بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(382)
المباني الخمس في الديات الست:
وبعبارة أخرى أشمل وأدق:
ان المباني والأقوال في أنواع الديات الست من حيث التنويع بينها أو التخيير بينها مطلقاً أو طولية بعضها مع بعض هي خمسة:
1- الجاني مخير بينها مطلقا وإن اختلفت قِيَمُتها
الأول: ما هو ظاهر المشهور من ان الجاني مخير بينها مطلقاً، ابتداءً، وإن كانت قيمتها متفاوتة جداً، وان له ان يختار أي نوع منها وإن كان أقلها قيمةً، وعلى هذا قد يَرِد إشكال الإجحاف السابق.
2- الجاني مخيّر بينها إذا كانت قِيمُتها متقاربة
الثاني: انه مخير بينها لكن ذلك خاص بصورة كونها متقاربة القيمة، كما كانت في زمن صدور تلك الروايات، وكما هو ظاهر بعض الروايات أي ان الظاهر منها كون قيمة بعضها([1]) معادَلاً بقيمة بعضها الآخر([2]) فلو اختلفت كثيراً على النحو غير المتعارف فالمرجع القيمة المتفاوتة المعهودة.
وإلى ذلك ذهب السيد الوالد إذ قال: (والحاصل: انه إذا كان أحد الستة بقيمة عادلة كان للقاتل والعاقلة ان يؤدي ذلك، وإن كانت كلها في ارتفاع أو انخفاض خارقين لأمر وقتي كان لهما الرجوع إلى قيمة عادلة لأحداها، وهذا غير مسألة القيمة التي تأتي، ومنه يعلم انه ليس للقاتل والعاقلة ان يعطى ما انخفضت قيمته لعارضٍ، مثلاً صارت قيمة عشرة آلاف درهم مساوية لمائة دينار لا لارتفاع الدينار، بل لانخفاض الدرهم، لما عرفت من انه خلاف المنصرف من النص والفتوى)([3]) وقال: (ويؤيد ذلك أولاً: ظهور الروايات في استواء قيمة الستة المذكورة، وكذا ذكر بعض الروايات الآتية لبعض الأصناف مختلفاً، مما يدل على تفاوت القيمة([4]).
وثانياً: بعض الروايات الخاصة، وإن كات ضعيفة السند، لكنها قابلة، لأن تكون مؤيدة.
مثل ما رواه الدعائم، عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، انهم قالوا: تؤخذ الدية من كل قوم مما يملكون من أهل الإبل، الإبل، ومن أهل البقر، البقر ومن أهل الغنم، الغنم ومن أهل الحلل، الحلل، ومن أهل الذهب الذهب ومن أهل الورق، الورق، ولا يكلف أحد ما ليس عنده قال أبو عبد الله عليه السلام والدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل البعير مائة بعير، قيمة كل بعير عشرة دنانير، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، قيمة كل بقرة خمسة دنانير وعلى أهل الغنم ألفا شاة قيمة كل شاة نصف دينار، وعلى أهل البَرّ مائة حلّة، قيمة كل حلّة عشرة دنانير، هذه دية الرجل المسلم – الخبر)([5]).
وقال: (نعم الظاهر ان الشاة والبقرة اللتين لا تسوى قيمتهما مائة من الإبل لا تنفع وقد تقدم حمل ما ظاهره ألفا شاة على ما إذا كانت بقيمة مائة من الإبل، جمعاً بين الأدلة، وللإجماع المقطوع به في المسألة، ولو اختلفت قيم الإبل، كما هو الغالب، خصوصاً فيما إذا كانت ذات سنام، أو ذات سنامين، جاز الأقل قيمة للإطلاق)([6]).
ووجهه ان ألفاظ الشارع تحمل على المتعارف وان ألفاظ الموضوعات لا إطلاق لها لتشمل الأفراد غير المتعارفة ولذلك فان ما ذكر من ان حَدِّ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ وَأَنَّهُ مِنْ قُصَاصِ الشَّعْرِ إِلَى مَحَادِرِ شَعْرِ الذَّقَنِ وَمَا دَارَتْ عَلَيْهِ الْإِبْهَامُ وَالْوُسْطَى...)([7]) يحمل على المتعارف منهما وكذا (الدلوك) فيرجع ذو الأفق غير المتعارف (كالقطبين) إلى الأفق المتعارف كأفق مكة والمدينة وكربلاء والنجف.. ولعله يأتي تفصيل ذلك بإذن الله تعالى.
3- انه مخير بينها إلا إذا كان الأقل متفاوتاً تفاوتاً فاحشاً
الثالث: انه مخيّر بينها لكن بشرط ان لا يكون ذو القيمة الأقل متفاوتاً تفاوتاً فاحشاً مع سائرها، وإليه ذهب السيد السبزواري في المهذب: (ويمكن أن يقال: إن التخيير بين الأصول الستة حكم من الأحكام الأولية التي يتغير بواسطة عروض العناوين الخارجية، فإذا صار أحد الأطراف في حدّ الأقل جداً بالنظر إلى الأطراف الأخر بحسب المالیة، أو تغییر الأزمنة والأعصار، یمکن أن یقال بخروج الأقل- الذی اختاره القاتل- عن طرف التخییر، فیکون التخییر بین بقیة الأطراف حینئذ، لأن لحاظ الخصوصیات الواردة فی الروایات، وملاحظة زمان الشارع هو أن التفاوت بین هذه الأطراف کان یسیرا لا ما إذا کان فاحشاً، بحیث یصیر اختیار الأقل بالنسبة إلی الأکثر بمنزلة الثمن أو العشر أو أقل منهما، والشك في شمول أدلة التخییر لمثل هذه الصورة یکفینا في عدم صحة التمسك بإطلاقاتها، فإن ذلك قد یوجب الجرأة علی القتل، ویشهد لما ذکرنا ما ورد من ان الأصل فی الدیة مائة إبل، ولوحظت مالیتها بالنسبة إلی ما ورد من الأطراف، فلا بد من مراعاة هذه الجهة، ولکن الأحوط التصالح والتراضی واللّه العالم بحقائق أحکامه)([8]).
وقوله: (لأن لحاظ...) مبني على ان الإطلاقات تحمل على الموضوعات المتعارفة كما سبق.
وقوله: (والشك...) مبني على أحد وجوه ثلاثة: إما عدم انعقاد الإطلاق لعدم إحراز كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة، وإما لوجود قرينة على الخلاف، حافة تمنع انعقاد الإطلاق وهي القرينة المقامية التي أشار إليها([9]) ولا أقل من كونها من محتمل القرينية المتصل، وإما لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وهو ما ذكره وغيره.
4- الديات الست هي للتنويع لا للتخيير
الرابع: ان الديات الست هي للتنويع لا للتخيير، قال في الجواهر: (نعم، عن ظاهر المقنع والمقنعة والنهاية والخلاف والمبسوط والمراسم والوسيلة والقاضي: أنّها على التنويع، بل في كشف اللثام: نسبته إلى عبارات كثير من الأصحاب، لما في عدّة من الأخبار من أنّ الإبل على أهلها والبقر على أهلها... وهكذا.
ولكن – بقرينة غيرها من النصوص والفتاوى – يمكن حملها على إرادة التسهيل على القاتل، كما أومأ إليه ما سمعته من قول الباقر عليه السلام في صحيح ابن عتيبة، وحينئذ تتّفق النصوص جميعاً)([10]) وأما نص عبارة القاضي فهي: (ولكن عن القاضي: ((فدية العمد المحض إذا كان القاتل من أصحاب الذهب ألف دينار جياد، وإن كان من أصحاب الفضة فعشرة آلاف درهم جياد، وإن كان من أصحاب الإبل فمائة مسنّة قيمة كل واحد منها عشرة دنانير، أو مائتا مسنّة من البقر إن كان من أصحاب البقر قيمة كل واحدة منها خمسة دنانير، أو ألف شاة إن كان من أصحاب الغنم قيمة كل واحدة منها دينار واحد، أو مائتا حلّة إن كان من أصحاب الحلل قيمة كل حلّة خمسة دنانير)) وظاهره اعتبار التساوي في القيم...)([11]) وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الكاظم عليه السلام: ((مَنْ قَصَدَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ إِخْوَانِهِ مُسْتَجِيراً بِهِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ فَلَمْ يُجِرْهُ بَعْدَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ فَقَدْ قَطَعَ وَلَايَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)) (الكافي: ج2 ص366)
------------------------------------------------------
([1]) كالشاة.
([2]) كالإبل.
([3]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه كتاب الديات، دار العلوم للطباعة للتحقيق والطباعة والنشر – بيروت، ج90/1، ص19.
([4]) (لذا زادت الرواية في العدد ليساوي القيمة)
([5]) المستدرك: ج18 ص295 الباب 1 ح1 (الطبعة الحديثة).
([6]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه كتاب الديات، دار العلوم للطباعة للتحقيق والطباعة والنشر – بيروت، ج90/1، ص16.
([7]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص54.
([8]) السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، دار التفسير – قم، ج29 ص75.
([9]) بقوله (عروض العناوين الخارجية) و(تغيير الأزمنة والاعصار) و(ملاحظة زمان الشارع...).
([10]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1434هـ ج44 ص24.
([11]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1434هـ ج44 ص32.
|