• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : البيع (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 375- الاستدلال على ضمان المنافع المفوَّته في باب (الديات) .

375- الاستدلال على ضمان المنافع المفوَّته في باب (الديات)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(375)

 

ضمان الجاني لأجور الطبيب وتعويض ما يخسره المجني عليه

فروع: سبق ان أكل المال بالمعاملة الإكراهية هو من أكل المال بالباطل فهو مشمول للنهي في قوله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) وأن أكل المال بالمعاملة المضطر إليها ليس أكلاً للمال للباطل إلا ما استثنيِّ مما ذكرناه، ولكن تبقى بعض الفروع المشكلة:

ومنها: انه لو تعمّد الطبيب أو غيره إمراض شخص، كما لو أعطاه دواء فابتلي بمرض كالسرطان أو الايبولا أو الإيدز أو غيرها، أو رشّ على وجهه غاز الأعصاب أو أخافه فانهارت أعصابه أو أصيب بالكآبة إلى آخر عمره أو لفترة محددة، أو أصيب برجفة في يده أو شبه ذلك فهل له المطالبة بالتعويض؟

والمراد بالتعويض أمور ثلاثة:

الأول: ما يراه الشرع أو العرف أو أهل الخبرة تعويضاً عن هذا الفعل المتعمد.

الثاني: تعويض أجرة علاجه.

الثالث: تعويضه عما سيخسره من عمله في الحال والمستقبل كما لو كان نجّاراً أو بناءً أو حداداً أو كاتباً فكسر يده أو اعمى بصره أو كان محامياً أو خطيباً فقطع لسانه أو غير ذلك، وهذه المسألة، كما هو واضح، مبتلى بها منذ القدم ولكن كثر الابتلاء بها في هذا العصر، بل كثرت بعض مصاديقها المتعمدة على مستوى البسيطة إذ من المعلوم ان العديد من الشركات الكبرى تتعمد إيجاد أنواع من الأمراض عبر جراثيم ومكروبات مطورّة مختبرياً (أو مطلقاً) تنشر المرض بين الناس كي تبيعهم الأجهزة والأدوية بعد ذلك فتربح أرباحاً خيالية.

 

رأي المشهور

قد يقال: بالعدم، إذ الواجب هو الدّية أو الارش والحكومة ولا يجب الأكثر من ذلك، والدّية هي في ثمانية عشر أمراً من الأعيان وهي: (المشهور كما في كشف اللثام وغيره أن (التقدير في ثمانية عشر) من الأعيان لا المنافع التي ستعرفها في المقصد الثاني إن شاء الله:

الشعر، والعينين – ومنها الأجفان – والأنف، والأذنين، والشفتين، واللسان، والأسنان، والعنق، واللحيين، واليدين، والرجلين، والأصابع، والظهر، والنخاع، والثديين، والذكر، والخصيتين، والشفرين)([1]) واما في المنافع فان في العقل والسمع وضوء البصر والشم والذوق وتعذر الانزال وسلس البول، الدية، وفي أبعاضها (أو أبعاض بعضها – على تفصيل) الارش والحكومة.

وأما الأرش ففيما عداها، وهذا هو المشهور بل لعله شبه المجمع عليه.

وبناء على هذا القول فانّ أَخْذ المجني عليه من الجاني الأكثرَ من الدية أو الأرش هو من أكل المال بالباطل، عكس الرأي الآتي.

 

الرأي الآخر: الضمان؛ للأدلة التالية:

وقد يقال: بان عليه الدية بأدلتها، كما عليه ضمان العلاج وما سيخسره بأدلة اخرى استناداً إلى ان أدلة الدية تثبتها ولا تنفي غير ذلك([2]) مما كان مصبه أمر آخر إذ الدية مقابل قطع اليد مثلاً، واما ضمان أجرة العلاج فموضوع آخر يحتاج إلى دليل آخر فان ثبت فبها وإلا فأصالة عدم الضمان محكمة، وكذلك ضمان خسائره المستقبلية مما يعده العرف مقابلاً له فانه موضوع آخر.

وقد يستدل على ثبوت التعويض والضمان، بوجوه:

 

((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ))

الأول: قوله صلى الله عليه واله وسلم: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ))([3]) فان الجاني قد اضرّ بالمجني عليه من الجهتين الاخريين أيضاً فعليه التعويض وجَبْر كسره، والدية عوض عن فقده يده مثلاً لا عن الأخيرين.

ولكن هذا مبني على كون لا ضرر منشأ للأحكام فيقال حينئذٍ بإنشائها للضمان، اما على القول المشهور من كونها نافية للحكم الضرري لا غير، فلا؛ اللهم إلا على وجه لطيف ذكرناه سابقاً ففكر وتأمل.

 

ان السبب ضامن، وهي كبرى عقلية ارتكازية

الثاني: ان السبب ضامن، وهذه كبرى ارتكازية عقلائية، وقد يستدل لها بالروايات الواردة في العديد من صغرياتها:

 

ضمان الشاهدين خطأً على السارق، للدية

فمنها: صحيحة محمد بن قيس عن الإمام الباقر عليه السلام قال: ((قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فِي رَجُلٍ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ بِأَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَ يَدَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَ الشَّاهِدَانِ بِرَجُلٍ آخَرَ فَقَالَا: هَذَا السَّارِقُ وَلَيْسَ الَّذِي قَطَعْتَ يَدَهُ إِنَّمَا شَبَّهْنَا ذَلِكَ بِهَذَا فَقَضَى عَلَيْهِمَا أَنْ غَرَّمَهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ وَلَمْ يُجِزْ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الْآخَرِ))([4]) ووجه الاستدلال ليس القياس، بل هو ان المذكور في الرواية صغرى كبرى ارتكازية يجدها عقلاء العالم من أنفسهم وهي ضمان المسبّب وإن توسط الفاعلُ المختارُ، فانّ خطأ الشاهدين في السارق هو الذي سبّب قطع يد المتهم الأول لذلك ضمنّهما الإمام نصف الدية (لانها يد واحدة، وفي اليدين كل الدية).

تنبيه: قد يقال في وجه قطع الإمام عليه السلام يد الأول أحد وجهين:

الأول: انه عليه السلام عمل بعلمه (وانه كان المتهم الأول سارقاً حقيقة وقد طابقته الشهادة الأولى وان الشهود اخطأوا في إتهام الثاني بانه السارق) فكان مستحقاً لقطع يده على كل تقدير من علم الإمام به وقيام الشاهدين عليه، وإذا كان للقاضي العادي العمل بعلمه كما هو رأي المشهور فما بالك بالإمام؟.

لا يقال: فلِمَ غرّم الشاهدين بعد ان عَدَلا للمتهم الثاني، مع مطابقة شهادتهما الأولى للواقع؟

إذ يقال: جرياً على الظاهر وأنّ من شهد بما دلت الأدلة الظاهرية على انه خطأ غُرّم وإن كان مصيباً واقعاً، والتفكيك في الأحكام الظاهرية المتلازمة (كنجاسة مشكوك التذكية وحرمته)([5]) غير عزيز فكيف بالتفكيك بين الحكم الواقعي (إجراء الحد على المتهم الأول) والظاهري (تغريم الشهود لتخطئتهم شهادتهم الأولى).

الثاني: ان النبي صلى الله عليه واله وسلم والإمام عليه السلام مأموران بالعمل بالظاهر ولا غير ولذا قال صلى الله عليه واله وسلم: ((إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْأَيْمَانِ وَبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ))([6])

 

ضمان من زوّج الغير خداعاً، فأولدها

ومنها: موثقة إسماعيل بن جابر، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ فَأَعْجَبَتْهُ فَسَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ: هِيَ ابْنَةُ فُلَانٍ فَأَتَى أَبَاهَا فَقَالَ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ فَزَوَّجَهُ غَيْرَهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَعَلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ ابْنَتِهِ وَأَنَّهَا أَمَةٌ فَقَالَ: يَرُدُّ الْوَلِيدَةَ عَلَى مَوْلَاهَا([7]) وَالْوَلَدُ لِلرَّجُلِ([8]) وَعَلَى الَّذِي زَوَّجَهُ قِيمَةُ ثَمَنِ الْوَلَدِ يُعْطِيهِ مَوَالِيَ الْوَلِيدَةِ كَمَا غَرَّ الرَّجُلَ وَخَدَعَهُ))([9])

وهذه الرواية أقوى في الدلالة إذ ان الإمام عليه السلام ضمّن الأب (الغارّ المخادع) ثمن الولد ليعطيه إلى موالي الأمة، مع ان هذه قضية لويّة أي ان هذه الأمَة لو كانت تزوجت عبداً (لا حرّاً آخر) ولو انها ولدت له لكان الولد ملكاً لمواليها، مع ان كلا الأمرين محتمل الوجود والعدم، فحيث زوّجها ذلك الأب الغارّ بدون إذن مولاها ضمن الخسارة اللويّة، والمقام من الأَولى إذ الكلام عن الخسائر المسلّمة التي سبّبها كاسرُ يدِ الغير (من أجور الطبيب والعملية الجراحية ومن خسارته لعمله الفعلي) و(الاولوية) للتقريب للذهن لا للاستناد؛ لشبهة القياس حينئذٍ، بل الاستدلال، كما سبق، بان الصغرى صغرى لكبرى ارتكازية.

وهناك روايات أخرى وأدلة أخرى، ومناقشات فيما سبق ستاتي لاحقاً فأنتظر ولا تبنِ على ما قيل حتى الآن.

 

التفصيل بين مواطن الدية والارش

ثم انه قد يفصّل بين مواطن الدية ومواطن الارش فيقال بان الدية أمر محدد من قبل الشارع فلا نزيد عليها، اما الأرش فحيث انه موكل إلى ذَوَي عدل منكم فالأمر موكل إليهما والأرش منطبق على الجهات الثلاث الآنفة (التعويضات).

ومن الروايات الواردة في المقام صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((دِيَةُ الْيَدِ إِذَا قُطِعَتْ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ، فَمَا كَانَ جُرُوحاً دُونَ الِاصْطِلَامِ فَيَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ...))([10])

ولكن ذلك مبني على صحة زيادة الأرش على الدية، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

 

قال الإمام علي الهادي عليه السلام: ((الْقَوُا النِّعَمَ بِحُسْنِ مُجَاوَرَتِهَا وَالْتَمِسُوا الزِّيَادَةَ فِيهَا بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا وَاعْلَمُوا أَنَّ النَّفْسَ أَقْبَلُ شَيْ‏ءٍ لِمَا أُعْطِيَتْ وَأَمْنَعُ شَيْ‏ءٍ لِمَا مُنِعَتْ‏)) (أعلام الدين: ص312).

 

-----------------------------------------

([1]) الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، جواهر الكلام، ج43 ص169.

([2]) وسيأتي دعوى نفيها بإطلاقها المقامي.

([3]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج5 ص280.

([4]) المصدر نفسه: ج7 ص384.   

([5]) فهو طاهر للاستصحاب وهو حرام للاستصحاب مع انه إن كان مذكى فهو طاهر حلال أو لا فنجس حرام.

([6]) المصدر نفسه: ج7 ص414.

([7]) لأنها ملك له، والأب زوّجها فضولة.

([8]) إذ الولد يتبع أشرف الأبوين، وهذه الرواية دليل خاص على ذلك.

([9]) المصدر نفسه: ج5 ص408.

([10]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1413هـ، ج4 ص130.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3471
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 4 رجب 1440هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29