بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(350)
الأدلة على ان (أحَلَّ) إخبار لا إنشاء
ثم انه قد يستدل على كون (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) إخباراً لا إنشاءً (وعليه فالآية مجملة كما سبق بيانه ريثما يأتي جوابه) بوجوه أربعة:
1- قرينية تعيير الكفار بـ(لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ...)
الأول: ما ذكره السيد الوالد بقوله: (وبأن ظاهرها أنه إخبار لا إنشاء، فلابد أن يكون حكم البيع والربا مجعولاً سابقاً حتى يعيّرهم الله بأن آكله لا يقوم (إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) )([1]) وتوضيحه: ان قوله تعالى: (الَّذينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ)([2]) تعيير لهم إذ هو تشبيه لهم بانهم كالمصروع فان المصاب بداء الصرع كلما قام وقع ولم يمكنه القرار والاستقرار، كذلك المرابي فانه كلما قرّر ان يكفّ عن الربا سقط في أوحاله مرة أخرى؛ فانه كلما آلمه وجدانه من أخذ الأرباح من المقترض المحتاج بما يزيده فقراً على فقر وفاقةً على فاقة، فقرّر ان يكفّ عن الإقراض الربوي، سوّلت له نفسه وحرّضه شيطانه على المراباة مرة أخرى طمعاً في المزيد من الربح.
ولكن قد يناقش في هذه القرينة بعدم وضوحها إذ قد يقال بان الظاهر انه وصف لحالهم وليس تعييراً لهمُ لا أقل من انه لا يعلم أيهما المراد ولا ظهور للآية في احدهما، فتأمل.
2- قرينية تسوية الكفار للربا بالبيع، على سَبْق تحريمه
الثاني: ما ذكره السيد الوالد أيضاً بقوله: (على أن قول الكفار بالتسوية ظاهر في سبق تشريع الحكمين غير متماثلين لا أنه كلام ابتدائي، فحيث كان قولهم في قبال حكمه سبحانه كانوا يستحقون العذاب)([3]) وهو واضح فانه لو كان (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) إنشاءً للحكمين ولم يكن مُنشَأً من قبلُ حرمة هذا وجواز ذاك لما كان وجه لاعتراضهم بـ(إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) إذ لا يقال ذلك لمن لم يفرِّق بينهما فحلّلهما معاً، وانما يقال لمن حرّم الربا وحلل الربا: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) فلماذا حرّمت هذا وحلّلت ذاك مع كونها متماثلين؟
بعبارة أخرى: لا شك في ان قولهم (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) اعتراض على الرسول صلى الله عليه واله وسلم حسب المفهوم عرفاً من الآية وبإجماع المفسرين أيضاً وبشهادة التاريخ، ولا يمكن كونه اعتراضاً إلا إذا كان قد سَبَقَ من النبي صلى الله عليه واله وسلم تحريم الربا مع تحليل البيع فاعترضوا بانهما متماثلان فكيف تفرق بينهما في الحكم؟ وعليه: فقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) إخبار عن حكم سابق وليس إنشاء، فيكون مجملاً لإجمال ما أرجع إليه.
واعتبر ذلك بمن يذهب إلى الغرب – مثلاً – الآن فيقول لهم (الربا حرام) فانهم يعترضون بنفس هذا الاعتراض وان الربح الحاصل بالبيع كالربح الحاصل من الربا (وبالعكس) فلِمَ تحرّم هذا؟
وليست قرينة السياق
لا يقال: هذه قرينة السياق، وقد سبق انها ليست بحجة؟
إذ يقال: كلا، بل الاستدلال بالتسوية في قولهم (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) المستبطنة في داخلها (أو الكاشفة التزاماً عن) ان النبي صلى الله عليه واله وسلم لم يسوّ بينهما في الحكم لذا اعترضوا.
لا يقال: ذلك وإن صح إلا انه يراد الاستشهاد به وبسياقه على ان (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) إخبار وليس إنشاء؟
متى لا تكون قرينة السياق حجة ومتى تكون؟
إذ يقال: الاستدلال بالمفهوم عرفاً وليس بالسياق، سلّمنا، لكن السياق الذي سبق انه ليس بحجة هو السياق المخالف للظهورات لا الموافق لها فانه مؤيد حينئذٍ دون شك.
بيانه: ان الظهور السياقي قيل بانه أضعف الظهورات إلى درجة انه ليس حجة بما هو هو مستقلاً فإذا عارَضَ عمومَ عامٍ أو إطلاقَ مطلقٍ لم يسقطه عن عمومه أو إطلاقه لأنه أضعف منه وكذا لو عارض سائر الظهورات، فهذا هو المراد بان الظهور السياقي ليس بحجة، لكنه لو وافق ظهور العام([4]) وعضده كان مؤيداً حينئذٍ ولا بأس به، والمقام من هذا القبيل لأن ظاهر (أحلَّ) الإخبار دون الإنشاء وقد عضده السياق، فتدبر.
3- لاستحالة الإنشاء بعد الإنشاء
الثالث: ما سبق من استحالة الإنشاء بعد الإنشاء، وهذا مبني على إحراز تحريم الشارع قبل هذه الآية، للربا، اما بمراجعة التاريخ وترتيب نزول الآيات أو بقرينة التسوية في كلامهم، أو بالمفهوم عرفاً من الآية، فإذا كانت (أحلَّ...) إنشاء كانت إنشاءً بعد إنشاء وهو محال؛ لأن الإنشاء إيجاد فإذا أوجد الشيء استحيل إيجاده ثانية.
وقد أجبنا عن هذا الإشكال مفصّلاً في الدروس السابقة بوجوه عديدة فراجع([5]).
4- لأن الأصل في الفعل الماضي الإخبار
أقول: لكننا في غنى عن كل هذه القرائن في الاستدلال على ان الآية إخبار لا إنشاء إذ يكفي ان (أحلَّ) فعل ماض من باب الإفعال والأصل فيه انه إخبار والعدول للإنشاء بحاجة إلى قرينة وهي مفقودة وعهدتها على مدعيها، وما ذكر من القرائن مؤيد لهذا الأصل العام، فتدبر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام: ((أَغْنَى الْغِنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحِرْصِ أَسِيراً، وَقَالَ: لَا تُشْعِرُوا قُلُوبَكُمُ الِاشْتِغَالَ بِمَا قَدْ فَاتَ فَتَشْغَلُوا أَذْهَانَكُمْ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِمَا لَمْ يَأْتِ)) (الكافي: ج2 ص316).
---------------------------------------------
([1]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه/ البيع، مؤسسة الفكر الإسلامي – بيروت، ط/1، 1410هـ- 1989م، ج1 ص67.
([2]) سورة البقرة: آية 275.
([3]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه/ البيع، مؤسسة الفكر الإسلامي – بيروت، ط/1، 1410هـ- 1989م، ج1 ص67-68.
([4]) ونظائره.
([5]) راجع الدرس (224 إلى 231).
|