بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(387)
ضمان الجاني أجور العلاج وسائر الخسائر، حق عرفي الآن
فهذا كله من جهة، ومن جهة أخرى قد يقال في تصحيح ثبوت الضمان على الجاني، لأجور الطبيب ولخسائر شركته ولخسارته وظيفته، زائداً كل ذلك على الدية، ان الأكثر من الدية فيما لو كانت أجور العلاج أكثر منها، هو حق من الحقوق العرفية الآن، وكذلك ضمان خسائر أسهم شركته حق من الحقوق العرفية الآن، (بل ربما يعدّ ضمان فقدان الوظيفة، حقاً عرفاً الآن ولو في الجملة) والحكم تابع للموضوع، فكلما تحقق الحق شمله مثل ((لِئَلَّا يَتْوَى حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِم))([1]) وحيث لم يكن ذانك من الحقوق عرفاً في الأزمنة السابقة بل ولا في زمن الأئمة عليهم السلام لذلك لم يفرضوا أكثر من الدية ولم يفهم الفقهاء إلا ثبوت الدية خاصة، فالمسألة من قبيل تبدل الموضوع؛ ألا ترى ان حق الطبع وحق الاختراع لم يقل به أحد من الفقهاء في العصور السابقة بينما قال به جمع من المعاصرين، ولا يعدّ عدم حكم الفقهاء السابقين (ولا في زمن الأئمة عليهم السلام) بحفظ حق الطبع وبجواز بيعه أو المصالحة عليه، بل حكمهم بالعدم، دليلاً على العدم؛ إذ لم يكن هذا الحق متحققاً موضوعاً عرفاً سابقاً لكنه يعد الآن حقاً عرفاً، والحكم تابع للموضوع فإذا تغيّر تغيّر، نظير المعدود إذا صار موزوناً أو العكس فانه يدخل بذلك في الربا أو العكس.
قاعدة: تدرجية فهم أدلة الأحكام كتدرجية نزولها وبيانها
ولنا ان نعرض ههنا ضابطاً عاماً أصولياً كطرح بدوي، وهو بحاجة إلى مزيد تنقيح وأخذٍ ورد وليس ما سيذكر للبناء عليه بل للتدبر فيه ومناقشته وجرحه وتعديله، وهو: انه كما ان الأحكام كانت تدريجية النزول وكما كان بيان الأحكام تدريجياً (والأول ثبوتي والثاني إثباتي) فكذلك قد يقال بان فهم الأحكام تدريجي في الجملة وكذلك فهم أدلة الأحكام تدريجي في الجملة، ولا يضر بصحة فهم المجتهدين جامعي الشرائط اللاحقين، عدم فهم السابقين طوال ألف سنة مثلاً لذلك بل لا يضر فهمهم العدم، ولنمثل لذلك بأمثلة من الأصول والفقه.
الحكومة والورود
فمن الأصول: الحكومة والورود، حيث طرح صاحب الجواهر الحكومة وشيّد الشيخ الانصاري أركانها مع أركان الورود، مع ان الفقهاء السابقين طوال ألف سنة لم يلتفتوا لذلك([2]) حتى أوقع بعضهم المعارضة بين دليلين أحدهما من العناوين الأولية والثاني من العناوين الثانوية (كلا ضرر) نظراً لأنه رأى النسبة بينهما من وجه!
وموطن الشاهد: ان الحكومة والورود هما من أهم ما يتوقف عليه الاستنباط ومما تختلف الثمرة الفقهية كثيراً جداً بإعمالهما وعدمه، ومع انهما يقعان في صلب مباحث الأدلة، ومع ذلك لم تشر إليهما آية ولا رواية – فيما وصلنا – ولم يطرحهما الفقهاء طوال ألف سنة، فهل ذلك يعدّ مبرراً لردّ اجتهاد صاحبي الجواهر والمكاسب في عنوانهما لهما كأصلين أساسيين من أصول الاستنباط؟
ومن الواضح ان الجواب بالنفي؛ إذ يكفي في الحجج والأدلة كونها في المعرضية بمعنى ان شأنية إيصال الشارع لها كاف ولا تشترط فعلية إيصاله بغير الطرق الطبيعية (والتي هي الظواهر وحَكَمِية العقل في مستقلاته وشبه ذلك) ولا دليل على ان على الشارع ان يأتي بالنص بدل الظاهر متى ما رأى ان الفقهاء طوال مئات السنين قد لا يحكمون على طبق الظاهر مما لو أتى بالنص لحكموا على طبقه! اللهم إلا دليل اللطف وشبهه مما مضى وسيأتي جوابه.
ومنها: الاستصحاب، وقد سبق فراجع.
المعاطاة
ومن الفقه: المعاطاة، وقد سبق ان المشهور شهرة عظيمة، بل المنقول عليه الإجماع مكرراً طوال مئات السنين انها لا تفيد الملك، بل تفيد الإباحة ثم قال الكركي بإفادتها الملك المتزلزل، لكن مشهور المتأخرين صاروا إلى خلاف المتقدمين إذ ذهبوا إلى انها تفيد الملك اللازم واستدلوا بانها بيع عرفاً وبانها مشمولة تبعاً لذلك بـ(أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)([3]) وبأشباه ذلك، فلم يضرّ بصحة استنباطهم هذا مخالفةُ كافة القدماء له وفهمهم نقيضه أو ضده.
ولاية الفقيه وشورى الفقهاء
ومن الأمثلة الفقهية: ولاية الفقيه وفي مقابلها شورى الفقهاء؛ فان الفقهاء طوال مئات السنين لم يفهموا من الآيات والروايات ولاية الفقيه المطلقة، حتى جاء النراقي (وقيل ان هناك من سبقه) فقال بها، وفي المقابل لم يذهب أحد من الفقهاء طول ألف سنة إلى شورى الفقهاء في الشؤون العامة، بينما ذهب إلى ذلك السيد الوالد استناداً إلى قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)([4]) وغيرها، وموطن الشاهد:
ان المرجع في قبول أحد الرأيين أو رفضه هو دراسة الفقيه للأدلة واستنطاقها فإن وجدها تامة الدلالة على احدهما كان له الحكم بما استظهره وإلا لم يحكم، ولا يصح ان يقال له: حيث لم يفهم الفقهاء من الأدلة الولاية المطلقة أو لم يفهموا في مقابلها شورى الفقهاء طوال ألف عام، لذلك فلا يصح للفقيه إعمال الملكة والاجتهاد واستنطاق الأدلة بنفسه وانه لو فعل لما كان حجة!
ولو قيل بذلك نقضناه بالحكومة والورود وبالمعاطاة وغيرهما.
حرمة تشغيل الوالدين للأطفال وعدمها
ومن الأمثلة الفقهية التي تحتاج إلى بحث: ان تشغيل الوالدين للأطفال يعد الآن انتهاكاً لحقوق الأطفال وممنوعاً قانونياً في الكثير من الدول، بينما لم يَرَ الفقهاء ذلك منذ ألف سنة وحتى الآن، والأهم ان الآباء والأمهات كانوا يشغلون أبناءهم وبناتهم في المزارع والدكاكين وغيرها في زمن الائمة عليهم السلام ولم نجد حتى رواية واحدة تردع عن ذلك، فهل يمكن القول بتحريم تشغيلهم والحال هذه لمجرد ان الناس يعدونه الآن انتهاكاً لحق الطفل؟
وقد يقال: ان الأمر تابع لتحقق عنوان الحق عرفاً، وانه حيث انه لم يكن يعدّ حقاً عرفاً سابقاً فلم يكن تشغيلهم حراماً، لكنه إذا عدّ حقاً عرفاً الآن (لاحظ قولنا إذا) فقد تغير الموضوع فلا يجوز انتهاكه بتشغيلهم إلا ما لا يعد انتهاكاً كالطفيف من العمل.
بعبارة أخرى: يشترط في إعمال الأب أو الجد ولايته على الطفل الغبطة أو عدم المفسدة، ولم تكن في تشغيلهم سابقاً مفسدة بل كانت المصلحة في ذلك، اما الآن ففي تشغيلهم (الأكثر من الطفيف) المفسدة لتوفر المدارس والفرص للجميع تقريباً ليدرسوا وليكونوا أطباء أو محامين أو غير ذلك، عكس السابق فتشغيل الأطفال الآن مما يحول دون تقدمهم ورقيهم ففيه المفسدة الآن.
والحاصل: انه إذا اختلفت المفسدة والمصلحة اختلف الحكم فلا يصح القول بانه حيث لم يحرم الأئمة عليهم السلام ذلك فلا يجوز ان نحرمه، إذ الحكم تابع للموضوع فإذا تغير كان له حكم الموضوع المتغيّر إليه. فتأمل والله العالم. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الكاظم عليه السلام: ((السَّخِيُّ الْحَسَنُ الْخُلُقِ فِي كَنَفِ اللَّهِ لَا يَتَخَلَّى اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيّاً إِلَّا سَخِيّاً وَمَا زَالَ أَبِي يُوصِينِي بِالسَّخَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ حَتَّى مَضَى))
(تحف العقول: ص412).
---------------------------------------------
([1]) الشيخ الطوسي، الغيبة، مؤسسة المعارف الإسلامية – قم، 1411هـ، ص408.
([2]) أي كعنوان خاص له حدوده وأركانه و...
([3]) سورة البقرة: آية 275.
([4]) سورة الشورى: آية 38.
|