بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(177)
النقض على حرمة الإعانة على الإثم بمسير الحج وتجارة التاجر
ثم انه قد ينقض على مدعانا من وجوب الإعانة على الواجبات (سواء استناداً إلى آية التعاون وانه والإعانة عرفاً أمر واحد، أم لغير ذلك) بمسير الحاج المستلزم لأخذ الجائر الحاكم على مكة والمدينة منهم المكوس والجمرك فإنّ أخْذَهُ منهم حرام كما انه إذا صرفه في الحرام كان حراماً آخر، فمسير الحاج إعانة على المنكر لكنه لا شك في جوازه، كما ينقض بتجارة التاجر بل وصناعة الصانع وزراعة الزارع وغيرها فانه إذا ربح أو زرع أو صنع صنعةً فان الجائر يأخذ منه الضريبة بل وفي كثير من الدول يأخذون الضريبة حتى على بيع البيت أو شرائه أو الدكان أو غير ذلك، وكذلك حال بيع العنب ممن يعمله خمراً (لا بيعُهُ ليعلمه خمراً فانه حرام دون شك).
الأجوبة:
وقد أجاب الأعلام عن ذلك بوجوه:
1- ليست الإعانة على الإثم محرمة
الوجه الأول: ما ذهب إليه مثل السيد الخوئي من إنكار المبنى، والقول بان الإعانة على المنكر ليست محرمة ومنها هذه الموارد فهي على الأصل.
2- مقوّم الإعانة القصد، وليس الحاج والتاجر قاصداً
الوجه الثاني: ما ذهب إليه الشيخ قدس سره من ان مقوّم الإعانة القصد إلى الفعل بخصوصه، ولا يقصد الحاج أو التاجر بسفره للحج أو تجارته إعانة الظالم وإعطائه المال وإن علم وقوعه قهراً فان العلم أعم من القصد، قال الشيخ: (وقد يستشكل في صدق الإعانة بل يمنع حيث لم يقع القصد إلى وقوع الفعل من المعان بناءً على أنّ الإعانة هي فعل بعض مقدّمات فعل الغير بقصد حصوله منه لا مطلقاً)([1]) و: (وقال المحقّق الأردبيلي في آيات أحكامه في الكلام على الآية: الظاهر أنّ المراد الإعانة على المعاصي مع القصد أو على الوجه الذي يصدق أنّها إعانة مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم فيعطيه إيّاها أو يطلب القلم لكتابة ظلم فيعطيه إيّاه، ونحو ذلك ممّا يعدّ معونة عرفاً، فلا تصدق على التاجر الذي يتّجر لتحصيل غرضه أنّه معاون للظالم العاشر في أخذ العشور ولا على الحاجّ الذي يؤخذ منه المال ظلماً وغير ذلك ممّا لا يحصى، فلا يعلم صدقها على بيع العنب ممّن يعمله خمراً أو الخشب ممّن يعمله صنماً، ولذا ورد في الروايات الصحيحة جوازه وعليه الأكثر ونحو ذلك ممّا لا يخفى، انتهى كلامه رفع مقامه)([2]).
والمقياس، فيما نرى، لصدق الإعانة العرف، فلو قصد ولم يره العرف إعانةٌ لم يحرم([3]).
3- ليس المسير والتجارة، عرفاً إعانة
الوجه الثالث: ان يقال ان مثل مسير الحاج وتجارة التاجر، ليس إعانة عرفاً، وإن صدق فرضاً بالحمل الشائع دقةً، واما بيع العنب ممن يعمله فانه يصدق عليه عرفاً الإعانة على الإثم – فيما نرى([4]) – لذا يحتاج إلى جواب آخر (وهو الخامس مما يأتي إضافة للرابع أو الثاني أو غيرهما على المباني).
4- حليتهما نظراً للتزاحم الملاكي
الوجه الرابع: ان يقال انه من التزاحم الملاكي وهو الواقع (مقابل التزاحم الامتثالي) وانه وإن كانت المعاونة على الإثم محرمة ولكنها لم تحرم في أمثال تجارة التاجر ومسير الحاج، لاستلزامه([5]) اختلال نظام المعاش وسقوط الحج عن الوجوب لعدم خلو زمن – عادة – من ظالم حاكم يأخذ المكوس، وذلك لأن حفظ نظام المعايش من الاختلال أهم من هذا القدر من المعونة لذا جازت التجارة ووجبت كفائياً وإن صدق عليها فرضاً عنوان المعونة، كما انه يقطع بعدم سقوط فريضة الحج على امتداد الأزمان كلها أو غالبها، لأجل أخذ الحاكم المكوس والسبب أقوائية ملاكه، لدى الشارع، من ملاك حرمة دفع المكوس للجائر.
5- لانصراف أدلة حرمة الإعانة، عنهما
الوجه الخامس: ان أدلة حرمة الإعانة على المنكر منصرفة عن مثل مسير الحاج وتجارة التاجر، أو هي مخصَّصة فلا تشملهما؛ للارتكاز القطعي المتشرعي وللسيرة القطعية لكافة المتشرعة.
6- الروايات الخاصة المجوزة لمثل بيع العنب ممن يعمله خمراً
الوجه السادس: ان الروايات الخاصة الواردة في مثل بيع العنب ممن يعمله خمراً هي التي أوجبت القول بجوازها فهي استثناء من عموم حرمة الإعانة.
قال الشيخ: (المسألة الثالثة: يحرم بيع العنب ممّن يعمله خمراً بقصد أن يعمله، وكذا بيع الخشب بقصد أن يعمله صنماً أو صليباً لأنّ فيه إعانةً على الإثم و العدوان، ولا إشكال ولا خلاف في ذلك.
أمّا لو لم يقصد ذلك فالأكثر على عدم التحريم للأخبار المستفيضة، منها: خبر ابن أُذينة، قال: ((كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السلام أَسْأَلُهُ عَنْ رَجُلٍ لَهُ كَرْمٌ أَيَبِيعُ الْعِنَبَ وَالتَّمْرَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ خَمْراً أَوْ مسَكَراً؟ فَقَالَ عليه السلام: إِنَّمَا بَاعَهُ حَلَالًا فِي الْإِبَّانِ الَّذِي يَحِلُّ شُرْبُهُ أَوْ أَكْلُهُ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ))([6])
ورواية أبي كَهْمَس، قال: ((سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام إلى أن قال-: ثُمَّ قَالَ هُوَ ذَا نَحْنُ نَبِيعُ تَمْرَنَا مِمَّنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ يَصْنَعُهُ خَمْراً))([7]) إلى غير ذلك ممّا هو دونهما في الظهور)([8]).
بل قد يقال بان حرمة الإعانة على الإثم كانت من الوضوح والبداهة بحيث ان مثل صاحب الرياض لم يفتِ على طبق الروايات الصريحة المجوزة لبيع العنب ممن يعمله خمراً، قال الشيخ: (وفي الرياض، بعد ذكر الأخبار السابقة الدالّة على الجواز، قال: وهذه النصوص وإن كثرت واشتهرت و ظهرت دلالتها، بل ربّما كان بعضها صريحاً، لكن في مقابلتها للأُصول والنصوص المعتضدة بالعقول إشكال، انتهى. والظاهر، أنّ مراده بالأُصول قاعدة حرمة الإعانة على الإثم، و من العقول حكم العقل بوجوب التوصّل إلى دفع المنكر مهما أمكن)([9]).
ونحن وإن لم نوافقه الرأي إذ نرى تقدم الروايات بلا إشكال، والوجه الذي يذعن به العقل أيضاً، هو التزاحم الملاكي وشبهه، لكن موضع الشاهد بداهة الحكم بحرمة الإعانة على الإثم لدى فقيه مثله حتى اعتبر العمل على طبق النصوص الكثيرة الظاهرة الدلالة على الجواز، مشكلاً.
التفصيل بين ما انحصرت فائدته في الحرام وغيره
ثم ان هناك قولاً بالتفصيل نقله الشيخ أيضاً فقال: (ثمّ إنّه يمكن التفصيل في شروط الحرام المعان عليه: بين ما ينحصر فائدته ومنفعته عرفاً في المشروط المحرّم كحصول العصا في يد الظالم المستعير لها من غيره لضرب أحد، فإنّ ملكه للانتفاع بها في هذا الزمان ينحصر فائدته عرفاً في الضرب وكذا من استعار كأساً ليشرب الخمر فيه.
وبين ما لم يكن كذلك، كتمليك الخمّار للعنب، فإنّ منفعة التمليك وفائدته غير منحصرة عرفاً في الخمر حتّى عند الخمّار فيعدّ الأوّل عرفاً إعانة على المشروط المحرّم، بخلاف الثاني.
ولعلّ من جعل بيع السلاح من أعداء الدين حال قيام الحرب من المساعدة على المحرّم وجوّز بيع العنب ممّن يعمله خمراً كالفاضلين في الشرائع والتذكرة وغيرهما نظر إلى ذلك)([10]) والمقياس لدينا كما سبق صدق الإعانة عرفاً، فلو لم تنحصر الفائدة وصدقت الإعانة على الإثم، حرمت.
فهذه وجوه ستة لعدم حرمة مثل مسير الحاج وتجارة التاجر، ولعله يأتي منّا ذكر وجوه أجوبة أخرى عن وجه عدم تحريم مسير الحاج وتجارة التاجر رغم القول بحرمة الإعانة على الإثم.
الخوئي: لا يحرم إيجاد فاعل الإعانة، وإلا لحرم التناكح والتناسل
ثم ان السيد الخوئي قدس سره في مصباح الفقاهة قال: (وعليه فايجاد موضوع الاعانة كتوليد المعين مثلا خارج عن حدودها وإلا لحرم التناكح والتناسل، للعلم العادي بأن في نسل الانسان في نظام الوجود من يرتكب المعاصي وتصدر منه القبائح. وأما مسير الحاج ومتاجرة التاجر مع العلم بأخذ المكوس والكمارك وهكذا عدم التحفظ على المال مع العلم بحصول السرقة فكلها داخل في عنوان الاعانة...)([11])
مناقشات
أقول: قد يورد عليه بوجوه:
لا تلازم، وعدم حرمتهما لوجوه أخرى
الأول: ان استدلاله بـ(وإلا لحرم التناكح...) غير تام إذ لا تلازم: فقد يقال بكون الإعانة على الإثم محرمة (وبان إيجاد موضوع الإعانة، إعانة وليس خارجاً عن حدودها) ومع ذلك يقال بجواز التناكح؛ وذلك لوجوه:
أ- لخروج الأطراف عن محل الابتلاء
منها: ان عدم حرمة التناكح لخروج أطراف العلم الإجمالي عن ابتلاء المكلف، فانه وإن علم إجمالاً ان في نسل البشر من يعصي، لكن كل مكلف فانه حين إرادة الجماع بل حين الزواج لا يعلم بان من يولد منه سيكون عاصياً بل يعلم انه: اما سيكون من يولد منه عاصياً أو من سيولد من سائر البشر، وهم خارج محل ابتلائه.
ومنها وجوه أخرى ستأتي بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((صِلَةُ الرَّحِمِ تَعْمُرُ الدِّيَارَ وَتَزِيدُ فِي الْأَعْمَارِ وَإِنْ كَانَ أَهْلُهَا غَيْرَ أَخْيَارٍ))
(الأمالي للطوسي: ص480).
-------------------------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، ط / تراث الشيخ الأعظم، ج1 ص132.
([2]) المصدر نفسه: ص135-136.
([3]) من باب الإعانة، وإن أمكن ان يحرم من باب آخر.
([4]) وسيأتي تحقيقه.
([5]) أي التحريم.
([6]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج5 ص231.
([7]) المصدر نفسه: ص232.
([8]) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، ط / تراث الشيخ الأعظم، ج1 ص129-130.
([9]) المصدر نفسه: ص134.
([10]) المصدر نفسه: ص140.
([11]) السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة، الناشر: مكتبة الداوري – قم، ج1 ص291-292.
|