بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(133)
التعبد في الصغرى لا يخل بكبروية الكبرى
سبق: (وعلى أيِّ فان التعبد في الصغرى – لو فرض – لا يخلّ بكبروية الكبرى. فتدبر)([1]) وتوضيحه:
ان الكبرى ((وَبِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ مِنْ جِهَةِ التَّسْلِيمِ كَانَ صَوَاباً)) هي كبرى كلية مبنية على ان التسليم بالأخذ بكلا المتعارضين، هو الصواب؛ فان المراد من (بأيهما) بلحاظ كونهما متعارضين؛ لوضوح انه لو سلم عدم تعارضهما وكونهما كلاماً واحداً وحكماً واحداً أشير إليه بعبارتين لما كان معنى للقول بـ(أيهما أخذت) لفرض انهما جميعاً يفيدان حكماً واحداً بل لما صح اعتبار الأخذ بأيهما تسليماً إذ التسليم إنما هو لدى التعارض اما مع كونهما متوافقين فليس الأخذ بواحد منهما من باب التسليم لما لا يعقل وجهه ويراه متضاداً بل من باب الحكم الشرعي الجاري مجرى القاعدة فان التسليم يستعمل فيما فيه شائبة إشكال كقوله (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)([2]).
واما الصغرى فتعبدية؛ لفرض ان (فَعَلَيْهِ التَّكْبِيرُ) و(فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامِ بَعْدَ الْقُعُودِ تَكْبِيرٌ) ليسا متعارضين عرفاً اما لأن (عليه...) ظاهر في الوجوب ويحتمل استحبابه و(ليس عليه) نص في عدم الجواز، واما لأن أحدهما عام والآخر خاص، ولو كان الإمام عليه السلام ساقهما مساق العام والخاص غير المتعارضين لقال بان هذا استثناء من الآخر وان المراد من العام ما عدا مورد الخاص فلا تضاد ولا اثنينية في الحكم كي يجيز لنا الأخذ بأيهما من باب التسليم([3])، أي انه لا توجد إرادة جدية للعام حينئذٍ في مورد الخاص فليس في مورده إلا دليل واحد هو الخاص والعام غير شامل له في مرحلة الإرادة الجدية، أصلاً، وهذا كله إن لم نقل بوجود قرائن تفيد كون هذا العام آبياً عن التخصيص فيكون معارضاً للخاص. فتدبر
تجربة مع العرف في الجمع الدلالي الأصولي
ثم اننا للاطمئنان على ما ادعيناه من ان العرف لا يرى جمعاً دلالياً ظاهراً بين (عليه) و(ليس عليه) وانه ليس كلما رأى الأصوليون انه جمع عرفي فهو كذلك، أجرينا تجربة مع من ألقي إليهم الكلام وهم (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ)([4]) لنرى هل انهم يرون الجمع الدلالي بحمل (عليه) على الاستحباب أو لا، فألقيت السؤال التالي على اربعة من عامة الناس وهو: (إذا بلغكم من أبيكم عبر شخصين خبران أحدهما نقل عنه انه قال: (عليك ان تذهب إلى المدرسة اليوم) وقال الآخر انه قال (ليس عليك ان تذهب إلى المدرسة اليوم) فماذا تصنعون؟ (ولم استخدم مصطلح متعارضين ولا أي مصطلح آخر) فقال أحدهم: القول الواصل أخيراً هو الملاك (وهذا يكشف عن انه يرى التعارض لذا اعتبر الثاني ناسخاً أو شبهه) وإلا لحمل (عليه) على (ليس عليه) فقال بالاستحباب ليتم الجمع بينهما، وقال الآخر: أرى التخيير (وهذا يدل على انه يرى التعارض أيضاً لذا خيّر بينهما) وقال الثالث: يختلف حسب اختلاف الموارد (والظاهر انه يقصد حسب المتعلق أو سائر القرائن، وهذا يعني انه لا يرى جمعاً دلالياً بين اللفظين بما هما هما) وقال الرابع: أرى إفادة (عليه) الاستحباب (وهذا الموافق لقول مشهور الاصوليين).
والشاهد: انه ليس هناك ظهور لدى العرف في الجمع الدلالي الذي ذكره الاصوليون في أشباه المقام.
إن قلت: لكن لا يرون صدق المتعارضين أيضاً؟.
قلت: يكفي صدق المختلفين الوارد في الأحاديث وإن لم يصدق المتعارضان، لبداهة اختلاف (عليه التكبير) مع (ليس عليه الكبير) بل التعارض صادق حسب ما رأى أكثر من سألناه كما سبق وإن لم يعبروا بهذا التعبير.
في طائفتي طهارة الكتابي ونجاسته نصوصٌ وظواهر
واما صغرى المقام وهي روايات الطهارة والنجاسة فقد سبق ان كلا الطرفين يتضمّن نصوصاً وظواهر فهي متعارضة.. ويكفي ان نلاحظ الروايتين التاليتين:
فان مما استدل به على النجاسة: (صحيحة سعيد الأعرج: أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن سؤر اليهودي والنصراني، أيؤكل أو يشرب؟ قال: «لا»([5])).
ومما استدل به على الطهارة: (موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره، إذا شرب منه على أنه يهودي؟ فقال: «نعم» فقلت: من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال: «نعم»([6])).
أقول: أولاً: لا ريب في ان (لا) و(نعم) متعارضان عرفاً وأنّ الأول نصّ في المنع والثاني نص في الجواز.
ثانياً: سلّمنا ان (لا) ظاهر في المنع وليس نصاً لاحتمال ان يراد به التنزيه، لكن (نعم) في الرواية المقابلة ظاهرة أيضاً في طهارة سؤر اليهودي وليست نصاً فيه وذلك لأن هناك احتمالاً آخر في الرواية وهو ان تفيد عدم انفعال الماء القليل بالملاقاة.
بعبارة أخرى: ان جواز الوضوء من سؤر اليهودي أعم من طهارته (كما هي([7]) مدعى الطرف الآخر) ومن نجاسته مع عدم انفعال الماء القليل بالنجاسة (فمع كونه نجساً إلا انه لا ينجّس الماء فيصح الوضوء منه) فالرواية، غاية الأمر، انها ظاهرة في طهارته فتكون كمعارضها فتدبر.
من روايات التخيير:
ثم ان من الروايات الدالة على التخيير أيضاً ما رواه الكليني في باب اختلاف الحديث في الصحيح عن: ((سماعة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ فِي أَمْرٍ كِلَاهُمَا يَرْوِيهِ، أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِأَخْذِهِ، وَالْآخَرُ يَنْهَاهُ عَنْهُ، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ: يُرْجِئُهُ حَتَّى يَلْقَى مَنْ يُخْبِرُهُ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ حَتَّى يَلْقَاهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ وَسِعَكَ))([8])
والإرجاء حسب الرواية الأولى، غير مخل بالمقصود للتصريح بانه في سعةٍ حتى يلقاه عليه السلام والسعة هي التخيير، واما الرواية الأخرى فهي صريحة فيه، على ان الثانية تصلح مفسرةَ للأولى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ خَلَائِقِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: الْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَإِعْطَاءُ مَنْ حَرَمَكَ)) (الكافي: ج2 ص107).
----------------------------------------------------
([1]) الدرس (132).
([2]) سورة النساء: آية 65.
([3]) إذاً فالحكم بتعارضها تعبدي.
([4]) سورة إبراهيم: آية 4.
([5]) الوسائل: ج16 ص384 الباب54 من أبواب الأطعمة المحرمة ح1.
([6]) الوسائل: ج1 ص165 الباب3 من أبواب الأسئار ح3.
([7]) أي الطهارة.
([8]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامي – طهران، ج1 ص66.
|