• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التزاحم (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 197- الاشكال على (الفطرة) بإنها اعم من قضاء الشارع بها ، والجواب - وانها خاصة بمثل التوحيد والجواب - هل روايات حجية العقل خاصة باصول الدين .

197- الاشكال على (الفطرة) بإنها اعم من قضاء الشارع بها ، والجواب - وانها خاصة بمثل التوحيد والجواب - هل روايات حجية العقل خاصة باصول الدين

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(197)

 

بناء العقلاء على تقديم الأهم على المهم

سبق انه قد يقال: بان العقل حاكم في العديد من مسائل أصول الفقه، كمسألة ترجيح الأهم على المهم وكمسألة الترتب واجتماع الأمر والنهي وغيرها، والعديد من المسائل الفقهية ككون الحيازة موجبة لحق الاختصاص وكوجوب دفع المنكر، كما سبق ان الأصوليين لم يستدلوا على الترجيح بالأهمية بالآيات والروايات وقد استدل بها السيد الوالد وقد مضى الكلام حول ذلك، واستدل السيد الوالد أيضاً بالعقل فقال: (ومن العقل: انه بناء كافة العقلاء فلا يشك أحد منهم - ولا من المتشرّعة - في أنه لو خيّر بين محرَّمين أحدهما أهم - كالزنا أو القُبلة - أو واجبين كذلك - كإنقاذ غريق أو إنقاذ سفينة فيها مائة وإذا اشتغل بإنقاذه دونها هلكوا جميعاً - أو خيّر بين واجب وحرام - كالصلاة ليوم أو قتل نفس محترمة - في أنه يلزم تقديم الأهمّ([1]).

وهذا هو المركوز في أذهان المتشرّعة، والسيرة القطعية، بل لعل([2]) جملة من الأحكام الثانوية - كالتقية و أحكام الاضطرار والإكراه وما أشبه - من صغريات هذه القاعدة وإن كانت هي قواعد مستقلة بل بين بعضها عموم من وجه.

لكن إنما يقدم الأهم على المهمّ إذا كان إلى حد المنع عن النقيض كالزنا والموت عطشاً - كما في قصة المرأة في زمان علي عليهم السلام  وإلّا كان مخيّراً وإن كان تقديم الأهم الأفضل أفضل، كما إذا دار الأمر بين إنقاذ غريقين أحدهما عالم أو عادل دون الآخر.

و لو علم بالأهمية اللازمة إجمالًا، لكنه لم يستطع معرِفتها بالضبط، مثل انه لم يعلم أيّ الغريقين رئيس الجيش بما يلحِق غرقه الهزيمة بجيش المسلمين، دون الآخر الجندي، تخيّر، وكذلك في صورة الاشتباه في الحكم)([3]).

وقد أشكل بعض أفاضل البحث على قولنا:

 

(كثير من الأحكام هي أحكام الفطرة

الثالث: ان بعض الأحكام السابقة – من أصولية وفقهية – هي من أحكام الفطرة وهي حجة قطعاً إذ هي (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي‏ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)([4]) وليست فقط حكم العقل ليقال بانه مردوع عنه بالرواية إذ الرواية لا تنفي حجية الفطرة، بل ولا توجد حتى رواية واحدة يستشم منها ذلك، بل تنفي حجية العقل الناقص في دين الله، فهذا كبرى)([5]) بقوله:

 

إشكالات: ليست كل فطرة من الدين و...

(أقول: من قال ان كل فطرة فطر الله الناس عليها هي من الدين؟!!

وقد صرحت الأخبار أن هذه الفطرة هي التي قصدها تعالى هي الإسلام أو التوحيد أو الولاية او المعرفة به وظاهر الآية الأمر باتباعها، إلا انه من أين نقول أن كل ما فطرنا الله عليه فيجب إتباعه أو أنه من الدين؟!!

ربما يقال أن بعض ما فطرنا الله تعالى عليه لا يجوز إتباعه شرعاً وأنه ليس من الدين مثل الشهوات المحرمة فإن الله تعالى فطر الإنسان والحيوان على حب الشهوات الجنسية مطلقاً المحللة منهما والمحرمة أعني مع الزوجة والأجنبية فهل يجب إتباع هذا الميل الذي جُبلنا عليه أو أنه من الدين!!

ثم ما معنى أن الله تعالى فطرنا على كون الحيازة مملِّكة أو مخصصة؟ فان كون الحيازة مملكة أو موجبة لحق الاختصاص هو من مدركات العقل وليس من الأمور الفطرية) – انتهى بتصرف بسيط.

 

الأجوبة:

وهو ينحل إلى إشكالات ثلاث، واما الجواب عنها فـ:

 

الفطرة فطرتان: تشريعية وتكوينية

أولاً: ان الفطرة فطرتان: فطرة تشريعية وفطرة تكوينية، والتقسيم إنما هو بلحاظ المتعلَّق نظير تقسيم العقل إلى نظري وعملي، والمراد بالفطرة التشريعية الفطرة المدركة للحُسن والقبح والوجوب والحرمة (أو الحاكمة بها) والمراد بالتكوينية الطبعية القهرية الموجودة في داخل الإنسان نحو الانجذاب بالطبع نحو الجنس المخالف والشهوات كما قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنينَ وَالْقَناطيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)([6]) فان هذا التزيين تكويني خلقي، والمدّعى هو ان الفطرة التشريعية هي الحجة من الله تعالى أي ما فطر الله الإنسان والحيوان عليه من إدراك الحسن والقبيح أو الحكم بهما، لا التكوينية كانجذاب الرجل للمرأة أو العكس.

ومما يؤكد الاثنينية وحجية التشريعية دون التكوينية ان الإنسان يدرك بفطرته (التي أصطلحنا عليها بالتشريعية) قبح الاستجابة لكل انجذاب (كإنجذابه إلى زوجة الغير أو إلى أمه لا سمح الله) فهذه هي الحجة من الله علينا، بل نقول: ان الفطرة التكوينية بانجذاب الرجل للمرأة جنسياً طبعاً، قد تمنع صغرى لما ثبت علمياً من ان كثيراً من الرجال لا يملكون هذا الانجذاب اصلاً وقد توصل العلماء إلى ان ثلاثين بالمائة من الرجال يعانون من البرود الجنسي.

والحاصل: ان المراد (أحكام الفطرة)([7]) وليس مقتضياتها التكوينية، أي ان قضاء الفطرة بالحس والقبح هو الحجة من الله علينا، لا الفطرة اللا إرادية كالانجذاب للشهوات أو لإيذاء الغير مثلاً.

 

الروايات فسرت الفطرة بالمصداق ولم تكن للحصر

ثانياً: ان ما ذكر في الآيات والروايات من بيان للفطرة وانها التوحيد أو المعرفة أو الولاية، بل ما ورد من ان أسماء الرسول _(ص) والمعصومين عليهم السلام  حتى خاتمهم منقوشة في فطرة كل إنسان، إنما هو بيان لأجلى المصاديق، وليس للحصر.

دليلنا: أولاً: انه لا توجد في الروايات هذه أداة الحصر بل ولا المقام مقام الحصر، غاية الأمر مفهوم اللقب وهو ليس بحجة.

ثانياً: ان هناك روايات أخرى عديدة وتذكر مصاديق للفطرة في المسائل الفرعية جداً بل في بعض المستحبات أيضاً مما يظهر منه سعة دائرة الفطرة جداً:

ومنها: قوله وصلى الله عليه واله وسلم ((وَإِنَّا نَجُزُّ الشَّوَارِبَ وَنُعْفِي اللِّحَى وَهِيَ الْفِطْرَةُ))([8])

وقول الإمام عليهم السلام : ((خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَالِاخْتِتَانُ))([9])

وقول الصادق عليهم السلام : ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ اللَّذَانِ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ...)([10])

وقول الرسول وصلى الله عليه واله وسلم: ((الْإِسْلَامُ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ فِيهَا أَوَّلُهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهِيَ الْكَلِمَةُ وَالثَّانِيَةُ الصَّلَاةُ وَهِيَ الطُّهْرُ وَالثَّالِثَةُ الزَّكَاةُ وَهِيَ الْفِطْرَةُ وَالرَّابِعَةُ الصَّوْمُ وَهُوَ الْجُنَّةُ وَالْخَامِسَةُ الْحَجُّ...))([11])

وذلك رغم ان في كون بعضها من الفطرة خفاء كالاختتان، نعم الشارع كشف عنه، واما مثل تقليم الأظافر فهو صغرى النظافة وهي فطرية.

فكيف يُستغرب والحال هذه ان تكون إدراكات الإنسان للحسن والقبح فطرية وعدم انحصار الفطريات بمثل التوحيد والولاية؟

 

فرق العقل عن الفطرة

ثالثاً: سبق ان الفرق بين مدركات العقل ومدركات الفطرة إن كلما لم يختص بالإنسان بل وجدنا الحيوان يدركه أيضاً (كالدفاع عن الحريم والأبناء، وموجبية الحيازة للاختصاص) فهو من الفطرة، لبداهة عدم ثبوت عقل للحيوان.

إشكالان: صدر الرواية في حجية العقل في الأصول، وذيلها عدم حجيته مطلقا

كما أشكل بعض الأكارم بـ: (إن صدر الرواية في حجية العقل في أصول الدين ولا خلاف في أن القواعد العقلية الموصلة إلى الحكم العقائدي القطعي حجة.

وأما ذيلها فصريح في ما يخالف مدعاكم حيث يقول عليهم السلام : ((قِيلَ لَهُ: فَهَلْ يَكْتَفِي الْعِبَادُ بِالْعَقْلِ دُونَ غَيْرِهِ؟ قَالَ عليهم السلام : إِنَّ الْعَاقِلَ لِدَلَالَةِ عَقْلِهِ... عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّهُ وَعَلِمَ أَنَّ لِخَالِقِهِ مَحَبَّةً وَأَنَّ لَهُ كَرَاهِيَةً وَأَنَّ لَهُ طَاعَةً وَأَنَّ لَهُ مَعْصِيَةً، فَلَمْ يَجِدْ عَقْلَهُ يَدُلُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَطَلَبِهِ وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ إِنْ لَمْ يُصِبْ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ طَلَبُ الْعِلْمِ...))

فذيلها صريح في أن العقل لا يوصل إلى معرفة الأحكام الشرعية لأنها عبارة عن ما يحبه الله تعالى وما يكرهه ولا سبيل للعاقل إلا بالتعلم وأنه لا ينفع الوصول إلى الحكم الشرعي بغير علم ويقين، نعم لو وصل إليه بعلم ويقين لنفعه.

وهذا المعنى هو المراد في رواية (لا يصاب..) حيث يقول فيها ((إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ النَّاقِصَةِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ وَلَا يُصَابُ إِلَّا بِالتَّسْلِيم...‏)) حيث حصرت طريق الوصول إلى الدين بالتسليم الذي هو قبول ما تتلقاه بالتعلم والإذعان له).

 

الجواب: 1- الرواية عامة ثم فرّع عليهم السلام  عليها

والجواب: أولاً: ان الرواية السابقة الدالة على حجية العقل وإصابته للواقع عامة ثم ان الإمام عليهم السلام  فرّع عليها ذكر بعض أحكام العقل في أصول الدين، والتفريع لا يفيد الحصر إن لم نقل بانه يؤكد العموم الا ترى قوله عليهم السلام  ((الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ زِينَةً لِخَلْقِهِ وَنُوراً لَهُمْ))([12]) فهو نور لما استنار به ولكل ما انكشف به سواء أكان في أصول الدين كالمذكورات في الرواية أم في أصول الفقه كترجيح الأهم على المهم وكصحة الترتب (أو امتناعه) أم في الفقه كمورثية الحيازة لحق الاختصاص فانه عليهم السلام  ذكر ذلك أولاً ثم فرّع على ذلك قوله ((فَبِالْعَقْلِ عَرَفَ الْعِبَادُ خَالِقَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ وَأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ لَهُم‏...)) فلاحظ تمام الرواية ((إِنَّ أَوَّلَ الْأُمُورِ وَمَبْدَأَهَا وَقُوَّتَهَا وَعِمَارَتَهَا الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْ‏ءٍ إِلَّا بِهِ الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ زِينَةً لِخَلْقِهِ وَنُوراً لَهُمْ فَبِالْعَقْلِ عَرَفَ الْعِبَادُ خَالِقَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ وَأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ لَهُمْ وَأَنَّهُمُ الْمُدَبَّرُونَ وَأَنَّهُ الْبَاقِي وَهُمُ الْفَانُونَ وَاسْتَدَلُّوا بِعُقُولِهِمْ عَلَى مَا رَأَوْا مِنْ خَلْقِهِ مِنْ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ وَشَمْسِهِ وَقَمَرِهِ وَلَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَبِأَنَّ لَهُ وَلَهُمْ خَالِقاً وَمُدَبِّراً لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزُولُ وَعَرَفُوا بِهِ الْحَسَنَ مِنَ الْقَبِيحِ...)).

 

تتمتها صريحة في حجية العقل في الحَسَن والقبيح

ثانياً: بل ان تتمة الرواية صريحة في حجيته في الأفعال (وهي دائرة الفقه) إذ قال عليهم السلام : ((وَعَرَفُوا بِهِ الْحَسَنَ مِنَ الْقَبِيحِ)).

وسيأتي الجواب عمّا ورد في آخر الرواية فأنتظر.

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

 

عن أبي عبيدة قال: قلت لأبي جعفر عليهم السلام  حدثني ما أنتفع به ((فَقَالَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ ذِكْرَهُ إِنْسَانٌ إِلَّا زَهِدَ فِي الدُّنْيَا)) (الكافي: ج3 ص255).

 

 

---------------------------------------------------

([1]) وينتقل لميسور الصلاة وصولاً للإيماء.

([2]) أقول: بل الظاهر انها من صغرياتها.

([3]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه، القواعد الفقهية، المركز الثقافي الحسيني، ص142 – بتصرف بسيط.

([4]) سورة الروم: آية 30.

([5]) الدرس (194).

([6]) سورة آل عمران: آية 14.

([7]) كما صرحنا به في المنقول سابقاً.

([8]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ج1 ص130.

([9]) الشيخ الصدوق، الخصال، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1403هـ، ج1 ص310.

([10]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ج2 ص49.

([11]) الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مكتبة الداوري – قم، ص249.

([12]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص28.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3497
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 18 رجب 1440هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15