بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ,ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
كان الحديث حول الاشكالات التي يمكن ان تورد على الاحتياط ووصلنا الى الاشكالات العامة ومنها ان الادلة النقلية من ايات و روايات أمرتنا بالرجوع الى الروايات أو الى الرواة وبتعبير اخر انها امرت بالاجتهاد والتقليد مما يفهم منها التزاما عدم طريقية غيرهما كالاحتياط مثلاً ,واجبنا عن هذا الاشكال بعدة اجوبة.
اما مبحث اليوم فهو الوجه الثاني من وجوه الاشكال والجواب عنه، حيث كان الوجه الاول يعتمد على الحكم الوضعي والطريقية، اما هذا الوجه فيعتمد على الحكم التكليفي بوجوب التفقه ووجوب التقليد ,توضيح ذلك:انه قد يقال ان الاصل في الواجب ان يكون عينيا لا كفائيا وتعيينيا لا تخييرياً،ونفسيا لاغيريا طريقيا، وموطن الاستدلال هو الاصل الثاني وهو: ان الاصل في الوجوب عند الشك في كونه تعيينيا او تخييريا؛ هو كونه تعيينياً لا تخييرياً، وهذه هي الكبرى الكلية ومصداقها ما نحن فيه فالآية الشريفة امرت بـ(فليتفقهوا في الدين) وظاهر الآية الوجوب، والاصل ان يكون تعيينيا لا تخييريا، وكذلك الرواية (فللعوام ان يقلدوه) فان التخيير بين الاجٌتهاد والتقليد وبين الاحتياط خلاف الاصل فـ(اصالة التعيينية تنفيه).
وتحقيق الجواب عن هذه الشبهة يتوقف اجمالا على بيان تعريف الوجوب التخيري،وانه كيف استند اليه كأصل أي ما هو منشأ: "ان الاصل في الوجوب هو التعييني"، فان أصالة كون هذه الواجب واجبا تعينيا يتضح تنقيحها والاستدلال عليها بتعريف الوجوب التخيري فيثبت المطلوب في المقام, توضيح ذلك:ما هي حقيقة الوجوب التخييري؟ ان الاقوال فيه مختلفة ونحن نذكر عناوين الاقوال لنبرهن ان الاصل على جميع الاقوال هو التعيينية لا التخييرية، واما محاكمة الاقوال فيترك لمحله.
القول الاول: ان الوجوب التخييري "كخصال الكفارة"، هو نفس الوجوب التعيني"صلاة الظهر"، ولكن مع فارق ان الوجوب التخييري يسقط بامتثال غيره؛ وهذا على خلاف القاعدة لأن الفرض ان الامر بشيء يسقط بامتثاله لكن ان يسقط بامتثال غيره فهو خلاف الاصل , وفي المقام: الامر بـ(ليتفقهوا في الدين) يسقط بالتفقه، اما ان يسقط بامتثال غيره - وهو الاحتياط - فهو خلاف القاعدة؛ لأن القاعدة هي ان الامر "ليتفقهوا" يسقط بالاجتهاد، وان "للعوام ان يقلدوه" يسقط بالتقليد- وهو المأمور به-، ولا يسقط بامتثال غيره وهو الاحتياط في الفرض.
القول الثاني : ان الوجوب التخييري مآله الى وجوب احدهما او احدها، اي: وجوب الجامع الانتزاعي – كما ذهب اليه السيد الخوئي في المصباح-؛ لأن احدها ليست جامعا حقيقيا؛ لأنه ليس لها وجود في الخارج؛ لان ما في الخارج اما هذا بعينه أو هذا بعينه، اما الشيء المسمى بـ: احدها او احدهما، فغير موجود في الخارج، ويستحيل وجوده فان كل ما في الخارج فهو هو وليس غيره،فلا معنى للقول بان "احدهما " جامع حقيقي، وعلى هذا الراي فالامر ايضا واضح فهو خلاف الاصل، فعندما اوجب الشرع "ليتفقهوا في الدين" فان ننتزع من "ليتفقهوا" عنوان احدها او احدهما، مما يحتاج الى مؤنة زائدة , وذلك بان نثبت اولاً ان الاحتياط واجب، ثم ننتزع منه عنوان احدهما، فيلزم الدور هنا؛ لأن الفرض اننا نريد ان نثبت الاحتياط(1) بالجامع الانتزاعي، لكن الجامع الانتزاعي يثبت بالاحتياط – اي الوجوب التخييري للاحتياط - فيكون المثـبِـت هو المثـبـَت، وتوقف الشيء على نفسة غير ممكن , هذا هو الرأي الثاني مع التوضيح، وهو خلاف الظاهر وخلاف الاصل؛ لأن متعلق الامر هو: ليتفقهوا لا احد الامرين من التفقه او الاحتياط , فالامر على هذا القول واضح ايضاً.
القول الثالث : وهو رأي الاخوند وهو رأي دقيق ومفيد: ان الوجوب التخيري مآله الى احد امرين: اما ان يؤول الى وجود غرضين متباينين لا يمكن الجمع بينهما، وكلاهما مطلوب للمولى، فالمولى يأمر بهما تخييرا ولا يامر بهما تعيينا؛ لأن الفرض انه لا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال، فالعجز من قبل العبد،فلا يأمر بهما المولى لعلمه بعدم القدرة على الامتثال ولا يأمر باحدهما بعينه؛ لأنه ترجيح بلا مرجح؛ لأن الفرض: ان كليهما حامل لغرض تام الاقتضاء للمولى، فلذا يأمر بهما تخييرا، كما لو كان في السفرالى كربلاء المقدسة يوم الجمعة مصلحة ملزمة، وفي السفر الى الكاظمية المقدسة في نفس اليوم ونفس الساعة ايضاً مصلحة ملزمة، فيخير المولى عبده بينهما، وكذا في التخيير بين صلاة الظهر والجمعة، وكذا في خصال الكفارة،- ولا بخفى ان مثل خصال الكفارة بينها مانعة جمع، لوجود مشكلة خارجية وهي: ملاحظة مصلحة التسهيل على المكلف ، والا فهي بما هي هي لا مانعة جمع بينها-, هذا هو الشق الاول من كلام الاخوند من ان مآل الوجوب التخييري؛ اما الى وجود غرضيين متدافعين تامي الاقتضاء, وهذا خلاف الاصل بـ: " أن يكون في الاجتهاد غرض تام ومصلحة ملزمة، وان يكون في الاحتياط ايضا غرض تام ومصلحة ملزمة، ولكن يوجد بينهما تدافع فلذا يامر المولى تخييرا"،فكل هذا خلاف الاصل، فان وجود غرض ثاني خلاف الاصل، والتدافع بين الغرضين ايضا خلاف الاصل.
اما الاحتمال الاخر في وجود الواجب التخييري: فهو ان لا يكون هناك غرضان، وانما يكون الامر بأحدهما بملاك غرض واحد، وكذلك الامر بالآخر يكون بنفس هذا الملاك الذي يبعث على الامر بهذا القسيم كما يبعث على الامر بذاك القسيم، وحينئذ لو كان كذلك فان الجامع يكون في الحقيقة هو الواجب، وهذان هما فردا الواجب، فاذا كان هنا ملاك واحد فأمر المولى بهذا انطلاقا من هذا الملاك، وامر بذاك انطلاقا من الملاك نفسه، ففي الواقع يكون الواجب هو هذا الجامع، والتخيير بينهما عقليا في مقابل التخيير الشرعي(2) ، فلو تعلق الامر بالتفقه والاحتياط على سبيل البدل، فاننا نستكشف من تعلقه بالتفقه والاحتياط؛ ان الجامع هو المأمور به والتخيير بينهما عقلي, والوجوب التخييري على هذا يرد عليه نفس الاشكال السابق من انه خلاف الظاهر- فيما لو ثبت تعلق الامر بالاجتهاد وشك في التخيير بينه وبين الاحتياط للشك في تعلق الامر به-؛ لأن الامر تعلق بـ"ليتفقهوا" وليس بالجامع، فهو خلاف الظاهر، وخلاف الاصل ايضا؛ لأن تعلق الامر بالجامع مسبوق بالعدم فالاصل عدمه، واما تعلق الامر بالتفقه فصحيح انه كان مسبوقا بالعدم، لكنه نقض بيقين لاحق "ليتفقهوا" هذا اولا وثانيا يرد اشكال الدور السابق ايضا(3) .
اذن على حسب هذه المسالك الثلاث في الوجوب التخييري اتضح لنا: ان الوجوب التخييري بأي نحو كان، فانه خلاف الظاهر وخلاف الاصل، فيثبت ان (ليتفقهو) واجب بنحو الوجوب التعييني فلا قسيم ولا عديل له اسمه الاحتياط
ان قلت:هذا كله في الوجوب النفسي، أي اذا ثبت كون هذا الواجب نفسيا، وشك بين الوجوب التعييني والتخييري، فالتخييري خلاف الاصل كما اوضحناه، لكن لا يجري هذا الكلام لو كان الوجوب غيريا مقدميا، وما نحن فيه من هذا القبيل، توضيحه: هل وجوب التفقه نفسي او غيري - وكذلك التقليد -؟ فعلى المشهور كونه واجبا طريقيا فان التفقه مقدمة للامتثال فلو امكن الامتثال بلا تفقه كفى، وكذلك التقليد فهو واجب غيري، وهذا رأي المشهور على خلاف رأي المحقق الاردبيلي وقليل من الفقهاء، حيث ذهبوا الى الوجوب النفسي للتعلم اجتهادا كان أو تقليدا.
اذن هنا قولان فبناءا على ان الوجوب نفسي فهذا الاصل " اصالة التعيينية لا التخييرية " يجري فيكون التخيير خلاف الاصل, لكن ماذا لو قلنا بالوجوب الغيري ؟ فهل ايضا يجري هذا الاصل ام لا؟ قد يقال: نعم؛ لأن وجوب المقدمة يتبع وجوب ذيها -وجوب ظلي-فوجوب المقدمة منبعث عن وجوب ذيها وتابع لها فأن كان تعيينيا فتعييني أو تخييري فتخييري , وكلا الشقين ينبغي الجواب عنهما.
وقد ظهر الجواب مما مضى فلا نحتاج الى مؤنة؛ لأنا اثبتنا في الجواب الثالث؛ ان هذا القسيم (الاحتياط)هو ايضا مأمور به في الروايات، كما ان بناء العقلاء عليه وامضاء الشارع له بل عدم الردع عنه ايضا كاف كما تقدم، فعلى هذا فلا شك ان الاحتياط حسن مأمور به بالاعم من الوجوب او الندب واذا جاء الدليل فلا مجال للاصل حينئذ لأن اصالة التعينية اصل فأذا شككنا ان هذا الواجب (على التعريف الاول)مما يسقط بامتثال غيره أو لا؟ نقول كلا والاصل العدم ، لكن لو دل دليل اخر على ان القسيم الاخر ايضا حجة مجزئ فالامر يسقط بامتثال غيره هذا حسب التعريف الاول.
وحسب التعريف الثاني والتعريف الثالث للاخوند، فلا تجري حينئذٍ اصالة العدم و التعيينية؛ لأن الامر حيث تعلق بهما فنستكشف اما وجود غرضين متعاندين او نستكشف وجود غرض جامع، فبناءا على هذا نكون قد اثبتنا الوجوب التخييري ببركة ادلة اخرى على الاحتياط ,هذا لو قلنا بالنفسية في وجوب التعلم، واما لو قلنا بالغيرية فيكون لنا جوابان :
الاول :هو الذي مضى من وجود ادلة نقلية وعقلية على كون الاحتياط قسيما وبديلا ومحققا للغرض، الثاني: ان ذلك الاستدلال بـ:" ظلية وجوب المقدمة لذيها وتبعيتها" على خلاف مدعاكم ادل؛ لأنه حيث ان قد امر بذي المقدمة فاننا نستكشف ان الجامع بين المقدمات هو الواجب، وليس هذه المقدمة الخاصة، فالمقدمة لا موضوعية لها، انما تمام شأن مطلوبيتها هو مقدميتها، والكلي الطبيعي للمقدمات هو الجامع فيكون الوجوب تخييريا , اذن لا محالة يكون الوجوب بين انواع المقدمة هو من نوع الوجوب التخييري، بل لو ان الشارع امر باحد افراد المقدمة لدل ذلك على كونه ارشادا أو من باب انه افضل المصاديق ،ولم يدل على ذلك الانحصار كما في "ليتفقهوا"، اي: لم يدل ذلك على انحصار تحقق ذي المقدمة بهذه المقدمة الا على وجه المصلحة السلوكية التي هي خلاف الاصل وخلاف الفرض؛ لأن فرضنا هو ان التعلم مقدمي محض وعلى فرض كونه مقدميا فالوجوب هو التخييري لا مناص منه ,وتكملة الكلام تأتي ان شاء الله تعالى.وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين....
الهوامش ....................................................
(1) اي الوجوب التخييري للاحتياط.
(2) الفرق بينهما اصطلاحا هو ان متعلق الوجوب ان كان جامعا حقيقيا فالتخيير عقلي وان كان جامعا انتزاعيا فيكون التخيير شرعيا
(3) اذ يراد اثبات وجوب الاحتياط، باثبات وجوب الجامع الذي يراد اثباته بوجوب الاحتياط، وبعبارة اخرى: وجوب الجامع فرع ثبوت وجوب الاحتياط الى جوار وجوب الاجتهاد وبالعكس. |