بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(381)
تتمة: سبق البحث([1]) عن ان الجاني هل يضمن إضافةً إلى الدية أجورَ علاج المجني عليه وتعويضه عما يخسره من عمله الحالي أو سيخسره من عمله المترقَّب، وتعويضه عن انخفاض قيمته السوقية([2]) وذكرنا أدلة أربعة على الضمان وأشكلنا عليه بانه مخالف للإجماع وللإطلاق المقامي وناقشنا في الأخير بما سيأتي إكماله بإذن الله تعالى، وكان مما استدللنا به (لا ضرر) بناء على كونه منشأ للحكم، وقاعدة سببية إتلاف مال الغير للضمان، وقوله تعالى: (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)([3]) وقوله عليه السلام ((وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ))([4]).
انتصاراً لعدم الضمان: الدية وافية نوعاً بمتوسط كل الخسائر
ولكن يمكن ان ينتصر للمشهور شبه المجمع عليه الذين ذهبوا إلى ان الجاني لا يضمن إلا الدية حسب المقرر شرعاً، بان الدية هي المعدل المتوسط العقلائي (الذي كشف عنه الشرع) لجبر ضرر المجني عليه وانه (المثل) النوعي المقابل للسيئة وان به تدارك حرمة ما فات من دمه أو أعضائه إذا قورن بالمال حسب متوسط نوع المكلفين، ولكن ذلك مبني على أحد مبنيين في الدية:
الأول: ان الأصل هو الإبل وان سائر الأنواع الخمسة إنما تعادل بها.
الثاني: انها أنواع متعددة، ولكن لا تخيير بينها بل الواجب على كل قوم بذل ما يوجد لديهم من نوع الدية.
التخيير بين الستة رغم تفاوت قيمتها كثيراً، إجحاف
توضيحه: ان المشهور ذهبوا إلى ان القاتل (أو العاقلة)([5]) في الخطأ المحض وشبه العمد وفي العمد إذا رضي الأولياء بالدية، مخير بين ستة أمور وهي:
ألف دينار أو ألف شاة أو عشرة آلاف درهم أو مائة من الإبل أو مائتي بقرة أو مائتي حلّة، وان له ان يختار أرخصها، فعلى هذا قد يرد الإشكال مثلاً بان مائتي حلة في هذا الزمن تساوي قيمتها بين خمسة ملايين إلى عشرة ملايين دينار([6]) إذ الحلّة إزار ورداء([7]) أو ثلاثة فيما زاده البعض من القميص، مع ان قيمة الحلّة كاملة قد لا تصل إلى خمسة وعشرين ألف دينار أو وصولاً إلى خمسين ألف دينار، فقد يورد ان هذا ظلم على المجني عليه وأهله إذ كيف يقتله أو يقطع يديه ثم يعوضه بخمسة أو عشرة ملايين دينار؟ فان هذا ليس عرفاً تعويضاً عادلاً إضافة إلى انه لا يستوعب كثيراً ما أجور العلاج ولا يعوض عن خسارته فرصة عمله أو انخفاض قيمته.
عكس القول بان الأصل الإبل، أو التنويع لا التخيير
وذلك عكس المبنيين الآخرين فانه إن قلنا ان الإبل هي الأصل، كما دلت عليه روايات عديدة وكما افتى به بعض الفقهاء، وان سائر الخمسة تعادل بها أي انه يجب ان يدفع مائة إبل أو ما يعادلها قيمة فقد تكون ألفي شاة (كما دلت عليه بعض الروايات أيضاً) وقد تكون اثني عشر ألف درهم (كما دلت عليه بعض الروايات) وقد تكون مائتي حلّة كما في الرواية، أو مائة كما في المقنع([8]) وقد تكون ألف حلّة.. فإذا كان ذلك كذلك كانت الدية عقلائية عرفية إذ الإبل قيمتها الآن مثلاً ربما تقارب مليون ونصف دينار معدلاً فمائة من الإبل تسوى مائة وخمسين مليون دينار ولو كانت قيمتها مليون كان الحاصل مائة مليون، وهو مبلغ يشكل ثروة معتنى بها إذ يمكن لأهل المقتول ان يعيشوا به لمدة عشر سنين أو أكثر بما يقارب مليون ديناراً شهرياً، هذا إن لم يستثمروه وإلا كان المحصول أكبر.. وقد لاحظ الشارع حال الجاني أيضاً في الخطأ وشبه العمد فلم يكلفه الأكثر وإلا كان نوعاً مما لا يطاق.
مصالح ثلاثة لاحظها الشارع
والحاصل ان الشارع لاحظ ثلاث مصالح: أولاها: تعويض المجني عليه أو ورثته بثروة معتدّ بها، الثانية: عدم تكليف الجاني ما لا يطاق، الثالثة: عدم التسهيل عليه كثيراً كي لا يسترخص الناس الدماء، وذلك متحقق في معيارية مثل الإبل دون الحلّة لأن الحلة عكس الإبل كانت في علم الله مما يمكن ان تنتج بالمكائن بدل اليد فترخص قيمتها جداً كما حصل بالفعل عكس الإبل التي تتربى بالطبيعة وظلت على مدار مئات السنين ثروة معتداً بها وكان ارتفاعها وانخفاضها عقلائياً حسب العرض والطلب لا بتدخل بشري يرفع منها أو يخفض بشكل غير اعتيادي (على انه لو حصل فالمرجع المتوسط كما سيأتي).
والمستند الروايات لا التقريب السابق
والعمدة في المستند لهذا القول الروايات، وما ذكر انما هو مقرب للذهب ومؤيد لا غير ولذا لا يصح الاستناد إليه وحده لو انفرد.
طوائف الروايات:
وإليك بعض الروايات:
فمنها: ((خبر معاوية بن وهب: سَأَلَتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: عَنْ دِيَةِ الْعَمْدِ فَقَالَ مِائَةٌ مِنْ فُحُولَةِ الْإِبِلِ الْمَسَانِّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمَكَانَ كُلِّ جَمَلٍ عِشْرُونَ مِنْ فُحُولَةِ الْغَنَمِ))([9]) وهو دال على كلا الأمرين: ان الإبل هي الأصل في الدية وان غيرها يقيّم بها فيكون – حسب زمن الرواية – ألفي شاة.
ومنها: (خبر زيد الشحّام عن أبي عبد الله عليه السلام: ((فِي الْعَبْدِ يَقْتُلُ حُرّاً عَمْداً؟ قَالَ: مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ الْمَسَانِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِبِلٌ فَمَكَانَ كُلِّ جَمَلٍ عِشْرُونَ مِنْ فُحُولَةِ الْغَنَمِ))([10])؛ فإن الجمل اسم للفحل)([11]).
ومنها: صحيح عبد لله بن سنان قال: ((سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً قِيدَ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ أَنْ يَقْبَلُوا الدِّيَةَ، فَإِنْ رَضُوا بِالدِّيَةِ وَأَحَبَّ ذَلِكَ الْقَاتِلُ فَالدِّيَةُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً، أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ، أَوْ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ فِيهَا الدَّنَانِيرُ فَأَلْفُ دِينَارٍ، وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ فِيهَا الْإِبِلُ فَمِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ فِيهَا الدَّرَاهِمُ فَدَرَاهِمُ بِحِسَابِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفاً))([12]) وهي كغيرها تشهد بان المقياس ليس عشرة آلاف درهم بل مع ضمها لغيرها يتضح ان الدرهم يعادَل بغيره كالدينار فيكون لكل زمن حكمه كما انها تفيد ان الأصل التنويع لا التخيير، كما سيأتي.
ومنها: ما يدل على ان الأصل الإبل، بالصراحة، كما سيأتي فيما ننقله عن الفقه للوالد.
ومنها: ما يدل على ان الأصل الثلاثة (إبل بقر غنم) ثم يعادل غيرها بها (بل قد يشعر صحيح ابن عتيبة عن الباقر عليه السلام في حديث بكون مدار الدية في كل أرض على ما يوجد فيها غالباً، قال: (... فَقُلْتُ: إِنَّ الدِّيَاتِ إِنَّمَا كَانَتْ تُؤْخَذُ قَبْلَ الْيَوْمِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْبَوَادِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ الْوَرِقُ فِي النَّاسِ قَسَمَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام عَلَى الْوَرِقِ. قَالَ الْحَكَمُ: فَقُلْتُ لَهُ: أَ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ الْيَوْمَ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي، مَا الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الدِّيَةِ الْيَوْمَ، الْوَرِقُ أَوِ الْإِبِلُ؟ فَقَالَ: الْإِبِلُ هِيَ مِثْلُ الْوَرِقِ، بَلْ هِيَ أَفْضَلُ مِنَ الْوَرِقِ فِي الدِّيَةِ...))([13]) فتأمل.
وهناك ما يدل على ان الأصل الدينار ويعادل الدرهم به، ثم لكل قوم ما عندهم من الأنواع، وذلك مثل:
(صحيح عبد الرحمن: ((سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: كَانَتِ الدِّيَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم ثُمَّ إِنَّهُ فَرَضَ عَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَفَرَضَ عَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفَ شَاةٍ ثَنِيَّةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ الْحُلَلَ مِائَةَ حُلَّةٍ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَجَّاجِ فَسَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَمَّا رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى، فَقَالَ: كَانَ عَلِيٌّ عليه السلام يَقُولُ: الدِّيَةُ أَلْفُ دِينَارٍ، وَقِيمَةُ الدِّينَارِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَعَشَرَةُ آلَافِ [دِرْهَمٍ] لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَ عَلَى أَهْلِ الْبَوَادِي الدِّيَةُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ وَلِأَهْلِ السَّوَادِ مِائَتَا بَقَرَةٍ أَوْ أَلْفُ شَاةٍ))([14]) )([15]).
وقال في الجواهر (نعم، قد سمعت ما في النصوص السابقة من أنّ مكان كلّ جمل عشرين من فحولة الغنم، إلا أنّي لم أجد عاملاً به، بل عن الغنيمة الإجماع على خلافه، فالمتجه حمله على التقية.
وعن الشيخ حمله على أحد وجهين: الأول: أنّ الإبل تلزم أهل الإبل، فمن امتنع من بذلها ألزمه الولي قيمتها، وقد كانت قيمة كل جمل عشرين من فحولة الغنم، كما قال الصادق عليه السلام في صحيح ابن سنان: (... ومن الغنم قيمة كل ناب من الإبل عشرون شاة) والثاني: اختصاص ذلك بالعبد إذا قتل حرّاً كما في خبر زيد الشحّام عن الصادق عليه السلام)([16])
وفي بعض ما سبق دلالة على ان الديات للتفريع وان على أهل كل قوم ملكوا أمراً من الأمور الستة ما يملكونه منه: فعلى أهل الإبل الإبل وعلى أهل الذهب الذهب وعلى أهل الدنانير الدنانير وهكذا.
ثم لا يخفى ان كلّا منها عند أهلها تشكّل ثروة وانه على هذا القول الثاني لا يجوز الانتقال إلى نوع آخر أرخص، وللبحث تتمة وصلة فأنتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم: ((إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً يَفْزَعُ إِلَيْهِمُ النَّاسُ فِي حَوَائِجِهِمْ أُولَئِكَ هُمُ الْآمِنُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) (تحف العقول: ص52).
------------------------------------------------------
([1]) في الدرس (375) إلى (380).
([2]) أي قيمة أسهمه أو شركته أو ما أشبه.
([3]) سورة الشورى: آية 40.
([4]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص359.
([5]) في الخطأ المحض خاصة.
([6]) أي 4 ألاف إلى 8 آلاف دولار.
([7]) وهي تعادل ما يلبسه الناس اليوم من سروال وثوب.
([8]) قال السيد الوالد في الفقه ج90 ص10 (ولعل الاختلاف من جهة اختلاف القيمة إذ بعض الحلل قيمة كل حلّة خمسة دنانير كما حكى المختلف عن القاضي، وبعض الحلل قيمتها عشرة دنانير).
([9]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1413هـ، ج4 ص106.
([10]) الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج10 ص161.
([11]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ج44 ص12.
([12]) الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج10 ص159.
([13]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1413هـ، ج4 ص137، والكافي ج7 ص280، وجواهر الكلام: ج44 ص14.
([14]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج7 ص280.
([15]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ج44 ص14.
([16]) المصدر نفسه: ص22.
|