• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : البيع (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 376- ادلة اخرى على ضمان المنافع المفوّتة واجرة العلاج .

376- ادلة اخرى على ضمان المنافع المفوّتة واجرة العلاج

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(376)

 

تتمة: دلالة لا ضرر على إنشاء الحكم

سبق: (وقد يستدل على ثبوت التعويض والضمان، بوجوه:

((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ))

الأول: قوله صلى الله عليه واله وسلم: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ))[1] فان الجاني قد اضرّ بالمجني عليه من الجهتين الاخريين أيضاً فعليه التعويض وجَبْر كسره، والدية عوض عن فقده يده مثلاً لا عن الأخيرين. ولكن هذا مبني على كون لا ضرر منشأ للأحكام فيقال حينئذٍ بإنشائها للضمان، اما على القول المشهور من كونها نافية للحكم الضرري لا غير، فلا؛ اللهم إلا على وجه لطيف ذكرناه سابقاً ففكر وتأمل)[2].

وقد يستدل على ثبوت الأحكام بلا ضرر وكونها مفيدة لإنشاء الحكم (ومنه الضمان) بنفس رواية ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)) وتمامها ((عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ إِنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ كَانَ لَهُ عَذْقٌ فِي حَائِطٍ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مَنْزِلُ الْأَنْصَارِيِّ بِبَابِ الْبُسْتَانِ وَكَانَ يَمُرُّ بِهِ إِلَى نَخْلَتِهِ وَلَا يَسْتَأْذِنُ، فَكَلَّمَهُ الْأَنْصَارِيُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ إِذَا جَاءَ، فَأَبَى سَمُرَةُ، فَلَمَّا تَأَبَّى جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم فَشَكَا إِلَيْهِ وَخَبَّرَهُ الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم وَخَبَّرَهُ بِقَوْلِ الْأَنْصَارِيِّ وَمَا شَكَا وَقَالَ: إِنْ أَرَدْتَ الدُّخُولَ فَاسْتَأْذِنْ فَأَبَى، فَلَمَّا أَبَى سَاوَمَهُ حَتَّى بَلَغَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَأَبَى أَنْ يَبِيعَ فَقَالَ: لَكَ بِهَا عَذْقٌ يُمَدُّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم لِلْأَنْصَارِيِّ: اذْهَبْ فَاقْلَعْهَا وَارْمِ بِهَا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ))[3] فان تفريع النبي صلى الله عليه واله وسلم جواز قلع شجرة جندب على لا ضرر أقوى دليل على إنشاء الحكم بلا ضرر وكونها من مناشئ الحكم.

وتوضيحه: ان مقتضى القاعدة لو كانت لا ضرر نافية للحكم ان يتفرع على لا ضرر عدم جواز دخول سمرة إلى منزل الرجل فان جواز دخوله حكم ضرري فيرتفع بلا ضرر فكان اللازم ان يقتصر النبي صلى الله عليه واله وسلم على تحريم الدخول على سمرة، لكن النبي صلى الله عليه واله وسلم فعل أكثر من ذلك إذ انه حكم بجواز قلع شجرته ورميها خارجاً مع ان جواز القلع حكم إيجابي إنشائي وقد علّله النبي صلى الله عليه واله وسلم بـ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)) فـ(لا ضرر) انشأت جواز القلع وليس انها رفعت فقط جواز الدخول.. وكم فرق بين الحكمين: جواز الدخول (ورفعه بلا ضرر) وجواز القلع (وإثباته بلا ضرر).

وقد اضطر من أنكر إثبات لا ضرر للأحكام (أي كونها منشئة لها) إلى القول بان النبي صلى الله عليه واله وسلم حكم بجواز القلع من باب ولايته لكنه خلاف ظاهر الرواية جداً المفيدة لتعليل جواز القلع بلا ضرر وان النبي بنى على ذلك لا على إعمال ولايته مع كون (لا ضرر) أجنبياً عن جواز القلع فلاحظ قوله صلى الله عليه واله وسلم (( اذْهَبْ فَاقْلَعْهَا وَارْمِ بِهَا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)) وإذ كيف يعقل ان يعلل صلى الله عليه واله وسلم أقلعها بـ(فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ) مع أجنبية أحدهما عن الآخر وكون حكم القلع لمجرد ولايته. فتأمل. تدبر

فإن تم ذلك فيصح الاستدلال بلا ضرر على المسألتين: ضمان الجاني لأجرة علاج المجني عليه وضمانه لخسائره التي نشأت من خسارته لعمله الحالي الذي كان مصدر رزقه حتى إن لم نقل بضمانه لخسائره مما كان يتوقع ان يربحه من أعمال مستقبلية متوقعة له.

 

الاستدلال بـ(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)

الثالث: قوله تعالى: (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)[4] فان الجاني أساء إلى من قطع يده ثلاث اساءات: أفقده يده فعليه الدية، وأخسره أجرة العلاج (وقد تكون أضعاف الدية) فعليه ضمانها، وأخسره عمله الذي يدرّ عليه يومياً (كما لو كان مزارعاً أو نجاراً أو خياطاً يربح كل يوم كذا ديناراً فخسر كل ذلك بقطع يده، فعليه ضمانه).

ولكن ذلك مبني على دعوى عموم الآية لمثل ذلك إذ قد يدعى ظهورها أو إنصرافها إلى نفس مضمون (فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ)[5] وان المراد المقابلة بالمثل جنائياً وشبهه فلو أغلق دكانه كان له ان يغلق دكانه[6] ولكن ليس له ان يأخذ منه عوض خسائره من عدم تجارته مدة إغلاق دكانه، وقد يجاب بان الانصراف بدوي وان إطلاق الآية شامل لذلك فان سيئته بإغلاق دكاني تقابل باحدى سيئتين مثلها: سيئة إغلاق دكانه أو سيئة ضمانه لخسائري.

وقد يدعى ان الفهم العرفي إضافة لسياق الآية الكريمة على خصوص الأول فتدبر وتأمل والله العالم.

 

الاستدلال بـ((وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ))

الرابع: قوله عليه السلام في موثقة أبي بصير ((عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم: سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ وَ قِتَالُهُ كُفْرٌ وَ أَكْلُ لَحْمِهِ مَعْصِيَةٌ وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ))[7] وهذه الرواية تعد من أدلة قاعدة الاتلاف (من أتلف مال الغير فهو له ضامن) والتي لم تصل إلينا بهذا النص رواية فمدركها سائر الروايات، وقد استند إليها المشهور في مختلف المواطن و(ماله) شامل لمالي – مثلاً – الذي أفقدنيه باضطراري للعلاج، ومالي الذي أفقدنيه بتسبيبه لترك حرفتي أو صنعتي. فتأمل

وقد يستدل على ذلك بوجه آخر وهو ان المال موضوع عرفي فكلما عدّه العرف مالاً شملته أحكامه فمثلاً لم تكن حقوق الطبع أو حقوق الاختراع تعدّ مالاً سابقاً لكنها حيث عدت مالاً حالياً جاز بيعها وشراؤها وإجراء شتى العقود عليها مما لم يكن يجوز ذلك سابقاً؛ ولذلك لأنه من تبدل الموضوع ولذا جاز بيع ما كان مكيلاً أو موزوناً فصار معدوداً، متفاضلاً، وحرم بيع ما كان معدوداً فصار مكيلاً، متفاضلاً، بل جاز لمن في قرية يباع فيها البيض مكيلاً ان يسافر إلى قرية يباع فيها معدوداً فيرابي فيه بان يبيع عشر بيضات جيدة بعشرين رديئة مثلاً.

وفي المقام فان (اليد العاملة) لم تكن تعدّ في قديم الأزمنة مالاً و(لا فرصة العمل) كانت تعد مالاً لكنها في هذه الأزمنة في بعض البلاد على الأقل تعدّ مالاً، بل ان كافة دول العالم تقدر أموال كل بلد بحجم القوة العاملة فيه وبفرص العمل لديه ولذا يرتفع أو ينخفض سعر عملة ذلك البلد تبعاً لذلك.

ولكن محصل هذا الوجه التفصيل وانه كلما عُدّ العمل أو فرصة العمل مالاً ضمنه الجاني وكلما لم يعدّ لم يضمنه، كما ان ذلك لا يشمل مثل أجرة العلاج إلا بدعوى ان لليد مالية من هذه الجهة أي من جهة سلامتها وقدرتها على العمل لا من جهة ذاتها فقط. وذلك كله محل تأمل.

 

المناقشة: الإطلاق المقامي ينفي الضمان

وقد يستشكل على الأدلة السابقة بان الأئمة عليهم السلام رغم علمهم بذلك كله، لم يحددوا إلا الدية فقط أو الارش ولم يزيدوا على ذلك ضمان أجرة العلاج وضمان خسائر عمله الحالي أو الاستقبالي، ولو كان الجاني ضامناً ولم يقولوا لكان إغراءً بالجهل، فهذا استدلال بالإطلاق المقامي – وسيأتي الكلام فيه.

وقد يعلّل اقتصارهم عليهم السلام على الدية أو الارش، تأييداً للمشهور، بان الشارع لاحظ الجهات الثلاث (فقده يده وأجرة علاجه وخسارة عمله) فقدّر الدية على معدّل متوسط ذلك على مرّ التاريخ والأمم وعلى مختلف أفراد البشر بنحو القضية الحقيقية، فكل الثلاثة متضمَّن في الدية وليس ان الدية لوحظ فيها مجرد فَقْد اليد، لكن هذا كما هو واضح دخول في ملاكات الأحكام وإنما يصلح تقريباً لذهن المخالف، والعمدة الظهورات والأدلة بإطلاقها اللفظي والمقامي. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

 

قال الإمام أبو عبد الله عليه السلام لداود بن سرحان: ((إِنَّ خِصَالَ الْمَكَارِمِ بَعْضُهَا مُقَيَّدٌ بِبَعْضٍ، يَقْسِمُهَا اللَّهُ حَيْثُ يَشاءُ، تَكُونُ فِي الرَّجُلِ وَلَا تَكُونُ فِي ابْنِهِ، وَتَكُونُ فِي الْعَبْدِ وَلَا تَكُونُ فِي سَيِّدِهِ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَصِدْقُ النّاسِ، وَإِعْطَاءُ السَّائِلِ، وَالْمُكَافَأَةُ عَلَى الصَّنَائِعِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَالتَّوَدُّدُ إِلَى الْجَارِ وَالصَّاحِبِ وَقِرَى الضَّيْفِ، وَرَأْسُهُنَّ الْحَيَاءُ‏)) (الأمالي للطوسي: ص301).

 

 

-----------------------------------------------

[1] ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج5 ص280.

[2] الدرس (275).

[3] ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج5 ص292.

[4] سورة الشورى: آية 40.

[5] سورة البقرة: آية 194.

[6] على خلاف في هذا.

[7] ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص359.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3477
  • تاريخ إضافة الموضوع : السبت 8 رجب 1440هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15