بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(132)
الإشكال على دعوى التخيير بين روايات الطهارة والنجاسة
سبق ان من محتملات الجمع بين روايات طهارة الكتابي ونجاسته: التخيير الواقعي والتخيير الظاهري، ولكن صِرف الاحتمال غير كافٍ لإثبات هذين الوجهين من الجمع، فلا بد من دليل من عالم الإثبات، نعم يكفي الاحتمال لردّ دعوى موهنية مخالفة الشهرة للإجماع إذ مع احتمال كون الحكمين واقعيين تخييراً أو كون أحدهما واقعياً والآخر ظاهرياً فلا إحراز لوهن الإجماع بوقوع الشهرة في مقابله غاية الأمر احتمال وهنه إذ الوهن إنما هو مع إحراز ان أحدهما باطل وانه لا حكم ظاهرياً ولا واقعياً. فتأمل
والحاصل: انه قد يستشكل على وجهي الجمع بإشكالين:
انه لا دليل عليها
أولاً: عدم وجود الدليل عليها.
وان لروايات النجاسة ثلاث مرجّحات
ثانياً: ان مقتضى القاعدة انه لا يصار إلى التخيير إلا بعد فقد المرجّحات، ولكنّ إخبار نجاسة الكتابي تتميز على اخبار طهارته بثلاث مرجّحات:
الأول: موافقتها للكتاب في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)([1]).
الثاني: مخالفتها للعامة، لأنهم يقولون بطهارة أهل الكتاب كما ذكره صاحب الحدائق.
الثالث: موافقة النجاسة للشهرة العظيمة التي كادت ان تكون إجماعاً بل هي كذلك.
الجواب: روايات التخيير دليل على التخيير
والجواب: عن الإشكال الأول: انه يستدل على التخيير بأخبار التخيير.
من فقه رواية (فَمُوَسَّعٌ عَلَيْكَ حَتَّى تَرَى الْقَائِمَ عجل الله تعالى فرجه الشريف )
ومنها: (ما رواه الشيخ الطبرسي في كتاب "الاحتجاج"، في احتجاج أبي عبد الله الصادق عليه السلام: ((عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قَالَ: إِذَا سَمِعْتَ مِنْ أَصْحَابِكَ الْحَدِيثَ، وَكُلُّهُمْ ثِقَةٌ، فَمُوَسَّعٌ عَلَيْكَ حَتَّى تَرَى الْقَائِمَ عجل الله تعالى فرجه الشريف ، فَتَرُدَّ إِلَيْهِ))([2]))
وهذه الرواية ظاهرها الحكم بالتخيير بمجرد التعارض، ولا يتوهم أجنبيتها عن التعارض؛ لوضوح([3]) ان روايات الأصحاب لو كانت متطابقة لوجب العمل بها ولا معنى للحكم بانه موسَّع عليه حينئذٍ، كما لا معنى للتوسعة حتى رؤية الإمام عليه السلام والردّ إليه فان ذلك إنما هو في صورة اختلاف الأصحاب والتحير لا في صورة اتفاقهم على رواية الحديث عنه عليه السلام.
و(الحديث) اسم جنس يشمل الواحد والأكثر وليس المراد به الحديث الواحد على انه لو أريد لما أضرّ إذ كان لا بشرط بالنسبة للزائد، كما لو كان في كل طرف أحاديث عديدة، بل هو أولى إذ تعارض طائفتين مشتملين على روايات كثيرة أولى بان يوسّع فيهما على المكلف بالتخيير بينهما من تعارض طائفتين كل منها مشتملة على رواية واحدة، والحاصل ان المفهوم عرفاً ان الحديث يراد بها جنسه، ولو أريد به الفرد فان المفهوم عرفاً انه لوحظ لا بشرط عن الزائد لا بشرط لا.
نعم يبقى ان قوله (موسَّع عليك) قد يستظهر منه التخيير الظاهري – وهو الوجه الثاني الماضي لا التخيير الواقعي، على ان اللفظ صالح له إذ السعة في كليهما ثابتة لكن ظاهر مجموع الجملة ((فَمُوَسَّعٌ عَلَيْكَ حَتَّى تَرَى الْقَائِمَ عجل الله تعالى فرجه الشريف ، فَتَرُدَّ إِلَيْهِ)) هو التخيير الظاهري إذ مع كونه واقعياً لا حاجة للرد إليه عليه السلام فانه يكون حينئذٍ كخصال الكفارة. فتدبر
من فقه رواية (فَمُوَسَّعٌ عَلَيْكَ بِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ)
ومنها: (ما رواه عن الحسن بن الجهم، عن الرضا عليه السلام، وفي آخره: ((قُلْتُ: يَجِيئُنَا الرَّجُلَانِ وَكِلَاهُمَا ثِقَةٌ، بِحَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَلَا نَعْلَمُ أَيُّهُمَا الْحَقُّ، فَقَالَ: إِذَا لَمْ تَعْلَمْ، فَمُوَسَّعٌ عَلَيْكَ بِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ))([4])) وفرق هذه الرواية عن سابقتها في تصريحها بـ(بِحَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ) وفي انه وردت فيها إضافة (فَلَا نَعْلَمُ أَيُّهُمَا الْحَقُّ) فانه إذا علم ان أحدهما حق والآخر لا فلا وجه للتخيير، لكن هذا لا يشكل خصوصية لهذه الرواية إذ ان (فَلَا نَعْلَمُ أَيُّهُمَا الْحَقُّ) قيد مستبطن في الرواية السابقة ارتكازاً أيضاً؛ لبداهة انه مع العلم بان أحدهما حق والآخر باطل – ككونه تقية أو شبه ذلك – لا وجه للسؤال ثم لا وجه للتوسعة، وفي المقام: نحن لا نعلم ان اخبار طهارة أهل الكتاب هي الحق أم النجاسة فنحن مخيرون – ظاهرياً – حسب قوله عليه السلام، نعم من علم فالحجة عليه هو ما علمه، لكنه لا ينفي تخيير غيره.
من فقه رواية (وَبِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ مِنْ جِهَةِ التَّسْلِيمِ كَانَ صَوَاباً)
ومنها: (ما رواه في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله الحميري إلى صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف : ((يَسْأَلُنِي بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمُصَلِّي إِذَا قَامَ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَبِّرَ؟ فَإِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْبِيرُ، وَيُجْزِيهِ أَنْ يَقُولَ: بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ أَقُومُ وَأَقْعُدُ.
فِي الْجَوَابِ إِنَّ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:
أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَإِنَّهُ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى فَعَلَيْهِ التَّكْبِيرُ.
وَأَمَّا الْآخَرُ: فَإِنَّهُ رُوِيَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فكَبَّرَ، ثُمَّ جَلَسَ، ثُمَّ قَامَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامِ بَعْدَ الْقُعُودِ تَكْبِيرٌ، وَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى.
وَبِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ مِنْ جِهَةِ التَّسْلِيمِ كَانَ صَوَاباً))([5])).
أقول: يستدل بالروايات الثلاث وبغيرها مما سيأتي، على التخيير لدى التعارض ابتداءً أي من غير رجوع إلى المرجّحات حتى المنصوصة، على ما اختاره الآخوند، وسيأتي الكلام حوله.
التخيير حتى مع وجود الجمع الدلالي الأصولي
كما يستدل بالرواية الأخيرة على التخيير لدى التعارض حتى لدى وجود الجمع الدلالي الأصولي، ولكن مادام ليس جمعاً عرفياً ظاهراً لدى العرف، توضيحه:
ان الجمع تارة يكون عرفياً ظاهراً كالجمع بين الخاص والعام، إذ يرى العرف بوضوح ومن غير توقف تقدم الخاص على العام بالأظهرية بل بالورود على الإرادة الجدية للعام، على رأي، وأخرى يكون عرفياً على حسب ما يراه بعض الأصوليين لكن الرجوع إلى العرف يشهد بانه يرى التعارض بينهما فالمرجع ههنا العرف لا قول الاصولي، ومنه المقام إذ قوله (فَعَلَيْهِ التَّكْبِيرُ) عرفاً متعارض مع (فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامِ بَعْدَ الْقُعُودِ تَكْبِيرٌ) ولا يرى العرف ما ذكره بعض الأصوليين هنا وفي أشباه المقام من ان (فَعَلَيْهِ...) ظاهر في الوجوب اما (فَلَيْسَ عَلَيْهِ...) فنص في عدمه فيحمل الظاهر على النص فيكون المراد من (فَعَلَيْهِ...) استحبابه..
وهذا الحمل وإن كان مأنوساً لدى الطلاب لكثرة ما سمعوا أمثاله من الأصوليين لكن العرف هو المرجع في الظهورات إذ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ)([6]) والظاهر انه يرى التعارض أي انه يرى كليهما نصاً.
سلّمنا، لكنّ كلام الإمام عليه السلام شاهد على ان المقام من تعارض النصين، ولا فرق في ذلك بين عودته لتشخيصه نظر العرف وتخطئتنا في تشخيص نظرهم، أو لحكمه بذلك تعبداً بتنزيل الظاهر منزلة النص، وعلى أيِّ فان التعبد في الصغرى – لو فرض – لا يخلّ بكبروية الكبرى. فتدبر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام: ((إِنْ أُجِّلْتَ فِي عُمُرِكَ يَوْمَيْنِ؛ فَاجْعَلْ أَحَدَهُمَا لِأَدَبِكَ لِتَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى يَوْمِ مَوْتِكَ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تِلْكَ الِاسْتِعَانَةُ؟ قَالَ: تُحْسِنُ تَدْبِيرَ مَا تُخَلِّفُ وَتُحْكِمُهُ))
(الكافي: ج8 ص150).
---------------------------------------------------
([1]) سورة التوبة: آية 28.
([2]) أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد، 1403هـ، ج2 ص357.
([3]) دفع للتوهم.
([4]) أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد، 1403هـ، ج2 ص357.
([5]) أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد، 1403هـ، ج2 ص483.
([6]) سورة إبراهيم: آية 4.
|