمان؟ وذلك خلافاً للمشهور القائلين بعدم الضمان، ولا يخفى ان المثال مجمع الاستناد للاضرر في العدميات وفي الأحكام الوضعية -.
أقول: وتطوير المثال: بان الظالم لو سجن بريئاً (وما أكثر السجناء المظلومين في الحكومات الجائرة) فلا شك ان الحاكم وكل من وقع في سلسلة إصدار الحكم أو تنفيذه على المظلوم (كالقاضي والجلاد و...) آثم بل ومستحق للتعزير، لكن هل هو ضامن لمنافعه التي حرمه منها لو كان طبيباً أو تاجراً أو مزارعاً أو شبه ذلك؟
وكذلك مثّلوا بما لو حبس شاةً فمات ولدها أو فتح قفص طائر فطار (أقول: حتى إذا لم يهيّجه).. وستأتي أمثلة أخرى غداً بإذن الله تعالى.
هل الحكم الوجودي وعدم الحكم ضدان لا ثالث لهما؟
وتنقيح هذا البحث يبتني على مقدمة هامة وهي: هل ان الحكم الوجودي وعدم الحكم ضدان لهما ثالث أو لا؟ والظاهر انهما مما لهما ثالث؛ بيانه: ان الحكم واللاحكم متناقضان لا ثالث لهما، اما الحكم الوجودي فله ضد هو الحكم العدمي ولهما نقيض وهو عدم الحكم.
ويمكن التمثيل للحكم العدمي بالإباحة وبالحلية، إذ الإباحة ليست عدم الحكم بل هي الحكم بالجواز أو فقل هي السماح أو إرخاء عنان العبد بالنسبة لطرفي الفعل والترك، وكذا حلية أكل المذكى فانه ليس عدم الحرمة بل هو حكم بالسماح والإذن والجواز.
ويؤكد ذلك ويوضحه قوله صلى الله عليه واله وسلم ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَاللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ...))([5]) فلا يوجد شيء لا حكم فيه بل كلها أحكام اما وجودية أو عدمية. فتدبر وللبحث تتمة وصلة فأنتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام: ((الْمُؤْمِنُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ: ذَنْبٍ قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي مَا صَنَعَ اللَّهُ فِيهِ وَعُمُرٍ قَدْ بَقِيَ لَا يَدْرِي مَا يَكْتَسِبُ فِيهِ مِنَ الْمَهَالِكِ، فَهُوَ لَا يُصْبِحُ إِلَّا خَائِفاً وَلَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْخَوْفُ)) (تحف العقول: ص377).
------------------------------------------------------
([1]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج5 ص292.
([2]) وهو مبحثنا الآخر.
([3]) الشيخ الطوسي، الأمالي، دار الثقافة للنشر – قم، 1414هـ، ص525.
([4]) ابن ابي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء عليه السلام – قم، ج1 ص220.
([5]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص74.
|