بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(193)
كيفية الإطاعة
سابعاً: والمرجع في كيفية الإطاعة، كلما لم يصل من الشارع أمرٌ، العقل والعقلاء، والعرف مرآة للعقلاء، من غير فرق في ذلك بين المعاملات والعبادات ولا بين الموضوعات الشخصية والشؤون العامة:
في المعاملات
فمن الأول: كيفية البيع أو الصلح أو الطلاق والعتق وأشباهها، وليست كيفية فعل المعصوم عليه السلام مقيّدة لإطلاق الأدلة ولا موجبة لتعبدية خصوص ما أتى به ولذا لو باع أو طلق في مكان معين أو زمان معين أو بكيفية معينة كالعربية مثلاً لما دلّ على حصر صحة المعاملة بها ففعله لا جهة له من هذه الجهة كما لا إطلاق له.
وقد يناقش هذا ولواحقه بان المرجع في الكيفية([1]) إطلاق النص، لا العقلاء.
والجواب: بان كل كيفية من كيفيات الإطاعة فهي فرد للواجب أو للصحيح أو للموضوع أو للامتثال، بحكم العرف، فيشمله الإطلاق مبنياً على حكم العرف. فتدبر.
والعبادات
ومن الثاني: كيفية الوضوء، فلو مسح الإمام عليه السلام على رجليه بثلاث أصابع أو بكل الكف مثلاً لما قيّد إطلاق قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)([2]) فكل ما صدق عليه المسح فهو صحيح كافٍ ولو كان بأصبع أو أصبعين وكذلك المسح بخط منحرف أو معكوساً.
والشؤون الفردية
ومن الثالث: النفقة في قوله تعالى: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ)([3]) والمعاشرة بالمعروف في قوله تعالى: (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)([4]) فان كيفية الإنفاق موكلة للعرف أي لما يصدق عليه انه إنفاق عرفاً، ولذلك له ان يدفع عين النفقة لها كما له ان يدفع نقداً أو شيكاً أو شبه ذلك، بل له ان يدفع تمليكاً أو إباحة وشبه ذلك، وكذلك الحال في كيفية العِشرة بالمعروف.
والشؤون العامة
ومن الرابع: قوله تعالى: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)([5]) فان كيفية القتال: بأي نوع من السلاح، وبأي تكتيك وخطة وفي أي زمان ومكان.. إلى غير ذلك، كله موكل للعرف الخاص.
وبعبارة أخرى: ان كيفية الإطاعة هي من القضايا الخارجية الموكلة للعرف العام أو الخاص أو للمكلف نفسه (وذلك حسب كونه حسياً أو حدسياً، من شؤون الفرد أو من الشؤون العامة – على تفصيل)، اما الأحكام فهي بنحو القضايا الحقيقية التي صبّ الحكم فيها على الطبيعي بما هو طبيعي فيشملها جميعاً.
الطريق إلى الحكم والموضوع والكاشف عنهما
ثامناً: والمرجع في طرق الإطاعة والمعصية أو الكاشف عنهما هو العقلاء أيضاً، سواء الكاشف عن الحكم ام الكاشف عن موضوعه، ومن هنا قلنا ان سيرة العقلاء هي الحجة على مرجعية خبر الثقة والظواهر في كشف أحكام الشارع، وعلى مرجعية البينة والإقرار وأشباهها في كشف الموضوعات، أي انها هي الدليل على حجيتها، مطلقاً فيما إذا لم يقيّد الشارع وإلا فبحسب ما قيد وخصَّص.
الاعتراض بـ((إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ))
لا يقال: ان ما سبق من توسعة نطاق مرجعية العقل والعقلاء في كافة الأمور السابقة، مما تعارضه الرواية الدالة على ان دين الله لا يصاب بالعقول فقد ورد ((حدّثنا محمّد بن محمّد بن عصام الكلينيُّ رضي الله عنه قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب الكلينيُّ قال: حدّثنا القاسم بن العلاء قال: حدّثنا إسماعيل بن عليّ القزويني قال: حدّثني عليّ بن إسماعيل، عن عاصم بن حميد الحناط، عن محمّد بن قيس، عن ثابت الثماليِّ، عن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب عليهم السلام قَالَ: إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ النَّاقِصَةِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ وَلَا يُصَابُ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ فَمَنْ سَلَّمَ لَنَا سَلِمَ وَمَنِ اهْتَدَى بِنَا هُدِيَ وَمَنْ دَانَ بِالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ هَلَكَ وَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئاً مِمَّا نَقُولُهُ أَوْ نَقْضِي بِهِ حَرَجاً كَفَرَ بِالَّذِي أَنْزَلَ السَّبْعَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ))([6])
الأجوبة:
والجواب من وجوه:
(دِينَ الله) لا يصاب بها، لا موضوعه أو امتثاله أو طريقه
الأول: ان موضوع النهي في الرواية هو (دِينَ اللَّهِ) وليس (الموضوع) دين الله بل هو موضوع دين الله، كما ليس الامتثال دين الله بل هو امتثال له وإطاعة له، ولا الكاشف عنه دين له بل هو الكاشف عنه؛ ألا ترى ان دين الله هو حرمة الغناء والخمر وحلّية البيع والعقود ووجوب النفقة وغيرها وهذه كلها تؤخذ من الشارع؛ لأن الأحكام دين الله تعالى، واما ما هو الغناء فانه يؤخذ من العرف فانه موضوع دين الله وليس نفس دين الله بل دين الله يحمل عليه، ولا يجوز القياس بان يقال ان دين الله لا يصاب بالعقول فموضوع دينه كذلك، ولذا أجمع كافة الأصوليين والاخباريين على ان الموضوعات (كالخمر والغناء وما هو البيع وغيرها) تؤخذ من العرف اللهم إلا فيما اخترعه الشارع أو تصرف فيه.
وكذلك الامتثال كما فيما سبق من المثال: الإطاعة بعد الإطاعة، فانه ليس دين الله بل امتثال له.
وكذلك الطريق إلى دين الله كخبر الثقة، والظواهر واما أشبهها فانها الطريق إلى دين الله وليست دين الله نفسه. فتأمل([7])
لا يصاب الدين بالعقول الناقصة، ويصاب بالعقل النوري
ثانياً: ان الرواية تصرح بان دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة، ومحل الكلام هو (سيرة العقلاء بما هم عقلاء) وهي ناشئة من العقل النوري أي العقل الكامل أي الجوهرة التي أودعها الله تعالى فينا فانها حجة دون شك كما سيأتي من الروايات.
والحاصل: ان العقل المضاف أي عقلي وعقلك وعقل زيد وعمرو هو العقل الناقص، دون العقل بما هو عقل.
اما الأول: فلتأثر العقل بالأهواء والشهوات والقوة الغضبية وبالعادات والتقاليد والضغوط وبالمسبقات الفكرية والمعرفية لكل شخص شخص، لذلك فان دين الله لا يصاب بالعقول ويدل عليه انك تجد ان حكم العقول المضافة مختلف جداً.
واما الثاني: فان العقل بما هو عقل حجة الله على أصل الشريعة وأساسها إذ به يحتج على وجوب بعث الأنبياء وعلى شهادة المعجزة بكونه نبياً نظراً لحكم العقل بقبح إجراء المعجزة على يد الكاذب.. إلى غير ذلك، فكيف لا يكون حجة في بعض الأحكام الفرعية، والمراد بها المستقلات العقلية خاصة، دون ملاكات الأحكام لمجهوليتها لدينا.
وطريق إحرازه، بناء العقلاء كافة بما هم عقلاء
ولكن يبقى السؤال عن الطريق إلى العقل النوري الخالص أو المحض أو المجرد من الرواسب و(دفائن العقول) وعن التأثر بالمسبقات، والطريق إليه سهل وهو ان ما بنى العقلاء بما هم عقلاء عليه أو جرت سيرتهم بما هم عقلاء على أمر ما، فان ذلك كاشف قطعي عن ان هذا حكم العقل الخالص؛ لبداهة ان العقلاء من شتى الملل والنحل لو اجمعوا على أمر رغم تباين بيئتهم وثقافتهم ومسبقاتهم الفكرية والنفسية بل رغم تناقض منطلقاتهم وتضاد أهوائهم وغير ذلك، وإذا اطبقوا على أمر رغم اختلاف أديانهم ومستوياتهم وحكوماتهم وتواريخهم، كشف ذلك كشفاً قطعياً عن ان حكمهم بذلك ما هو إلا عن عقلهم النوري المودع فيهم، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
عن ابن عُيَيْنَةَ عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قَالَ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ الَّذِي يَلْقَى رَبَّهُ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ سِوَاهُ، قَالَ: وَكُلُّ قَلْبٍ فِيهِ شِرْكٌ أَوْ شَكٌّ فَهُوَ سَاقِطٌ وَإِنَّمَا أَرَادُوا الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا لِتَفْرُغَ قُلُوبُهُمْ لِلْآخِرَةِ))
(الكافي: ج2 ص16).
----------------------------------------------------------------------
([1]) أي في الشمول لكافة الأفراد بكافة الكيفيات.
([2]) سورة المائدة: آية 6.
([3]) سورة النساء: آية 34.
([4]) سورة النساء: آية 19.
([5]) سورة البقرة: آية 193.
([6]) الشيخ الصدوق، كمال الدين، دار الكتب الإسلامية – قم، 1395هـ، ج1 ص324.
([7]) إذ خبر الثقة وإن لم يكن دين الله لكنه مشمول لـ(يصاب به دين الله) وفيه: ان ظاهر يصاب الحدس لا الحس، وههنا أخذ ورد لعله يأتي.
|